القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَىَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } . .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا يكبرنّ عليك إعراض هؤلاء المعرضين عنك وعن الاستجابة لدعائك إذا دعوتهم إلى توحيد ربهم والإقرار بنبوّتك ، فإنه لا يستجيب لدعائك إلى ما تدعوه إليه من ذلك إلا الذين فتح الله أسماعهم للإصغاء إلى الحقّ وسهّل لهم اتباع الرشد ، دون من ختم الله على سمعه فلا يفقه من دعائك إياه إلى الله وإلى اتباع الحقّ إلا ما تفقه الأنعام من أصوات رعاتها ، فهم كما وصفهم به الله تعالى : { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } . { والمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ } يقول : والكفار يبعثهم الله مع الموتى ، فجعلهم تعالى ذكره في عداد الموتى الذين لا يسمعون صوتا ولا يعقلون دعاء ولا يفقهون قولاً ؛ إذ كانوا لا يتدبرون ححج الله ولا يعتبرون آياته ولا يتذكرون فينزجروا عما هم عليه من تكذيب رسل الله وخلافهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون للذكر . والمَوْتَى : الكفار ، حين يَبْعَثُهُمُ اللّهُ مع الموتى .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } قال : هذا مثل المؤمن سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله ، والذين كذّبوا بآياتنا صمّ وبكم ، وهذا مثل الكافر أصمّ أبكم ، لا يبصر هدى ولا ينتفع به .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن سفيان الثوريّ ، عن محمد بن جحادة ، عن الحسن : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ } : المؤمنون . والمَوْتَى قال : الكفار .
حدثني ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن محمد بن جحادة ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : { إنّما يَسْتَجِيبُ الّذِينَ يَسْمَعُونَ والمَوْتَى يَبْعَثُهُمْ اللّهُ } قال : الكفار .
وأما قوله : { ثُمّ إلَيْهِ يُرْجَعُونَ } فإنه يقول تعالى : ثم إلى الله يرجعون ، المؤمنون الذين استجابوا لله والرسول ، والكفار الذين يحول الله بينهم وبين أن يفقهوا عنك شيئا ، فيثيب هذا الؤمن على ما سلف من صالح عمله في الدنيا بما وعد أهل الإيمان به من الثواب ، ويعاقب هذا الكافر بما أوعد أهل الكفر به من العقاب ، لا يظلم أحدا منهم مثقال ذرّة .
تعليل لما أفاده قوله : { وإنْ كان كَبُر عليك إعراضهم إلى قوله فلا تكوننّ من الجاهلين } [ الأنعام : 35 ] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم ، أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع .
ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يؤمىء إلى إرجاء بعد تأييس بأنّ الله جعل لقوم آخرين قلوباً يفقهون بها وآذاناً يسمعون بها فأولئك يستجيبون .
وقوله : { يستجيب } بمعنى يجيب ، فالسين والتاء زائدان للتأكيد ؛ وقد تقدّم الكلام على هذا الفعل عند قوله تعالى : { فاستجاب لهم ربّهم } في سورة [ آل عمران : 195 ] . وحذف متعلّق { يستجيب } لظهوره من المقام لأنّ المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وتصديق الرسول .
ومعنى { يسمعون } ، أنّهم يفقهون ما يلقى إليهم من الإرشاد لأنّ الضالّين كمن لا يسمع . فالمقصود سمع خاصّ وهو سمع الاعتبار .
أمّا قوله : { والموتى يبعثهم الله } فالوجه أنّه مقابل لِ { الذين يسمعون } . ولذلك حسن عطف هذه الجملة على جملة : { إنما يستجيب الذين يسمعون } . فمعنى الكلام : وأمّا المعرضون عنك فهم مثل الموتى فلا يستجيبون ، كقوله : { إنّك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] . فحذف من الكلام ما دلّ عليه السياق ، فإنّ الذي لا يسمع قد يكون فقدان سمعه من علّة كالصمم ، وقد يكون من عدم الحياة ، كما قال عبد الرحمان بن الحكم الثقفي :
لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً *** ولكن لا حياة لمنْ تنادي
فتضمّن عطف { والموتى يبعثهم الله } تعريضاً بأنّ هؤلاء كالأموات لا ترجى منهم استجابة . وتخلّص إلى وعيدهم بأنّه يبعثهم بعد موتهم ، أي لا يرجى منهم رجوع إلى الحقّ إلى أن يبعثوا ، وحينئذٍ يلاقون جزاء كفرهم . { والموتى } استعارة لمن لا ينتفعون بعقولهم ومواهبهم في أهمّ الأشياء ، وهو ما يُرضي الله تعالى . و { يبعثهم } على هذا حقيقة ، وهو ترشيح للاستعارة ، لأنّ البعث من ملائمات المشبّه به في العرف وإن كان الحي يخبر عنه بأنه يبعث ، أي بعد موته ، ولكن العرف لا يذكر البعث إلاّ باعتبار وصف المبعوث بأنّه ميّت .
ويجوز أن يكون البعث استعارة أيضاً للهداية بعد الضلال تبعاً لاستعارة الموت لعدم قبول الهدى على الوجهين المعروفين في الترشيح في فن البيان من كونه تارة يبقى على حقيقته لا يقصد منه إلاّ تقوية الاستعارة ، وتارة يستعار من ملائم المشبّه به إلى شبهه من ملائم المشبّه ، كقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } [ آل عمران : 103 ] . فيكون على هذا الوجه في الكلام وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بأنّ بعض هؤلاء الضالّين المكذّبين سيهديهم الله تعالى إلى الإسلام ، وهم من لم يسبق في علمه حرمانهم من الإيمان .
فعلى الوجه الأول يكون قوله { ثم إليه يُرْجعون } زيادة في التهديد والوعيد . وعلى الوجه الثاني يكون تحريضاً لهم على الإيمان ليلقوا جزاءه حين يُرجعون إلى الله . ويجوز أن يكون الوقف عند قوله تعالى : { يبعثهم الله } . وتمّ التمثيل هنالك . ويكون قوله : { ثم إليه يرجعون } استطراداً تُخلّص به إلى قرع أسماعهم بإثبات الحشر الذي يقع بعد البعث الحقيقي ، فيكون البعث في قوله : { يبعثهم الله } مستعملاً في حقيقته ومجازه . وقريب منه في التخلّص قوله تعالى : { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } في سورة [ البقرة : 73 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.