القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لّيَكُونُنّ أَهْدَىَ مِنْ إِحْدَى الاُمَمِ فَلَمّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مّا زَادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً * اسْتِكْبَاراً فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السّيّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السّيّىءُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاّ سُنّةَ آلأوّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَحْوِيلاً } .
يقول تعالى ذكره : وأقسم هؤلاء المشركون بالله جهد أيمانهم يقول : أشدّ الإيمان ، فبالغوا فيها ، لئن جاءهم من الله مُنذر ينذرهم بأس الله لَيَكُونُنّ أهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمِ يقول : ليكونُنّ أسلك لطريق الحقّ ، وأشدّ قبولاً لِما يأتيهم به النذير من عند الله ، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني بالنذير : محمدا صلى الله عليه وسلم ، يقول : فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ما زَادَهُمْ إلاّ نُفُورا يقول : ما زادهم مجِيء النذير من الإيمان بالله واتباع الحقّ ، وسلوك هدى الطريق ، إلاّ نفورا وهربا .
الضمير في قوله { أقسموا } لكفار قريش ، وذلك أنه روي أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تأخذ على اليهود والنصارى في تكذيب بعضهم بعضاً وتقول لو جاءنا نحن رسول لكنا أهدى من هؤلاء وهؤلاء ، و { جهد أيمانهم } منصوب على المصدر ، أي بغاية اجتهادهم ، و { إحدى الأمم } يريد اليهود والنصارى ، و «النفور » البعد عن الشيء والفزع منه والاستبشاع له .
هذا شيء حكاه القرآن عن المشركين فهو حكاية قول صدر عنهم لا محالة ، ولم يروَ خبر عن السلَف يعين صدور مقالتهم هذه ، ولا قائلها سوى كلام أثر عن الضحاك هو أشبه بتفسير الضمير من { أقسموا } ، وتفسير المراد { من إحدى الأمم } ولم يقل إنه سبب نزول .
وقال كثير من المُفسرين : إن هذه المقالة صدرت عنهم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لمَّا بلغهم أن اليهود والنصارى كذَّبوا الرسل . والذي يلوح لي : أن هذه المقالة صدرت عنهم في مجاري المحاورة أو المفاخرة بينهم وبين بعض أهل الكتاب ممن يقدم عليهم بمكة ، أو يقدمون هم عليهم في أسفارهم إلى يثرب أو إلى بلاد الشام ، فربما كان أهل تلك البلدان يدعون المشركين إلى اتباع اليهودية أو النصرانية ويصغرون الشرك في نفوسهم ، فكان المشركون لا يجرأون على تكذيبهم لأنهم كانوا مرموقين عندهم بعين الوقار إذ كانوا يفضُلُونهم بمعرفة الديانة وبأنهم ليسوا أميين وهم يأبون أن يتركوا دين الشرك فكانوا يعتذرون بأن رسول القوم الذين يدعونهم إلى دينهم لم يكن مرسلاً إلى العرب ولو جاءنا رسول لكنا أهدى منكم ، كما قال تعالى : { أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 157 ] . والأظهر أن يكون الداعون لهم هم النصارى لأن الدعاء إلى النصرانية من شعار أصحاب عيسى عليه السلام فإنهم يقولون : إن عيسى أوصاهم أن يرشدوا بني الإِنسان إلى الحق وكانت الدعوة إلى النصرانية فأشبه في بلاد العرب أيام الجاهلية وتنصرت قبائل كثيرة مثل تغلب ، ولخم ، وكلب ، ونجران ، فكانت هذه الدعوة إن صح إِيصَاء عيسى عليه السلام بها دعوةَ إرشاد إلى التوحيد لا دعوة تشريع ، فإذا ثبتت هذه الوصية فما أراها إلا توطئة لدين يجيء تعمّ دعوته سائر البشر ، فكانت وصيته وسطاً بين أحوال الرسل الماضين إذ كانت دعوتهم خاصة وبين حالة الرسالة المحمدية العامة لكافة الناس عزماً .
أما اليهود فلم يكونوا يدعون الناس إلى اليهودية ولكنهم يقبلون من يتهود كما تهود عرب اليمن .
وأحسب أن الدعوة إلى نبذ عبادة الأصنام ، أو تشهير أنها لا تستحق العبادة ، لا يخلو عنها علماءُ موحِّدون ، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون بعض النصاح من أحبار يهود يثرب يعرض لقريش إذا مروا على يثرب بأنهم على ضلال من الشرك فيعتذرون بما في هذه الآية . وهي تساوق قوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة } [ الأنعام : 155 157 ] .
فيتضح بهذا أن هذه الآية معطوفة على ما قبلها من أخبار ضلال المشركين في شأن الربوبية وفي شأن الرسالة والتديّن ، وأن ما حكي فيها هو من ضلالاتهم ومجازفتهم .
والقَسَم بين أهل الجاهلية أكثره بالله ، وقد يقسمون بالأصنام وبآبائهم وعَمرهم .
والغالب في ذلك أن يقولوا : باللات والعزى ، ولذلك جاء في الحديث : " مَن حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " أي من جرى على لسانه ذلك جريَ الكلام الغالب وذلك في صدر انتشار الإِسلام .
وجَهد اليمين : أبلغها وأقواهَا . وأصله من الجَهد وهو التعب ، يقال : بلغ كذَا مِنِّي الجَهد ، أي عملته حتى بلغ عملُه مني تعبي ، كناية عن شدة عزمه في العمل . فَجهْد الأيمان هنا كناية عن تأكيدها ، وتقدم نظيره في قوله تعالى : { أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } في سورة [ العقود : 53 ] ، وتقدم في سورة الأنعام وسورة النحل وسورة النور .
وانتصب { جهد } على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأنه صفة لِما كان حقه أن يكون مفعولاً مطلقاً وهو { أيمانهم } إذ هو جمع يمين وهو الحلف فهو مرادف ل { أقَسموا } ، فتقديره : وأقسموا بالله قسماً جهداً ، وهو صفة بالمصدر أضيفت إلى موصوفها .
وجملة { لئن جاءهم نذير } الخ بيان لجملة { أقسموا } كقوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم الآية } [ طه : 120 ] .
وعبر عن الرسول بالنذير لأن مجادلة أهل الكتاب إياهم كانت مشتملة على تخويف وإنذار ، ولذلك لم يقتصر على وصف النذير في قوله تعالى : { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } [ المائدة : 19 ] . وهذا يرجح أن تكون المجادلة جرت بينهم وبين بعض النصارى لأن الإِنجيل معظمه نذارة .
و { إحدى الأمم } أمة من الأمم ذات الدين ؛ فإن عنوا بها أمة معروفة : إمّا الأمة النصرانية ، وإما الأمة اليهودية ، أو الصابئة كان التعبير عنها ب { إحدى الأمم } إبهاماً لها يحتمل أن يكون إبهاماً من كلام المقسمين تجنباً لمجابهة تلك الأمة بصريح التفضيل عليها ، ويحتمل أن يكون إبهاماً من كلام القرآن على عادة القرآن في الترفع عما لا فائدة في تعيينه إذ المقصود أنهم أشهدوا الله على أنهم إن جاءهم رسول يكونوا أسبق من غيرهم اهتداء فإذا هم لم يشموا رائحة الاهتداء . ويحتمل أن يكون فريق من المشركين نظَّروا في قَسَمهم بهدي اليهود ، وفريق نظَّروا بهدي النصارى ، وفريق بهدي الصابئة ، فجَمعت عبارة القرآن ذلك بقوله : { من إحدى الأمم } ليأتي على مقالة كل فريق مع الإِيجاز .
وذكر في « الكشاف » وجهاً آخر أن يكون { إحدى الأمم } بمعنى أفضل الأمم ، فيكون من تعبير المقسمين ، أي أهدى من أفضل الأمم ، ولكنه بناه على التنظير بما ليس له نظير ، وهو قولهم : إحدى الإِحَد ( بكسر الهمزة وفتح الحاء في الإِحَد ) ولا يتم التنظير لأن قولهم : إحدى الإِحَد ، جرى مجرى المثل في استعظام الأمر في الشرّ أو الخير .
وقرينة إرادة الاستعظام إضافة « إحدى » إلى اسم من لفظها فلا يقتضي أنه معنى يراد في حالة تجرد { إحدى } عن الإضافة .
وبين : { أهدى } و { إحدى } الجناس المحرِّف .
وهذه الآية وغيرها وما يؤثر من تنصُّر بعض العرب ومن اتساع بعضهم في التحنف يدل على أنهم كانوا يعلمون رسالة الرسل ، وأما ما حكي عنهم في قوله تعالى : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ، فذلك صدر منهم في الملاجّة والمحاجّة لما لزمتهم الحجة بأن الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا من البشر وكانت أحوالهم أحوال البشر مثل قوله تعالى : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [ الفرقان : 20 ] فلجأوا إلى إنكار أن يوحي الله إلى بشر شيئاً .
وأما ما حكي عنهم هنا فهو شأنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم .
والنذير : المنذر بكلامه . فالمعنى : فلما جاءهم رسول وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن جاءهم رسول قبله كما قال تعالى : { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } [ القصص : 46 ] وهذا غير القسم المحكي في قوله تعالى : « وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها » .
والزيادة : أصلها نماء وتوفر في ذوات . وقد يراد بها القوة في الصفات على وجه الاستعارة كقوله تعالى : { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [ التوبة : 125 ] . ومن ثمة تطلق الزيادة أيضاً على طروّ حال على حال ، أو تغيير حال إلى غيره كقوله تعالى : { فلن نزيدكم إلا عذاباً } [ النبأ : 30 ] .
وتطلق على ما يطرأ من الخير على الإِنسان وإن لم يكن نوعه عنده من قبل كقوله تعالى : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ، أي وعطاء يزيد في خيرهم .
ولما كان مجيء الرسول يقتضي تغير أحوال المرسل إليهم إلى ما هو أحسن كان الظنّ بهم لَمَّا أقسموا قسمهم ذلك أنهم إذا جاءهم النذير اهتَدوا وازدَادُوا من الخير أن كانوا على شأن من الخير فإن البشر لا يخلو من جانب من الخير قوي أو ضعيف فإذا بهم صاروا نافرين من الدين الذي جاءهم .
والاستثناء مفرع من مفعول { زادهم } المحذوف ، أي ما أفادهم صلاحاً وحالاً أو نحو ذلك إلا نفوراً فيكون الاستثناء في قوله : { إلا نفوراً } من تأكيد الشيء بما يُشبه ضده لأنهم لم يكونوا نافرين من قبل .
ويحتمل أن يكون المراد أنهم لما أقسموا : { لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى } كان حالهم حال النفور من قبول دعوة النصارى إياهم إلى دينهم أو من الاتعاظ بمواعظ اليهود في تقبيح الشرك فأقسموا ذلك القسم تفصياً من المجادلة ، وباعثهم عليه النفور من مفارقة الشرك ، فلما جاءهم الرسول ما زادهم شيئاً وإنما زادهم نفوراً ، فالزيادة بمعنى التغيير والاستثناء تأكيد للشيء بما يشبه ضده .
والنفور هو نفورهم السابق ، فالمعنى لم يزدهم شيئاً وحَالهم هي هي .
وضمير { زادهم } عائد إلى رسول أو إلى المجيء المأخوذ من { جاءهم } . وإسناد الزيادة إليه على كلا الاعتبارين مجاز عقلي لأن الرسول أو مجيئه ليس هو يزيدهم ولكنه سبب تقوية نفورهم أو استمرار نفورهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأقسموا بالله} يعني كفار مكة في الأنعام حين قالوا: {لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام:157].
{جهد أيمانهم} بجهد الأيمان {لئن جاءهم نذير} يعني رسولا.
{ليكونن أهدى من إحدى الأمم} يعني من اليهود والنصارى.
{فلما جاءهم نذير} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {ما زادهم إلا نفورا} ما زادهم الرسول ودعوته إلا تباعدا عن الهدى عن الإيمان.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأقسم هؤلاء المشركون بالله "جهد أيمانهم "يقول: أشدّ الإيمان، فبالغوا فيها، لئن جاءهم من الله مُنذر ينذرهم بأس الله "لَيَكُونُنّ أهْدَى مِنْ إحْدَى الأُمَمِ" يقول: ليكونُنّ أسلك لطريق الحقّ، وأشدّ قبولاً لِما يأتيهم به النذير من عند الله، من إحدى الأمم التي خلت من قبلهم. "فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ" يعني بالنذير: محمدا صلى الله عليه وسلم، يقول: فلما جاءهم محمد ينذرهم عقاب الله على كفرهم...
وقوله: "ما زَادَهُمْ إلاّ نُفُورا" يقول: ما زادهم مجِيء النذير من الإيمان بالله واتباع الحقّ، وسلوك هدى الطريق، إلاّ نفورا وهربا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
العرب كان من عادتهم أنهم كانوا يحلفون بالآباء والطواغيت، لا يحلفون بالله إلا في ما عظُم أمره، وجل قدره، تأكيدا لذلك كان قسمهم بالله جهد إيمانهم في ما تقدم.
{لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} فيه دلالة أنهم قد وقعت لهم الحاجة، ومسّتهم الضرورة إلى رسول، يبين لهم أمر الدين وما مصالحهم؟ وما لهم وما عليهم؟ حين أقسموا، وعاهدوه أنهم لو جاءهم نذير لاتبعوه، واقتدوا به. ثم تركهم لذلك العهد، لما لم يروه أهلا لذلك، لما كان هو دونهم في أمر الدنيا، استكبارا منهم عليه، ولذلك قالوا: {لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} [الزخرف: 31]، وإن تركوا اتباعهم، نقضوا عهدهم لمّا رأوا مذاهب الناس مختلفة، فظنوا أن الاختلاف يرفع من بينهم به، فإن لم يرتفع تركوا اتباعه، أو لمعنى آخر لا نعلمه.
{ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم}... جائز أن يكونوا أرادوا بذلك الأمم جميعا، لكنهم لم يروا الحق إلا لواحدة منها، فقالوا: {ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس لقولهم تحقيق، ولا لِعَهدْهِم وضمانهم توثيق، وما يَعِدُون من أَنفسهم فصريحُ زُورٍ، وما يُوهِمُون مِنْ وفائهم فَصِرْفُ تغريرٍ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«النفور»... الفزع منه والاستبشاع له...
لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه؛ حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلا وقالوا: إنما نكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم لكونه كاذبا، ولو تبين لنا كونه رسولا لآمنا كما قال تعالى عنهم: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها}، وهذا مبالغة منهم في التكذيب، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئا علي لقضيته وزدت له، إظهارا لكونه مطالبا بالباطل، فكذلك ههنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم، فلما جاءهم نذير أي محمد صلى الله عليه وسلم جاءهم؛ أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفورا، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا، بعد الرسالة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فقالوا: إنا لا ندعي أنهم خلقوا شيئاً من السماوات ولا من الأرض، ونحن مقرون بأنه لا يمسك السماوات والأرض إلا الله، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، كما كان يفعل آباؤنا، ولولا أن لهم على ذلك دليلاً ما فعلوه، عطف عليه قوله مبيناً ضلالهم في تكذيبهم الرسل بعد ما ظهر من ضلالهم في إشراكهم بالمرسل وهو يمهلهم ويرزقهم دليلاً على حلمه مع علمه: {وأقسموا} أي كفار مكة {بالله} أي الذي لا عظيم غيره {جهد أيمانهم} أي بغاية ما يقدرون عليه من الأيمان...
ولما أخبر عن قسمهم، حكى معنى ما أقسموا عليه دون لفظه بقوله: {لئن جاءهم} وعبر بالسبب الأعظم للرسالة فقال: {نذير} أي من عند الله {ليكونن} أي الكفار {أهدى} أي أعظم في الهدى {من إحدى} أي واحدة من {الأمم} أي السالفة أو من الأمة التي لم تكن في الأمم التي جاءتها النذر أهدى منها، قال أبو حيان: كما قالوا هو أحد الأحدين، وهي إحدى الأحد، يريدون التفضيل في الدهاء والعقل. لأنهم أحد أذهاناً وأقوم لساناً وأعظم عقولاً، وألزم لما يدعو إليه العقل، وأطلب لما يشهد بالفضل، وأكدوا بالقسم لأن الناظر لتكذيب أهل العلم بالكتاب يكذبهم في دعوى التصديق قياساً أخروياً، ودل على إسراعهم في الكذب بالفاء فقال: {فلما جاءهم نذير} أي على ما شرطوا وزيادة، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يشهدون أنه خيرهم مع كونه خيرهم نفساً وأشرفهم نسباً وأكرمهم في كل خلق أماً وأباً، وأمتنهم في كل مأثرة سبباً {ما زادهم} أي مجيئه شيئاً مما هم عليه من الأحوال {إلا نفوراً} أي لأنه كان سبباً في زيادتهم في الكفر كالإبل التي كانت نفرت من ربها فضلت عن الطريق فدعاها فازدادت بسبب دعائه نفرة، فأعرقت في الضلال فصارت بحيث يتعذر أو يتعسر ردها فتبين أنه لا عهد لهم مع ادعائهم أنهم أوفى الناس، ولا صدق عندهم مع جزمهم بأنهم أصدق الخلق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{إحدى الأمم} أمة من الأمم ذات الدين؛ فإن عنوا بها أمة معروفة: إمّا الأمة النصرانية، وإما الأمة اليهودية، أو الصابئة كان التعبير عنها ب {إحدى الأمم} إبهاماً لها؛ يحتمل أن يكون إبهاماً من كلام المقسمين تجنباً لمجابهة تلك الأمة بصريح التفضيل عليها، ويحتمل أن يكون إبهاماً من كلام القرآن على عادة القرآن في الترفع عما لا فائدة في تعيينه، إذ المقصود أنهم أشهدوا الله على أنهم إن جاءهم رسول يكونوا أسبق من غيرهم اهتداء فإذا هم لم يشموا رائحة الاهتداء، ويحتمل أن يكون فريق من المشركين نظَّروا في قَسَمهم بهدي اليهود، وفريق نظَّروا بهدي النصارى، وفريق بهدي الصابئة، فجَمعت عبارة القرآن ذلك بقوله: {من إحدى الأمم} ليأتي على مقالة كل فريق مع الإِيجاز...
وهذه الآية وغيرها وما يؤثر من تنصُّر بعض العرب ومن اتساع بعضهم في التحنف يدل على أنهم كانوا يعلمون رسالة الرسل، وأما ما حكي عنهم في قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء} [الأنعام: 91]، فذلك صدر منهم في الملاجّة والمحاجّة لما لزمتهم الحجة بأن الرسل من قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا من البشر وكانت أحوالهم أحوال البشر مثل قوله تعالى: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} [الفرقان: 20] فلجأوا إلى إنكار أن يوحي الله إلى بشر شيئاً، وأما ما حكي عنهم هنا فهو شأنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم...
والزيادة: أصلها نماء وتوفر في ذوات، وقد يراد بها القوة في الصفات على وجه الاستعارة كقوله تعالى: {فزادتهم رجساً إلى رجسهم} [التوبة: 125]، ومن ثمة تطلق الزيادة أيضاً على طروّ حال على حال، أو تغيير حال إلى غيره كقوله تعالى: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ: 30]، وتطلق على ما يطرأ من الخير على الإِنسان وإن لم يكن نوعه عنده من قبل كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26]، أي وعطاء يزيد في خيرهم.
ولما كان مجيء الرسول يقتضي تغير أحوال المرسل إليهم إلى ما هو أحسن؛ كان الظنّ بهم لَمَّا أقسموا قسمهم ذلك أنهم إذا جاءهم النذير اهتَدوا وازدَادُوا من الخير أن كانوا على شأن من الخير، فإن البشر لا يخلو من جانب من الخير قوي أو ضعيف فإذا بهم صاروا نافرين من الدين الذي جاءهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذا التعبير يدلّل على أنّهم كانوا قبل بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى خلاف ما يدّعون بعيدين عن دين الله سبحانه وتعالى، فقد كانت حنيفية إبراهيم معروفة بينهم، إلاّ أنّهم لم يكونوا يحترمونها، كذلك لم يكن لديهم أي اعتبار لما كان يمليه العقل من تصرفات، وبقيام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونيله من عقائدهم وأعرافهم وعصبيتهم الجاهلية، ووقوع مصالحهم غير المشروعة في الخطر، زادت الفاصلة بينهم وبين الحقّ، نعم كانوا بعيدين عن الحقّ، لكنّهم ازدادوا بعداً عن الحقّ بعد بعثة النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)...