القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَماّ سَكَتَ عَن مّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَلمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ ولما كفّ موسى عن الغضب ، وكذلك كلّ كافَ عن شيء ساكت عنه . وإنما قيل للساكت عن الكلام ساكت : لكفه عنه . وقد ذكر عن يونس النحويّ أنه قال : يقال سكت عنه الحزن وكلّ شيء فيما زعم ومنه قول أبي النجم :
وَهمّتِ الأفْعَى بِأنْ تَسِيحَا ***وَسَكَتَ المُكّاءُ أنْ يَصِيحَا
أخَذَا الأَلْوَاحَ يقول : أخذها بعد ما ألقاها ، وقد ذهب منها ما ذهب . وفِي نُسْخَتِها هُدًى وَرَحْمَةٌ يقول : وفيما نسخ فيها : أي منها هدى بيان للحقّ ورحمة . للّذِينَ هُمْ لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ يقول : للذين يخافون الله ، ويخشون عقابه على معاصيه .
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله : لِرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ مع استقباح العرب أن يقال في الكلام : رهبت لك : بمعنى رهبتك ، وأكرمت لك : بمعنى أكرمتك ، فقال بعضهم : ذلك كما قال جلّ ثناؤه : إنْ كُنْتُمْ للرّؤْيا تَعْبُرُونَ أوصل الفعل باللام . وقال بعضهم : من أجل ربهم يرهبون . وقال بعضهم : إنما دخلت عقب الإضافة الذين هم راهبون لربهم وراهبو ربهم ثم أدخلت اللام على هذا المعنى لأنها عقيب الإضافة لا على التعليق . وقال بعضهم : إنما فعل ذلك لأن الاسم تقدّم الفعل ، فحسن إدخال اللام . وقال آخرون : قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله : رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الّذِي تَسْتَعْجِلُونَ . وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال : سمعت الفرزدق يقول : نقدت له مائة درهم ، يريد نقدته مائة درهم . قال : والكلام واسع .
معنى هذه الآية أن موسى عليه السلام لما سكن غضبه أخذ الألواح التي كان ألقى ، وقد تقدم ما روي أنه رفع أكثرها أو ذهب في التكسير ، وقوله : { سكت } لفظة مستعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكوته ، قال يونس بن حبيب : تقول العرب سال الوادي يومين ثم سكت ، وقال الزجاج وغيره : مصدر قولك سَكَتَ الغضب ، سكْت ، ومصدر قولك سكت الرجل سكوت ، وهذا يقتضي أنه فعل على حدة وليس من سكوت الناس ، وقيل إن في المعنى قلباً ، والمراد ولما سكت موسى عن الغضب فهو من باب أدخلت فمي في الحجر وأدخلت القلنسوة في رأسي ، وفي هذا أيضاً استعارة ، إذ الغضب ليس يتكلم فيوصف بالسكوت ، وقرأ معاوية بن قرة : «ولما سكن » ، وفي مصحف حفصة «ولما سكت » ، وفي مصحف ابن مسعود «ولما صبر عن موسى الغضب » ، قال النقاش : وفي مصحف أبيّ : «ولما اشتق عن موسى الغضب » ، وقوله : { وفي نسختها } معناه وفيما ينسخ منها ويقرأ ، واللام في قوله { لربهم } يحتمل وجوهاً ، مذهب المبرد أنها تتعلق بمصدر كأنه قال الذين رهبتهم لربهم ، ويحتمل أنه لما تقدم المفعول ضعف الفعل فقوي على التعدي باللام ، ويحتمل أن يكون المعنى : هم لأجل طاعة ربهم وخوف ربهم يرهبون العقاب والوعيد ونحو هذا .
نظم هذا الكلام مثل نظم قوله : { ولما سقط في أيديهم } [ الأعراف : 149 ] وقوله : { ولما رجع موسى إلى قومه غضبان } [ الأعراف : 150 ] ، أي : ثم سكَت عن موسى الغضب ولَمّا سكت عنه أخذ الألواح . وهذه الجملة عطف على جملة { ولما رجع موسى إلى قومه } [ الأعراف : 150 ] .
والسكوت مستعار لذهاب الغضب عنهُ ، شُبّه ثَوَرانُ الغضب في نفس موسى المنشىء خواطر العقوبة لأخيه ولقومه ، وإلقاء الألواح حتى انكسرت ، بكلام شخصُ يغريه بذلك ، وحسّن هذا التشبيه أن الغضبان يجيش في نفسه حديث للنفس يدفعه إلى أفعال يطفىء بها ثَوران غضبه ، فإذا سكن غضبه وهدَأت نفْسه كان ذلك بمنزلة سكوت المغري ، فلذلك أطلق عليه السكوت ، وهذا يستلزم تشبيه الغضب بالناطق المغري على طريقة المكنية ، فاجتمع استعارتان ، أو هو استعارة تمثيلية مكنية ؛ لأنه لم تذكر الهيئة المشبهُ بها ورُمزَ إليها بذكر شيء من رَوادفها وهو السكوت ، وفي هذا ما يؤيد أن إلقاء الألواح كان أثر للغضب .
والتعريف في { الألواح } للعهد ، أي الألواح التي ألقاها ، وإنما أخذها حفظاً لها للعمل بها ، لأن انكسارها لا يضيع ما فيها من الكتابة .
والنُسخة بمعنى المنسوخ ، كالخُطبة والقُبضة ، والنّسخ هو نقللِ مثل المكتوب في لوح أو صحيفة أخرى ، وهذا يقتضي أن هذه الألواح أخذت منها نسخة ، لأن النسخة أضيفت إلى ضمير الألواح ، وهذا من الإيجاز ، إذ التقدير : أخذ الألواح فجُعلت منها نسخة وفي نسختها هدى ورحمة ، وهذا يشير إلى ما في التوراة في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر الخروج « ثم قال الرب لموسى إنحت لك لوحين من حجر مثل الأولين فأكتُبُ أنا على اللوحين الكلمات التي كانت على اللوحين الأولين اللذين كسرتهما » ثم قال « فنحت لوحين من حجر كالأولين إلاهان » قال « وقال الرب لموسى أكتُبْ لنفسك هذه الكلمات » إلى أن قال « فكتَب على اللوحين كلمات العهد الكلمات العشر » .
فوصْفُ النسخة بأن فيها هدى ورحمة يستلزم الأصل المنتسخ بذلك ، لأن ما في النسخة نظيرُ ما في الأصل ، وإنما ذكر لفظ النسخة هنا إشارة إلى أن اللوحتين الأصليين عوضا بنسخة لهما ، وقد قيل إن رضاض الألواح الأصلية وضعه في تابوت العهد الذي أشار إليه قوله تعالى : { أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى } في سورة البقرة ( 248 ) .
وقوله : { للذين هم لربهم يرهبون } يتنازع تعلّقه كلٌ من { هدى } و { رحمة } ، واللام في قوله : { لربهم يرهبون } لام التقوية دخلت على المفعول لضعف العامل بتأخيره عن المعمول .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.