وقوله : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ يقول تعالى ذكره : إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدّرناه وقضيناه ، وفي هذا بيان ، أن الله جلّ ثناؤه ، توعّد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا هشام بن سعد ، عن أبي ثابت ، عن إبراهيم بن محمد ، عن أبيه ، عن ابن عباس أنه كان يقول : إني أجد في كتاب الله قوما يُسحبون في النار على وجوههم ، يقال لهم : ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ لأنهم كانوا يكذّبون بالقَدَر ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء كان قبلنا ، أم شيء فيما بقي .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهْمِيّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هريرة أن مشركي قريش خاصمت النبيّ صلى الله عليه وسلم في القَدَر ، فأنزل الله إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى وأبو كُرَيب ، قالوا : حدثنا وكيع بن الجرّاح ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهميّ ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القَدَر ، فنزلت إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، بنحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعد بن عُبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السّلَميّ ، قال : «لما نزلت هذه الاَية إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال رجل : يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ، أو في شيء قد فرغ منه ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْمَلُوا فَكُلّ مُيَسّرٌ لِما خُلِقَ لَهُ ، سَنَيَسّرُهُ للْيُسْرَى ، وَسَنَيْسّرُهُ للعُسْرَى » .
حدثنا ابن أبي الشوارب ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا خصيف ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظيّ يقول : لما تكلم الناس في القَدَر نظرت ، فإذا هذه الاَية أنزلت فيهم إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . . . إلى قوله خَلَقْناهُ بقَدَرٍ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ويزيد بن هارون ، قالا : حدثنا سفيان ، عن سالم ، عن محمد بن كعب ، قال : ما نزلت هذه الاَية إلاّ تعييرا لأهل القدر ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن سالم بن أبي حفصة ، عن محمد بن كعب القُرَظي ذُوقُوا مَسّ سَقَرَ قال : نزلت تعييرا لأهل القَدَر .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد بن إسماعيل السّهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر المخزوميّ ، عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ .
قال : ثنا مهران ، عن حازم ، عن أُسامة ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ مثله .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قال : خلق الله الخلق كلهم بقدر ، وخلق لهم الخير والشرّ بقدر ، فخير الخير السعادة ، وشرّ الشرّ الشقاء ، بئس الشرّ الشقاء .
واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله : كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فقال بعض نحويّي البصرة : نصب كلّ شيء في لغة من قال : عبد الله ضربته قال : وهي في كلام العرب كثير . قال : وقد رفعت كلّ في لغة من رفع ، ورفعت على وجه آخر . قال إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ فجعل خلقناه من صفة الشيء وقال غيره : إنما نصب كلّ لأن قوله خلقناه فعل ، لقوله «إنا » ، وهو أولى بالتقديم إليه من المفعول ، فلذلك اختير النصب ، وليس قيل عبد الله في قوله : عبد الله ضربته شيء هو أولى بالفعل ، وكذلك إنا طعامك ، أكلناه الاختيارُ النصب لأنك تريد : إنا أكلنا طعامك الأكل ، أولى بأنا من الطعام . قال : وأما قول من قال : خلقناه وصف للشيء فبعيد ، لأن المعنى : إنا خلقناه كلّ شيء بقدر ، وهذا القول الثاني أولى بالصواب عندي من الأوّل للعلل التي ذكرت لصاحبها .
واختلف الناس في قوله تعالى : { إنا كل شيء خلقناه بقدر } ، فقرأ جمهور الناس : «إنا كلَّ » بالنصب ، والمعنى : خلقنا كل شيء خلقناه بقدر ، وليست { خلقناه } في موضع الصفة لشيء ، بل هو فعل دال على الفعل المضمر ، وهذا المعنى يقتضي أن كل شيء مخلوق ، إلا ما قام دليل العقل على أنه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات . وقرأ أبو السمال ورجحه أبو الفتح : «إنا كلُّ » بالرفع على الابتداء ، والخبر : { خلقناه بقدر } .
قال أبو حاتم : " هذا هو الوجه في العربية ، وقراءتنا بالنصب مع الجماعة " {[10790]} ، وقرأها قوم من أهل السنة بالرفع ، والمعنى عندهم على نحو ما عند الأولى أن كل شيء فهو مخلوق بقدر سابق ، و : { خلقناه } على هذا ليست صفة لشيء ، وهذا مذهب أهل السنة ، ولهم احتجاج قوي بالآية على هذين القولين{[10791]} ، وقالت القدرية وهم الذين يقولون : لا قدر ، والمرء فاعل وحده أفعاله-{[10792]} . القراءة «إنا كلُّ شيء خلقناه » برفع «كلُّ » : و { خلقناه } في موضع الصفة ب «كلَّ » ، أي أن أمرنا وشأننا كلُّ شيء خلقناه فهو بقدر وعلى حد ما في هيئته وزمنه وغير ذلك ، فيزيلون بهذا التأويل موضع الحجة عليهم بالآية .
وقال ابن عباس : إني أجد في كتاب الله قوماً يسحبون في النار على وجوههم لأنهم كانوا يكذبون بالقدر ، ويقولون : المرء يخلق أفعاله ، وإني لا أراهم ، فلا أدري أشيء مضى قبلنا أم شيء بقي ؟ .
وقال أبو هريرة : خاصمت قريش رسول الله في القدر فنزلت هذه الآية{[10793]} ، قال أبو عبد الرحمن السلمي : فقال رجل يا رسول الله ففيم العمل ؟ أفي شيء نستأنفه ؟ أم في شيء قد فرغ منه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له ، سنيسره لليسرى وسنيسره للعسرى »{[10794]} ، وقال أنس بن مالك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القدرية يقولون الخير والشر بأيدينا ، ليس لهم في شفاعتي نصيب ولا أنا منهم ولا هم مني »{[10795]} .