{ رّبّنَآ إِنّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنّا سَيّئَاتِنَا وَتَوَفّنَا مَعَ الأبْرَارِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل المنادي الذي ذكره الله تعالى في هذه الاَية ، فقال بعضهم : المنادي في هذا الموضع القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، حدثنا سفيان ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَانِ } قال : هو الكتاب ، ليس كلهم لقي النبي صلى الله عليه وسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا منصور بن حكيم ، عن خارجة ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، في قوله : { رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَانِ } قال : ليس كل الناس سمع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن المنادي : القرآن .
وقال آخرون : بل هو محمد صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيمَانِ } قال : هو محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { رَبّنا إنّنا سَمِعْنا مُناديا يُنادِي للإِيمَانِ } قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول محمد بن كعب ، وهو أن يكون المنادي القرآن¹ لأن كثيرا ممن وصفهم الله بهذه الصفة في هذه الاَيات ليسوا ممن رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عاينه ، فسمعوا دعاءه إلى الله تبارك وتعالى ونداءه ، ولكنه القرآن . وهو نظير قوله جلّ ثناؤه مخبرا عن الجن إذ سمعوا كلام الله يتلى عليهم أنهم قالوا : { إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبَا يَهْدِي إلى الرّشْدِ } . وبنحو ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { رَبّنا إنّنَا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيَمانِ } إلى قوله : { وَتَوَفّنا مَعَ الأبْرَارِ } سمعوا دعوة من الله فأجابوها ، فأحسنوا الإجابة فيها ، وصبروا عليها ، بنبئكم الله عن مؤمن الإنس كيف قال ، وعن مؤمن الجنّ كيف قال . فأما مؤمن الجنّ ، فقال : { إنّا سَمِعْنا قُرْآنا عَجَبا يَهْدِي إلى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنا أحَدا }¹ وأما مؤمن الإنس ، فقال : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإِيمَانِ أنْ آمِنُوا بِرَبّكُمْ فَآمَنّا رَبّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا } . . . الاَية .
وقيل : { إنّنا سَمِعْنا مُنادِيا يُنادِي للإيمَان } يعني : ينادي إلى الإيمان ، كما قال تعالى ذكره : { الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي هَدَانا لِهَذَا } بمعنى : هدانا إلى هذا ، وكما قال الراجز .
أوْحَى لها القَرَارَ فاسْتَقَرّتِ *** وَشَدّها بالرّاسياتِ الثّبّتِ
بمعنى : أوحى إليها ، ومنه قوله : { بِأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا } .
وقيل : يحتمل أن يكون معناه : إننا سمعنا مناديا للإيمان ينادي أن آمنوا بربكم .
فتأويل الاَية إذا : ربنا سمعنا داعيا يدعو إلى الإيمان يقول إلى التصديق بك ، والإقرار بوحدانيتك ، واتباع رسولك وطاعته ، فيما أمرنا به ، ونهانا عنه ، مما جاء به من عندك فآمنا ربنا ، يقول : فصدقنا بذلك يا ربنا ، فاغفر لنا ذنوبنا ، يقول : فاستر علينا خطايانا ، ولا تفضحنا بها في القيامة على رءوس الأشهاد ، بعقوبتك إيانا عليها ، ولكن كفرها عنا ، وسيئات أعمالنا فامحها بفضلك ورحمتك إيانا ، وتَوفنا مع الأبرار ، يعني بذلك : واقبضنا إليك إذا قبضتنا إليك في عداد الأبرار ، واحشرنا محشرهم ومعهم¹ والأبرار جمع برّ ، وهم الذين بروا الله تبارك وتعالى بطاعتهم إياه وخدمتهم له ، حتى أرضوه فرضي عنهم .
{ ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان } أوقع الفعل على المسمع وحذف المسموع لدلالة وصفه عليه ، وفيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع وفي تنكير المنادي وإطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه ، والمراد به الرسول عليه الصلاة والسلام وقيل القرآن ، والنداء والدعاء ونحوهما يعدى بإلى واللام لتضمنها معنى الانتهاء والاختصاص . { أن آمنوا بربكم فآمنا } أي بأن آمنوا فامتثلنا . { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } كبائرنا فإنها ذات تبعة . { وكفر عنا سيئاتنا } صغائرنا فإنها مستقبحة ، ولكن مكفرة عن مجتنب الكبائر . { وتوفنا مع الأبرار } مخصوصين بصحبتهم معدودين في زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم محبون لقاء الله ، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه . والأبرار جمع بر أو بار كأرباب وأصحاب .
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون : { ربنا } قال أبو الدرداء : يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون : «ربنا ربنا » حتى استجيب لهم{[3797]} ، واختلف المتأولون في المنادي ، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما : المنادي محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال محمد بن كعب القرظي : المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه ، ولما كانت { ينادي } بمنزلة يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى «إلى الإيمان » ، وقوله : { أن آمنوا } «أن » مفسرة لا موضع لها من الإعراب ، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر ، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله ، و { الأبرار } جمع بر ، أصله برر على وزن فعل ، أدغمت الراء في الراء ، وقيل : هو جمع بار كصاحب وأصحاب ، والمعنى : توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم .
قوله تعالى : { ربنا إننا سمعنا منادياً } أرادوا به النبي محمداً صلى الله عليه وسلم والمنادي ، الذي يرفع صوته بالكلام . والنداء : رفع الصوت بالكلام رفعاً قوياً لأجل الإسماع وهو مشتقّ من النداء بكسر النون وبضمّها وهو الصوت المرتفع . يقال : هو أندى صوتاً أي أرفعُ ، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به ، ومنه سمّي دعاء الشخص شخصاً ليقبل إليه نداء ، لأنّ من شأنه أن يرفع الصوت به ؛ ولذلك جعلوا له حروفاً ممدودة مثل ( يا ) و ( آ ) و ( أيا ) و ( هيا ) . ومنه سمّي الأذان نداء ، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت ، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفَهم بحروف معلومة كقوله تعالى : { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } [ فصلت : 104 ، 105 ] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأنّ النبي يدعو الناس بنحو : يأيّها الناس ويا بَني فلان ويا أمّة محمد ونحو ذلك ، وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى : { ونودوا أن تلكم الجنة } في سورة [ الأعراف : 43 ] . واللام لام العلّة ، أي لأجل الإيمان بالله .
و ( أن ) في { أن آمنوا } تفسيرية لما في فعل ( يُنادي ) من معنى القول دون حروفه .
وجاءوا بفاء التعقيب في ( فآمنّا ) : للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان ، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة ، وقد توسّموا أن تكون مُبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى ، فلذلك فرّعوا عليه قولهم : { فاغفر لنا ذنوبنا } لأنّهم لمّا بذلوا كلّ ما في وسعهم من اتّباع الدين كانوا حقيقين بترجّي المغفرة .
والغَفْر والتكفير متقاربان في المادة المشتقيْن منها إلاّ أنّه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض ، فكأنّ العوض كفّر الذنب أي ستره ، ومنه سمّيت كفّارة الإفطار في رمضان . وكفّارة الحنث في اليمين إلاّ أنهم أرادوا بالذنوب ما كان قاصراً على ذواتهم ، ولذلك طلبوا مغفرته ، وأرادوا من السيّئات ما كان فيه حقّ الناس ، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم .
وقيل هو مجرّد تأكيد ، وهو حسن ، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيّئات الصغائر لأنّ اجتناب الكبائر يكفّر الصغائر ، بناء على أنّ الذنب أدلّ على الإثم من السيئة .
وسألوا الوفاة مع الأبرار ، أي أن يموتوا على حالة البِرّ ، بأن يلازمهم البرّ إلى الممات وأن لا يرتدّوا على أدبارهم ، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار . فالمعية هنا معية اعتبارية ، وهي المشاركة في الحالة الكاملة ، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتّصاف بالدلالة ، لأنّه برّ يرجى دوامه وتزايدُه لِكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالاً على البرّ بلسان المقال ولسان الحال .