اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ} (193)

" سمع " إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأنْ كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ :

أحدهما : أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة .

والثاني : - قول الفارسيِّ وجماعة - : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون " يُنَادِي " في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نَصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ .

وقال الزمخشريُّ : " تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع ؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ " .

وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره .

إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال " وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ . . . إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل " سَمِعَ " على ذات لا على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع " .

وأجاز أبو البقاء في " يُنَادِي " أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في " مُنَادِياً " . فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين " مُنَادِياً " و " يُنَادِي " ؟

فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي ؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته .

وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ :

أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً .

الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان .

الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون " سَمِعَ " مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : " يُنَادِي " محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، ويجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا .

ونادى ودعا يتعديان باللام تارةً ، وب " إلى " أخرى ، وكذلك نَدَبَ .

قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى " إلى " ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة - أي : لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي بما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل - في جهنم - : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها .

فصل

اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود ، وابنُ عباسٍ ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم{[6296]} وقال القرطبيُّ : يعني القرآن ؛ إذ ليس كلهم سَمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } [ الجن : 1- 2 ] . قوله : " أَنْ آمَنُوا " في " أنْ " قولان :

أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ .

ثانيهما : أنها مصدرية ، وُصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم : كتبت إليه بأنْ قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ]{[6297]} فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ .

قوله : " فآمَنَّا " عطف على ما " سَمِعْنَا " والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا .

قوله : { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } اعلم أنهم قد طلبوا من اللَّه في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :

أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية .

ثانيها : التكفير ، وهو التغطية - أيضاً - يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي : مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً -

قال الشاعرُ : [ الكامل ]

. . . *** فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا{[6298]}

فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد ؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ .

وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ .

وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفرِّه الطاعةُ العظيمةُ .

وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل .

ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجُوِّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف . وأجازَ مَكِّيٌّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ]

كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ *** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ{[6299]}

أي : كأنك جمل من جمال .

قال أبو البقاء : " [ تقديره ]{[6300]} أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً - على هذا - حالٌ " . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب .

قال القفّالُ : في تفسير هذه المعية وجهانِ :

أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ .

ثانيهما : أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار ، كقوله :

{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] .

فصل

احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين :

الأول : أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ }

[ آل عمران : 195 ] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ .

الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم ، ثم قالوا : { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنهم ، ولا يُدخلَهم النار - أو بأن يُعَذِّبهم مدةً ، ثم يعفوَ عنهم ، ويُخْرِجَهم من النار .


[6296]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/481) عن ابن جريح وابن زيد.
[6297]:سقط في أ.
[6298]:ينظر: الرازي 9/119.
[6299]:تقدم.
[6300]:في أ: ويكون.