" سمع " إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو : سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأنْ كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه ، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع ، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ :
أحدهما : أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة ، أو حالاً ، إن كان معرفة .
والثاني : - قول الفارسيِّ وجماعة - : أنها تتعدى لاثنين ، والجملة في محلِّ الثاني منهما ، فعلى قول الجمهورِ يكون " يُنَادِي " في محل نَصْبٍ ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نَصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ .
وقال الزمخشريُّ : " تقول : سمعت رجلاً يقولُ كذا ، وسمعت زيداً يتكلمُ ، فتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع ؛ لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً منه ، فأغناك عن ذِكْره ، ولولا الوصفُ أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ ، وأن تقول : سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ " .
وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره .
إلا أن أبا حيّان اعترض عليه ، فقال " وقوله : ولولا الوصفُ أو الحالُ . . . إلى آخره ، ليس كذلك ، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ ، ويدخل " سَمِعَ " على ذات لا على مسموع ، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى : { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } [ الشعراء : 72 ] فأغنى ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع " .
وأجاز أبو البقاء في " يُنَادِي " أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في " مُنَادِياً " . فإن قيل : ما الفائدة في الجمع بين " مُنَادِياً " و " يُنَادِي " ؟
فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً ، ثم مقيَّداً بالإيمانِ ، تفخيماً لشأن المُنَادِي ؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان ، ونحوه قولك : مررت بهادٍ يهدي للإسلام ، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروبِ ، أو لكفاية بعض النوازلِ ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق ، ويهدي لسدادِ الرأي ، وغير ذلك فإذا قُلْتَ : ينادي للإيمان ، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته .
وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ :
أحدها : التوكيد ، نحو : قُم قَائِماً .
الثاني : أنه وصل به ما حسَّن التكرير ، وهو الإيمان .
الثالث : أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون " سَمِعَ " مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ ، فلمَّا قال : " يُنَادِي " محذوفٌ ، أي : ينادي في الناس ، ويجوز ألا يُرادَ مفعول ، نحو : أمات وأحيا .
ونادى ودعا يتعديان باللام تارةً ، وب " إلى " أخرى ، وكذلك نَدَبَ .
قال الزمخشريُّ : وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً ، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ : إنها بمعنى " إلى " ولا أنها بمعنى الباء ، ولا أنها لام العلة - أي : لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى ، وينادي بما فيه من أنواعِ الدلائلِ ، كما قيل - في جهنم - : { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى } [ المعارج : 17 ] إذْ كان مصيرهم إليها .
اختلفوا في المراد بالمنادِي : فقال ابنُ مسعود ، وابنُ عباسٍ ، وأكثرُ المفسّرين : يعني محمداً صلى الله عليه وسلم{[6296]} وقال القرطبيُّ : يعني القرآن ؛ إذ ليس كلهم سَمِع رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ } [ الجن : 1- 2 ] . قوله : " أَنْ آمَنُوا " في " أنْ " قولان :
أحدهما : أنها تفسيرية ؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه ، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ .
ثانيهما : أنها مصدرية ، وُصلت بفعل الأمرِ ، وفي وَصْلِها به نظرٌ ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية ، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم : كتبت إليه بأنْ قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ ليس إلا ، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر ، وإذا قيل بأنها مصدرية ]{[6297]} فالأصل التعدي إليها بالباء ، أي : بأن آمنوا ، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ .
قوله : " فآمَنَّا " عطف على ما " سَمِعْنَا " والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة ، والمعنى : فآمنا بربنا .
قوله : { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } اعلم أنهم قد طلبوا من اللَّه في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ :
أحدهَا : غفران الذنوب ، والغفران : هو الستر والتغطية .
ثانيها : التكفير ، وهو التغطية - أيضاً - يقال : رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي : مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً -
. . . *** فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا{[6298]}
فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد ، وأما المفسرون فقال بعضهم : المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد ؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ .
وقيل : المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب ، وبالثاني المستأنفُ .
وقيل : المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة ، وبالتكفير ما تكفرِّه الطاعةُ العظيمةُ .
وقيل : المرادُ بالأولِ : ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية ، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل .
ثالثها : قوله : { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } أي : توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم ، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ ، وقيل : تُجُوِّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول ، فيتعلق بمحذوف . وأجازَ مَكِّيٌّ ، وأبو البقاءِ : أن يكون صفة لموصوف محذوف ، أي : أبراراً مع الأبرارِ ، كقوله : [ الوافر ]
كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ *** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ{[6299]}
قال أبو البقاء : " [ تقديره ]{[6300]} أبراراً مع الأبرار ، وأبراراً - على هذا - حالٌ " . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب ، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ ، بزنة : كَتِف وأكتاف ، ورَبّ وأرْبَاب .
قال القفّالُ : في تفسير هذه المعية وجهانِ :
أحدهما : أن وفاتهم معهم : هي أن يموتوا على مثل أعمالهم ، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ ، كما تقول : أنّا مع الشافعي في هذه المسألة ، أي : مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ .
ثانيهما : أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار ، كقوله :
{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] .
احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين :
الأول : أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً ، ثم أجابهم الله تعالى بقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ }
[ آل عمران : 195 ] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ .
الثاني : أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم ، ثم قالوا : { فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنهم ، ولا يُدخلَهم النار - أو بأن يُعَذِّبهم مدةً ، ثم يعفوَ عنهم ، ويُخْرِجَهم من النار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.