إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{رَّبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِيٗا يُنَادِي لِلۡإِيمَٰنِ أَنۡ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَيِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ} (193)

{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى للإيمان } حكايةٌ لدعاء آخرَ لهم مبنيٌّ على تأملهم في الدليل السمعيِّ بعد حكايةِ دعائِهم السابقِ المبنيِّ على التفكر في الأدلة العقليةِ ، وتصديرُ مقدمةِ الدعاءِ بالنداء لإظهار كمالِ الضراعةِ والابتهالِ ، والتأكيدُ للإيذان بصدور المقالِ عنهم بوفور الرغبةِ وكمالِ النشاطِ ، والمرادُ بالنداء الدعاءُ وتعديتُهما بإلى لتضمُّنهما معنى الإنهاءِ ، وباللام لاشتمالها على معنى التخصيص والمرادُ بالمنادي الرسولُ صلى الله عليه وسلم ، وتنوينُه للتفخيم ، وإيثارُه على الداعي للدلالة على كمال اعتنائِه بشأن الدعوةِ وتبليغِها إلى الداني والقاصي لما فيه من الأيذان برفع الصوتِ و { يُنَادِى } صفةٌ لمنادياً عند الجمهورِ كما في قولك : سمعتُ رجلاً يقول : كيت وكيت ولو كان معرفةً لكان حالاً منه كما إذا قلت : سمعت زيداً يقول الخ ، ومفعولٌ ثانٍ لسمعنا عند الفارسي وأتباعِه ، وهذا أسلوبٌ بديعٌ يُصار إليه للمبالغة في تحقيق السماعِ والإيذانِ بوقوعه بلا واسطةٍ عند صدورِ المسموعِ عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضارِ صورتِه ، وقد اختص النظمُ الكريمُ بمزية زائدةٍ على ذلك حيث عبَّر عن المسموع منه بالمنادي ثم وَصَفه بالنداء للإيمان على طريقة قولك : سمعت متكلماً يتكلم بالحِكمة لما أن التفسيرَ بعد الإبهامِ والتقييدَ بعد الإطلاقِ أوقعُ عند النفسِ وأجدرُ بالقبول . وقيل : المنادي القرآنُ العظيمُ { أنْ آمِنُوا } أي آمنوا على أن { أن } تفسيريةٌ أو بأنْ آمِنوا على أنها مصدريةٌ { بِرَبّكُمْ } بمالككم ومتوليِّ أمورِكم ومبلِّغِكم إلى الكمال ، وفي إطلاق الإيمانِ ثم تقييدِه تفخيمٌ لشأنه . { فَآمَنَّا } أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءَه { رَبَّنَا } تكريرٌ للتضرُّع وإظهارٌ لكمال الخضوعِ وعرضٌ للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به ، والفاءُ في قوله تعالى : { فاغفر لَنَا } الفاء لترتيب المغفرةِ أو الدعاءِ بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرةِ والدعاءِ بها { ذُنُوبَنَا } أي كبائرَنا فإن الإيمان يجُبُّ ما قبله { وَكَفّرْ عَنَّا سيئاتنا } أي صغائرَنا فإنها مكفَّرةٌ عمن اجتنبَ الكبائرَ { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي مخصوصين بصُحبتهم مغتنمين لجوارهم ، معدودين من زُمرتهم ، وفيه إشعارٌ بأنهم كانوا يحبون لقاءَ الله «ومن أحب لقاءَ الله أحب الله لقاءَه » والأبرارُ جمع بارٍّ أو بَرٍّ كأصحاب وأرباب .