ثم ذكرهم - سبحانه - بما كان منهم من تمنى الشهادة فى سبيله فقال { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } .
قال ابن جرير ما ملخصه : كان قوم من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ممن لم يشهدوا بدراً ، يتمنون قبل يوم أحد يوما مثل يوم بدر ، فيعطون الله من أنفسهم خيرا ، وينالون من الأجر مثل ما نال أهل بدر ، فلما كان يوم أحد ، فر بعضهم وصبر بعضهم ، حتى أوفى بما كان عاهد الله عليه قبل ذلك ، فعاتب الله من فر منهم بقوله : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت } . . . الآية .
والخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين الذين لم يفوزوا بالشهادة فى غزوة أحد ، وهو خطاب يجمع بين الموعظة والملام .
والمراد بالموت هنا الشهادة فى سبيل الله ، أو الحرب والقتال لأنهما يؤديان إلى الموت .
والمعنى : ولقد كنتم - يا معشر المؤمنين - { تَمَنَّوْنَ الموت } ، أى الحرب أو الشهادة فى سبيل الله { مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } أى تشاهدوه وتعرفوا أهواله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } أى فقد رأيتم ما تتمنونه من الموت بمشاهدة أسبابه وهى الحرب وما يترتب عليها من جراح وآلام وقتال { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أى رأيتموه معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أنتم أيها الأحياء أن تقتلوا .
{ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } متعلق بقوله { تَمَنَّوْنَ } مبين لسبب إقدامهم على التمنى . أى من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا مصاعبه .
ففى الجملة الكريمة تعريض بأنهم تمنوا أمرا دون أن يقدروا شدته عليهم ، ودون أن يوطنوا أنفسهم على تحمل مشقاته وتبعاته .
والفاء فى قوله { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } للإفصاح عن شرط مقدر دل عليه صدر الكلام . والتقدير : إذا كنتم قد تمنيتم الموت فقد وقع ما تمنيتموه ورأيتموه رأى العين ، فأين بلاؤكم وصبركم وثباتكم ؟ .
وقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } جملة حالية من ضمير المخاطبين مؤكدة لمعنى رأيتموه . أى رأيتموه معاينين له ، وهذا على حد قولك : رأيته وليس فى عينى علة ، أى رأيته رؤية حقيقة لا خفاء ولا التباس .
والتعبير بالمضارع { تَنظُرُونَ } يفيد التصوير . وإحضار الصورة الواقعة فى الماضي كأنها واقعة فى الحاضر ، فيستحضرها العقل كما وقعت ، وكما ظهرت فى الوجود .
والنظر الذى قرره الله - تعالى - بقوله { وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } يتضمن النظر إلى الموقعة كلها ، وكيف كان النصر فى أول الأمر للمسلمين ، ثم كيف كانت الهزيمة بعد ذلك بسبب تطلع بعضهم إلى أعراض الدنيا . ثم كيف تفرقت صفوفهم بعد اجتماعها وكيف تضعضعت بعض العزائم بعد مضائها وقوتها .
ولقد حكت الآية الكريمة أن المسلمين كانوا يتمنون الموت فى معركة ، وليس فى ذلك من بأس ، بل إن هذا هو شعار المؤمن الصادق ، لأن المؤمن الصادق هو الذى يتمنى الشهادة فى سبيل الله ومن أجل نصرة دينه ، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لوددت أنى اقتل فى سبيل الله ، ثم أحيا ، ثم أقتل ، ثم أحيا ثم أقتل " .
وقال عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - " اللهم إنى أسألك شهادة فى سبيلك " . ولكن الذى يكرهه الإسلام هو أن يتمنى المسلم الشهادة ثم لا يفى بما تمناه ، بمعنى أن يفر من الميدان أو يفعل ما من شأنه أن يتنافى مع الجهاد الحق فى سبيل الله .
ولذا قال الآلوسى : " والمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة ، وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا ، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم " .
فالآية الكريمة تعظ المؤمنين بأن لا يتمنوا أمرا حتى يفكروا فى عواقبه ، ويعدوا أنفسهم له ، ويلتزموا الوفاء بما تمنوه عند تحققه ، ولقد رسم النبى صلى الله عليه وسلم الطريق القويم الذى يجب أن يسلكه المسلم في حياته فقال فى حديثه الصحيح :
" أيها الناس ، لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية . فإذا لقيتموهم فاصبروا . واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد أمرت المؤمنين بأن يعتبروا بأحوال من سبقهم ، وأن يتجنبوا ما كان عليه المكذبون من ضلال وعصيان وأن يوطنوا أنفسهم على تحمل المصائب والآلام فإن العاقبة لهم ، وأن يعملوا أن الحياة لا تخلو من نصر وهزيمة ، وسراء وضراء حتى يتميز الخبيث من الطيب ، وأن يعرفوا أن الطريق إلى الجنة يحتاج إلى إيمان عميق ، وصبر طويل ، وجهاد شديد ، واستجابة كاملة لتعاليم الإسلام وآدابه .
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز ، ليكون جامعاً بين الموعظة ، والمعذرة ، والملام ، والواو عاطفة أو حالية .
والخطاب للأحياء ، لا محالة ، الَّذين لم يذوقوا الموت ، ولم ينالوا الشهادة ، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة ، فقوله : { كنتم تمنّون الموت } أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد ، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة ، ويقفوا موقف الدّفاع ، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء ، ولو كان فيه الموت ، نظراً لقوة العدوّ وكثرته ، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم ، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع ، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده ، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر ، تنزيلاً لِغاية التمنّي منزلة مبدئه .
وقوله : { من قبل أن تلقوه } تعريض بأنَّهم تمنّوا أمراً مع الإغضاء عن شدّته عليهم ، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب .
وقوله : { فقد رأيتموه } أي رأيتم الموت ، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة ، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت ، فيجوز أن يكون قوله : { فقد رأيتموه } تمثيلاً ، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع ، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي :
وشممتُ ريح الموت من تلقائهم *** في مأزق والخيل لم تتبدّد
وكإطلاقه في قول ابن معد يكرب يوم القادسية : فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت .
والفاء في قوله : { فقد رأيتموه } فاء الفصيحة عن قوله : { كنتم تمنون } والتقدير : وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه ، أو التقدير : فإن كان تمنّيكم حقّاً فقد رأيتموه ، والمعنى : فأين بلاء من يتمنّى الموت ، كقول عباس بن الأحنف :
قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا *** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا
ومنه قوله تعالى : { فقد كذّبوكم بما تقولون } [ الفرقان : 19 ] وقوله في سورة الروم ( 56 ) : { فهذا يوم البعث } .
وجملة { وأنتم تنظرون } حال مؤكّدة لمعنى { رأيتُموه } ، أو هو تفريع أي : رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر ، دون الغَناء في وقت الخطر ، فأنتم مبهوتون . ومحلّ الموعظة من الآية : أنّ المرء لا يطلب أمراً حَتَّى يفكِّر في عواقبه ، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه . ومحلّ المعذرة في قوله : { من قبل أن تلقوه } وقوله : { فقد رأيتموه } ومحلّ الملام في قوله : { وأنتم تنظرون } .
ويحتمل أن يكون قوله : { تمنون الموت } بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم ، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم ، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت ، وكأنَّه تعريض بهم بأنَّهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة . إذ قد جبنوا وقت الحاجة ، وخفّوا إلى الغنيمة ، فالكلام ملام محض على هذا ، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه ، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل : ( إذا لم تستطع شيئاً فدعه ) .
كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله ، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا ، ثمّ أقْتل " وقال عمر : « اللَّهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك » وقال ابن رواحة :
لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفــرة *** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا
حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي *** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا
وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت ، بمعنى أسبابه ، تنزيلاً لرؤية أسبابه منزلة رؤيته ، وهو كالاستخدام ، وعندي أنَّه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.