1- سورة " النازعات " من السور المكية الخالصة . وتسمى بسورة " والنازعات " بإثبات الواو ، حكاية لأول ألفاظها ، ومن ذكرها بدون واو ، جعل لفظ " النازعات " علما عليها ، وتسمى –أيضا- سورة " الساهرة " وسورة " الطامة " ، لوقوع هذين اللفظين فيها دون غيرها .
2- وهي السورة التاسعة والسبعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فهي السورة الحادية والثمانون من بين السور المكية ، وكان نزولها بعد سورة " النبأ " ، وقبل سورة " الانفطار " ، أي : أن سورة النازعات تعتبر من أواخر السور المكية نزولا .
3- وعدد آياتها خمس وأربعون آية في المصحف الكوفي ، وست وأربعون في غيره .
4- ومن أهم مقاصدها : إقامة الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى أن البعث حق ، وذكر جانب كبير من علاماته وأهواله ، والرد على الجاحدين الذين أنكروا وقوعه ، وتذكير الناس بجانب مما دار بين موسى –عليه السلام- وبين فرعون من مناقشات ، وكيف أن الله –تعالى- قد أخذ فرعون أخذ عزيز مقتدر .
كما أن السورة الكريمة اشتملت على مظاهر قدرته –تعالى- ، التي نراها ونشاهدها في خلقه –سبحانه- للسموات وللأرض . . وما اشتملتا عليه عن عجائب .
ثم ختمت ببيان حسن عاقبة المتقين ، وسوء عاقبة الكافرين ، وبالإجابة على أسئلة السائلين عن يوم القيامة ، وبيان أن موعد مجيء هذا اليوم مرده إلى الله –تعالى- وحده .
قال –تعالى- : [ يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ] .
الواو فى قوله { والنازعات . . } وما بعده للقسم ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده ، والتقدير : وحق هذه المخلوقات العظيمة . . لتبعثن .
وكذلك المقسم به محذوف ، إذ أن هذه الألفاظ وهى : النازعات ، والناشطات والسابحات ، والسابقات ، والمدبرات ، صفات لموصوفات محذوفة ، اختلف المفسرون فى المراد بها على أقوال كثيرة . أشهرها : أن المراد بهذه الموصوفات ، طوائف من الملائكة ، كلفهم الله - تعالى - فى النزع الحسى : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } وقوله - سبحانه - فى النزع المعنوى : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } وقوله : { غرقا } اسم مصدر من أغرق ، وأصله إغراقا . والإِغراق فى الشئ ، المبالغة فيه والوصول به إلى نهايته ، يقال : أغرق فلان فلان هذا الأمر ، إذا أوغل فيه ، ومنه قوله : نزع فلان فى القوس فأغرق ، أى : بلغ غاية المد حتى انتهى إلى النَّصْل .
وهو منصوب على المصدرية ، لالتقائه مع اللفظ الذى قبله فى المعنى ، وكذلك الشأن بالنسبة للالفاظ التى بعده ، وهى : " نشطا ، و " سبحا " و " سبقا " .
والمعنى : وحق الملائكة الذين ينزعون أرواح الكافرين من أجسادهم ، نزعا شديدا ، يبلغ الغاية فى القسوة والغلظة .
ويشير إلى هذا المعنى قوله - تعالى - فى آيات متعددة ، منها قوله - سبحانه - : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق }
قال ابن مسعود وابن عباس : { النازعات } ، الملائكة تنزع نفوس بني آدم ، و { غرقاً } على هذا القول إما أن يكون مصدر بمعنى الإغراق والمبالغة في الفعل ، وإما أن يكون كما قال علي وابن عباس : تغرق نفوس الكفرة في نار جهنم ، وقال السدي وجماعة : { النازعات } : النفوس تنزع بالموت إلى ربها ، و { غرقاً } هنا بمعنى الإغراق أي تغرق في الصدر ، وقال عطاء فيما روي عنه : { النازعات } الجماعات النازعات بالقسي{[11595]} ، و { غرقاً } بمعنى الإغراق ، وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش { النازعات } : النجوم لأنها تنزع من أفق إلى أفق ، وقال قتادة : { النازعات } ، النفوس التي تحن إلى أوطانها وتنزع إلى مذاهبها ولها نزاع عند الموت ، وقال مجاهد : { النازعات } المنايا لأنها تنزع نفوس الحيوان ، وقال عطاء وعكرمة : { النازعات } القسي أنفسها لأنها تنزع بالسهام .
سميت في المصاحف وأكثر التفاسير { سورة النازعات } بإضافة سورة إلى النازعات بدون واو ، جعل لفظ { النازعات } علما عليها لأنه لم يذكر في غيرها . وعنونت في كتاب التفسير من صحيح البخاري في كثير من كتب المفسرين بسورة { والنازعات } بإثبات الواو على حكاية أول ألفاظها .
وقال سعد الله الشهير بسعدي والخفاجي : إنها تسمى { سورة الساهرة } لوقوع لفظ { الساهرة } في أثنائها ولم يقع في غيرها من السور .
وقالا : تسمى سورة الطامة أي لوقوع لفظ الطامة فيها ولم يقع في غيرها ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم .
ورأيت في مصحف مكتوب بخط تونسي عنون اسمها { سورة فالمدبرات } وهو غريب ، لوقوع لفظ المدبرات فيها ولم يقع في غيرها .
وهي معدودة الحادية والثمانين في ترتيب النزول ، نزلت بعد سورة النبأ وقبل سورة الانفطار .
وعدد آيها خمس وأربعون عند الجمهور ، وعدها أهل الكوفة ستا وأربعين آية .
اشتملت على إثبات البعث والجزاء ، وإبطال إحالة المشركين وقوعه .
وتهويل يومه وما يعتري الناس حينئذ من الوهل .
وإبطال قول المشركين بتعذر الإحياء بعد انعدام الأجساد .
وعرض بأن نكرانهم إياه منبعث عن طغيانهم فكان الطغيان صادا لهم عن الإصغاء إلى الإنذار بالجزاء فأصبحوا آمنين في أنفسهم غير مترقبين حياة بعد هذه الحياة الدنيا بأن جعل مثل طغيانهم كطغيان فرعون وإعراضه عن دعوة موسى عليه السلام وإن لهم في ذلك عبرة ، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
وانعطف الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث بأن خلق العوالم وتدبير نظامه أعظم من إعادة الخلق .
وأدمج في ذلك إلفات إلى ما في خلق السماوات والأرض من دلائل على عظيم قدرة الله تعالى .
وأدمج فيه امتنان في خلق هذا العالم من فوائد يجتنونها وأنه إذا حل عالم الآخرة وانقرض عالم الدنيا جاء الجزاء على الأعمال بالعقاب والثواب .
وكشف عن شبهتهم في إحالة البعث باستبطائهم إياه وجعلهم ذلك أمارة على انتفائه فلذلك يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن تعيين وقت الساعة سؤال تعنت ، وأن شأن الرسول أن يذكرهم بها وليس شأنه تعيين إبانها ، وأنها يوشك أن تحل فيعلمونها عيانا وكأنهم مع طول الزمن لم يلبثوا إلا جزءا من النهار .
ابتدئت بالقسَم بمخلوقات ذات صفات عظيمة قَسَماً مراداً منه تحقيقُ ما بعده من الخبر وفي هذا القسَم تهويل المقسم به .
وهذه الأمور الخمسة المقسم بها جُموع جَرى لفظها على صيغة الجمع بألف وتاء لأنها في تأويل جَماعات تتحقق فيها الصفات المجموعة ، فهي جماعات ، نازعات ، ناشطات ، سابحات ، سابقات ، مدبِّرات ، فتلك صفات لموصوفات محذوفة تدلّ عليها الأوصاف الصالحة لها .
فيجوز أن تكون صفاتٍ لموصوفات من نوع واحد له أصناف تميزها تلك الصفات .
ويجوز أن تكون صفات لموصوفات مختلفة الأنواع بأن تكون كل صفة خاصيَّةً من خواصّ نوع من الموجودات العظيمة قوامُه بتلك الصفة .
والذي يقتضيه غالب الاستعمال أن المتعاطفات بالواو صفات مستقلة لموصوفات مختلفة أنواع أو أصناف ، أو لموصوف واحد له أحوال متعددة ، وأنَّ المعطوفاتتِ بالفاء صفات متفرعة عن الوصف الذي عُطفت عليه بالفاء ، فهي صفات متعددة متفرّع بعضها عن بعض لموصوف واحد فيكون قَسماً بتلك الأحوال العظيمة باعتبار موصوفاتها .
وللسلف من المفسرين أقوال في تعيين موصوفات هذه الأوصاف وفي تفسير معاني الأوصاف . وأحسن الوجوه على الجملةِ أن كلّ صفة مما عُطف بالواو مراداً بها موصوف غير المراد بموصوف الصفة الأخرى ، وأن كل صفة عطفت بالفاء أن تكون حالةً أخرى للموصوف المعطوف بالواو كما تقدم . وسنتعمد في ذلك أظهر الوجوه وأنظَمها ونذكر ما في ذلك من الاختلاف ليكون الناظر على سعَةِ بصيرةٍ .
وهذا الإِجمال مقصود لتذهب أفهام السامعين كلَّ مذهب ممكن ، فتكثر خطور المعاني في الأذهان ، وتتكرر الموعظة والعبرة باعتبار وقْع كل معنى في نفس له فيها أشدُّ وقْععٍ وذلك من وفرة المعاني مع إيجاز الألفاظ .
فالنازعات : وصف مشتق من النزع ومعاني النزع كثيرة كلها ترجع إلى الإِخراج والجذب فمنه حقيقة ومنه مجاز .
فيحتمل أن يكون { النازعات } جماعات من الملائكة وهم الموكّلون بقبض الأرواح ، فالنزع هو إخراج الروح من الجسد شبه بنزع الدلو من البئر أو الركية ، ومنهم قولهم في المحْتضَر هو في النزع . وأجريت صفتهم على صيغة التأنيث بتأويل الجماعة أو الطوائف كقوله تعالى : { قالت الأعراب آمنا } [ الحجرات : 14 ] .
وروي هذا عن علي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومسروق وابن جبير والسدّي فأقسم الله بالملائكة لأنها من أشرف المخلوقات ، وخصها بهذا الوصف الذي هو من تصرفاتها تذكيراً للمشركين إذ هم في غفلة عن الآخرة وما بعد الموت ، ولأنهم شديدٌ تعلقهم بالحياة كما قال تعالى لمَّا ذكر اليهود : { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا } [ البقرة : 96 ] فالمشركين مَثَل في حب الحياة ففي القسم بملائكة قبض الأرواح عظة لهم وعبرة .
والقسَم على هذا الوجه مناسب للغرض الأهم من السورة وهو إثبات البعث لأن الموت أول منازل الآخرة فهذا من براعة الاستهلال .
وغرقا : اسم مصدر أغرق ، وأصله إغراقاً ، جيء به مجرداً عن الهمزة فعومل معاملة مصدر الثلاثي المتعدّي مع أنه لا يوجد غرِق متعدياً ولا أن مصدره مفتوح عين الكلمة لكنه لما جعل عوضاً عن مصدر أغرق وحذفت منه الزوائد قدّر فعله بعد حذف الزوائد متعدياً .
ولو قلنا : إنه سكنت عينه تخفيفاً ورعياً للمزاوجة مع { نشطاً } ، و { سبحا } ، و { سبقاً } ، و { أمراً } لكان أرقب لأن متحرك الوسط يخفف بالسكون ، وهذا مصدر وصف به مصدر محذوف هو مفعول مطلق للنازعات ، أي نَزْعاً غَرقاً ، أي مغرقاً ، أي تنزع الأرواح من أقاصي الأجساد .
ويجوز أن تكون { النازعات } صفة للنجوم ، أي تنزع من أفق إلى أفق ، أي تسير ، يقال : ينزع إلى الأمر الفلاني ، أي يميل ويشتاق .
وغرقاً : تشبيه لغروب النجوم بالغَرْق في الماء وقاله الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش ، وهو على هذا متعين لأن يكون مصدر غَرِق وأن تسكين عينه تخفيف .
والقَسَم بالنجوم في هذه الحالة لأنها مَظهر من مظاهر القدرة الربانية كقوله تعالى : { والنجم إذا هوى } [ النجم : 1 ] .
ويحتمل أن تكون { النازعات } جماعات الرّماة بالسهام في الغزو يقال : نزع في القوس ، إذا مدَّها عند وضع السهم فيها . وروي هذا عن عكرمة وعطاء .
والغَرف : الإِغراق ، أي استيفاء مدّ القوس بإغراق السهم فيها فيكون قسماً بالرماة من المسلمين الغزاة لشرفهم بأن غزوهم لتأييد دين الله ، ولم تكن للمسلمين وهم بمكة يومئذٍ غزوات ولا كانوا يرجونها ، فالقَسَم بها إنذار للمشركين بغزوة بدر التي كان فيها خضْد شوكتهم ، فيكون من دلائل النبوءة ووعد وعده الله رسوله صلى الله عليه وسلم .