48- قيل بلسان الوحي : يا نوح ، انزل على الأرض من سفينة النجاة سالماً آمناً ، بسلام من الله تعالى وأَمْنٍ منه ، وبركات من الله عليك وعلى الذين معك ، الذين سيكونون أمماً مختلفة من بعدك ، وسينال بركة الإيمان والإذعان بعضهم ، وبعضهم سيكونون أمما يستمتعون بالدنيا وينالون متعها غير مذعنين للحق ، ثم يصيبهم يوم القيامة عذاب مؤلم شديد .
ثم بشر - سبحانه - نبيه نوحا - عليه السلام - بقبول توبته فقال : { قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ . . }
والسلام : التحية المقرونة بالأمان والاطمئنان ، وأصله السلامة ، والباء فيه للمصاحبة والبركات . جمع بركة وهى ثبوت الخير ونماؤه وزيادته ، واشتقاقها من البرك ، وهو صدر البعير . يقال : برك البعير إذا ألقى بركه أى صدره على الأرض وثبت . ومنه البركة لثبوت الماء فيها .
والأمم : جمع أمة ، وهى الجماعة الكثيرة من الناس ، يجمعها نسب واحد أو لغة واحدة ، أو موطن واحد .
أى : قال الله - تعالى - مبشرا نوحا - عليه السلام - بقبول توبته : يا نوح اهبط من السفينة مصحوبا منا بالأمان مما تكره ، وبالخيرات والنعم الثابتة عليك ، وعلى أمم متشعبة ومتفرعة وناشئة من الأمم المؤمنة التى ستهبط معك ، بعد أن أنجاكم الله - تعالى - بفضله ورحمته من العذاب ، الذى حل بالكافرين من قومك .
وكان مقتضى الظاهر أن يقال : قال يا نوح اهبط بسلام . . ولكن جاء التعبير بقيل ، مسايرة للتعبيرات السابقة فى أجزاء القصة ، مثل قوله - سبحانه - { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ . . . } وقوله : { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } وقوله : { اهبط بِسَلاَمٍ . . } فيه إشارة إلى أنه كان قبل الهبوط فى ضيافة الله ورعايته ، وأنه لولا عناية الله به وبمن معه من المؤمنين ، لما نجت السفينة من ذلك الطوفان العظيم .
والتعبير بقوله { منا } لزيادة التكريم ، وتأكيد السلام . أى : انزل بسلام ناشئ من عندنا ، ولس من عند غيرنا ؛ لأن كل سلا من غيرنا لا قيمة له بجانب سلامنا .
وقوله { عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } متعلق بسلام وبركات .
وفى هذا الإِشارة إلى أنه - سبحانه - سيجعل من ذرية نوح ومن ذرية من معه من المؤمنين ، أمما كثيرة ستكون محل كرامة الله وأمانة وبركاته .
وقوله - سبحانه - { وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } كلام مستأنف مسوق للاحتراز والتحذير من سوء عاقبة المخالفة لأمر الله .
أى : أن الأمم التى ستكون من نسلك ومن نسل أتباعك يا نوح على قسمين : قسم منه له منا السلام ، وعليه البركات بسبب إيمانه وعمله الصالح .
وقسم آخر سمنتعه فى الدنيا وبالكثير من زينتها وخيراتها ، ثم يصيبه يوم القيامة عذاب أليم بسبب جحوده لنعمنا ، وعصيانه لرسلنا .
فعلى كل عاقل أن يجتهد فى أن يكون من القسم الأول ، وأن يتجنب القسم الثانى .
[ وقوله ]{[14647]} : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ]
يخبر تعالى عما قيل لنوح ، عليه السلام ، حين أرست السفينة على الجوديّ ، من السلام عليه ، وعلى من معه من المؤمنين ، وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة ، كما قال محمد بن كعب : دخل في هذا السلام كلّ مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ، وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة .
وقال محمد بن إسحاق : ولما أراد أن يكف{[14648]} الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض ، فسكن الماء ، وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر{[14649]} وأبواب السماء ، يقول الله تعالى{[14650]} : { وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ [ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] } {[14651]}
فجعل الماء ينقص ويَغيض ويُدْبِرُ ، وكان استواء الفلك على الجودي ، فيما يزعم أهل التوراة ، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه ، وفي أول يوم من الشهر العاشر ، رُئي رءوس الجبال . فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا ، فتح نوح كُوّة الفُلْك التي ركب{[14652]} فيها ، ثم أرسل الغرابَ لينظر له ما صنع الماء ، فلم يرجع إليه . فأرسل الحمامة فرجعت إليه ، لم تجد لرجليها موضعا ، فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها . ثم مضى{[14653]} سبعة أيام ، ثم أرسلها لتنظر له . فرجعت حين أمست ، وفي فيها وَرَق زيتون{[14654]} فعلم نوح أن الماء قد قَلّ عن وجه الأرض . ثم مكث سبعة أيام ، فلم ترجع ، فعلم نوح أن الأرض قد بَرَزَت ، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ، ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين ، برز وجه الأرض ، وظهر اليَبَس{[14655]} وكشف نوح غطاء الفلك ورأى وجه الأرض ، وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين ، في سبع وعشرين ليلة منه { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا [ وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ ] } {[14656]} [ إلى آخر ]{[14657]} الآية{[14658]} .
وقوله تعالى : { قيل يا نوح اهبط بسلام } كان هذا عند نزوله من السفينة مع أصحابه للانتشار في الأرض ، و «السلام » هنا السلامة والأمن ونحوه ، و «البركات » الخير والنمو في كل الجهات ، وهذه العدة تعم جميع المؤمنين إلى يوم القيامة ، قاله محمد بن كعب القرظي{[6383]} ؛ وقوله { ممن معك } أي من ذرية من معك ومن نسلهم ، ف { مَنْ } - على هذا - هي لابتداء الغاية ، أي من هؤلاء تكون هذه الأمم ، و { من } موصولة ، وصلتها { معك } وما يتقدر معها نحو قولك : ممن استقر معك ونحوه ، ثم قطع قوله : { وأمم } على وجه الابتداء إذ كان أمرهم مقطوعاً من الأمر الأول ، وهؤلاء هم الكفار إلى يوم القيامة .
فصلت الجملة ولم تعطف لوقوعها في سياق المحاورة بين نوح عليه السّلام وربّه ، فإنّ نوحاً عليه السّلام لما أجاب بقوله : { ربّ إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم } [ هود : 47 ] إلى آخره خاطبه ربه إتماماً للمحاورة بما يسكّن جأشهُ .
وكان مقتضى الظاهر أن يقول : قال يا نوح اهبط ، ولكنه عدل عنه إلى بناء الفعل للنائب ليجيء على وتيرة حكاية أجزاء القصة المتقدمة من قوله : { وقيل يا أرض ابلعي . . . وقيل بعداً للقوم الظالمين } [ هود : 44 ] فحصل بذلك البناء قضاء حق الإشارة إلى جزء القصة ، كما حصل بالفصل قضاء حق الإشارة إلى أن ذلك القول جزء المحاورة .
ونداء نوح عليه السّلام للتنويه به بين الملأ .
والهبوط : النزول . وتقدم في قوله : { اهبطوا مصراً } في سورة [ البقرة : 61 ] . والمراد : النزول من السفينة لأنّها كانت أعلى من الأرض .
والسّلام : التحيّة ، وهو مما يخاطب بها عند الوداع أيضاً ، يقولون : اذهب بسلام ، ومنه قول لبيد :
إلى الحول ثم اسْم السلام عليكما
وخطابه بالسلام حينئذٍ إيماء إلى أنه كان في ضيافة الله تعالى لأنه كان كافلاً له النجاة ، كما قال تعالى : { وحملناه على ذَات ألواحٍ ودُسرٍ تجري بأعيننا } [ القمر : 13 ، 14 ] .
وأصْل السّلام : السّلامة ، فاستعمل عند اللقاء إيذاناً بتأمين المرء ملاقيه وأنّه لا يضمر له سوءاً ، ثم شاع فصار قولاً عند اللقاء للإكرام . وبذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا : السّلام على الله ، فقوله هنا : { اهبط بسلام } نظير قوله : { ادخلوها بسلام آمنين } [ الحجر : 46 ] فإن السلام ظاهر في التحية لتقييده ب ( آمنين ) . ولو كان السّلام مراداً به السلامة لكان التقييد ب ( آمنين ) توكيداً وهو خلاف الأصل .
و { منا } تأكيد لتوجيه السّلام إليه لأنّ ( من ) ابتدائية ، فالمعنى : بسلام ناشىء من عندنا ، كقوله : { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] . وذلك كثير في كلامهم . وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشدُّ مبالغة من الذي لا تذكر معه ( من ) .
والباء للمصاحبة ، أي اهبط مصحوباً بسلام منّا . ومصاحبة السّلام الذي هو التّحية مصاحبة مجازية .
والبركات : الخيرات النامية ، واحدتها بركة ، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء .
ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح عليه السّلام ومن معه ، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم .
و ( عليك ) يتعلق ( بسلام ) و ( بركات ) وكذلك { وعلى أُمم ممن معك } .
والأمم : جمع أمة . والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس التي يَجمعها نسب إلى جدّ واحد . يقال : أمّة العرب ، أو لغةٌ مثل أمة الترك ، أو موطن مثل أمة أمريكا ، أو دين مثل الأمة الإسلامية ، ف { أمم } دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السّلام .
وليس الذين ركبوا في السفينة أمماً لقلة عددهم لقوله : { وما آمن معه إلاّ قليل } [ هود : 40 ] . وتنكير { أمم } لأنّه لم يقصد به التعميم تمهيداً لقوله : { وأمم سنمتعهم } .
و ( مِن ) في { ممّن معك } ابتدائية ، و ( مَن ) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح عليه السّلام في السفينة . ومنهم ابناؤه الثلاثة . فالكلام بشارة لنوح عليه السّلام ومن معه بأن الله يجعل منهم أمماً كثيرة يكونون محلّ كرامته وبركاته . وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمماً بخلاف ذلك ، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله : { وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم } .
وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحاً بالسلام والبركات وشرّك معه فيهما أمماً ناشئين ممن هم معه ، وفيهم الناشئون من نوح عليه السلام لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده . فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادىء بدء قبل نسلهم إذ عُنون عنهم بوصف معية نوح عليه السّلام تنبيهاً على سبب كرامتهم . وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح عليه السّلام ، فحصل تنويه نوح عليه السّلام وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع .
وجملة { وأمم سنمتعهم } إلخ ، عطف على جملة { اهبط بسلام منا } إلى آخرها ، وهي استئناف بياني لأنّها تبيين لما أفاده التنكير في قوله : { وعلى أمم ممن معك } من الاحتراز عن أمم آخرين . وهذه الواو تسمى استينافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة ، ويجوز أن تكون الواو للتقسيم ، والمقصود : تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا ، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذريّة نوح ولم يتبعوا سبيل جدّهم ، فأشعروا بأنّهم من الأمم التي أنبأ الله نوحاً بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم . ونظير هذا قوله تعالى : { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } [ الإسراء : 3 ] أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة .
وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدّم عند قوله تعالى : { وإن يمسسك الله بضرّ فلا كاشف له إلاّ هو } في [ الأنعام : 17 ] .
وذكر { منا } مع { يمسهم } لمقابلة قوله في ضدّه { بسلام منا } ليعلموا أنّ ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببّات العادية على أسبابها ، إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسّموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألْسنة الرسل ، فإنّ الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها . ومثاله ما هنا فقد بيّن لهم على لسان نوح عليه السّلام أنّه يمتع أمماً ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قيل يا نوح اهبط} من السفينة {بسلام منا} فسلمه الله ومن معه من الغرق، ثم قال: {وبركات عليك وعلى أمم ممن معك} في السفينة، يعنى بالبركة أنهم توالدوا وكثروا بعدما خرجوا من السفينة، ثم قال: {وأمم سنمتعهم} في الدنيا إلى آجالهم، {ثم يمسهم منا} يقول: يصيبهم منا {عذاب أليم} يعني وجيع، يعني بالأمم قوم هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، الذين أهلكهم الله في الدنيا بالعذاب بعد قوم نوح...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: يا نُوحُ اهْبطْ من الفلك إلى الأرض "بسَلامٍ منّا "يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا، "وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ" يقول: وبركات عليك، "وَعلى أُمَمٍ ممّنْ مَعَكَ" يقول: وعلى قرون تجيء من ذرّية من معك من ولدك، فهؤلاء المؤمنون من ذرّية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحا عما هو فاعل بأهل الشّقاء من ذريته، فقال له: "وَأُمَمٌ" يقول: وقرون وجماعة، "سَنُمَتّعُهُمْ" في الحياة في الدنيا يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم. "ثُمّ يَمُسّهُمْ مِنّا عَذَابٌ ألِيمٌ" يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابا مؤلما موجعا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ) السلامة: هي أن يسلم من الشرور والآفات، و البركة: هي نيل كل خير وبر على غير تبعة. ثم هما في التحصيل واحد؛ لأنه إذا سلم المرء من كل شر وآفة نال كل خير وبر، وإذا نال كل خير سلم من كل شر... ثم قوله تعالى: (اهبط بسلام منا) [يحتمل وجهين:
أحدهما: جائز أن يكون جواب قوله (وإلا تغفر لي وترحمني) أمَّنه مما خاف، وطلب منه المغفرة والرحمة.
والثاني: السلام منه هو الثناء الحسن كقوله (سلام على نوح في العالمين) [الصافات: 79].
(وبركات عليك) يحتمل أن يكون جواب قوله: (أنزلني منزلا مباركا) [المؤمنون: 29] والبركة: هو اسم كل خير لا انقطاع له، أو اسم كل شيء لا تبعة له عليه فيه.
(بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) على قول بعض أهل التأويل: ذلك السلام لما سلموا من الغرق، والبركات ما نالوا في الدنيا من الخيرات والمنافع...
ثم جعل عز وجل المؤمن والكافر مشتركين في منافع الدنيا وبركاتها، وجعل منافع الآخرة وبركاتها للمؤمنين خاصة بقوله: (العاقبة للمتقين) [الأعراف: 128 وهود: 49 والقصص: 83]... فذلك قوله: (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) أخبر أنه يمتعهم، ثم يصيبهم عذاب أليم، ويمتع المؤمن أيضا في هذه الدنيا بأنواع المنافع. ثم أخبر أن (العاقبة للمتقين) ثم جعل العاقبة بإزاء ما جعل لهم عذابا أليما؛ أعني الكفرة، والله أعلم. وقوله تعالى: (وعلى أمم ممن معك) ولم يكن مع نوح أمم يومئذ، إنما كان معه نفر، ولكنه أراد، والله أعلم، الأمم التي كانت من بعده. كأنه قال: وعلى أمم يكونون من بعدك. فهذا يدل أن دين الأنبياء والرسل عليهم السلام دين واحد وإن اختلفت شرائعهم لأن تلك الأمم لم يكونوا بأنفسهم مع نوح، ولا كانوا معه في العبادات التي كان فيها نوح. دل أنهم كانوا جميعا على دينه، وهو واحد، وعلى ذلك يخرج دعاؤه (رب اغفر لي ولوالدي) الآية [نوح: 28] دعاء بالمغفرة له ولكل مؤمن ومؤمنة، يكون من بعده، وكذلك يلحق كل كافر دعاؤه (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) [نوح: 28]...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" وعلى أمم ممن معك "فالأمة: الجماعة الكثيرة على ملة واحدة متفقة، لأنه من أمَّه يؤمه أمَّا إذا قصده، أو الاتفاق في المنطق على نحو منطق الطير والمأكل والمشرب والمنكح، حتى قيل: إن الكلاب أمة. وقيل في معناه -هنا- قولان: أحدهما -أنه أراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، فأخرج الله أمما من نسلهم وجعل فيهم البركة. وقال قوم: يعني بذلك الأمم من سائر الحيوان الذين كانوا معه، لأن الله تعالى جعل فيها البركة، وتفضل عليها بالسلامة حتى كان منها نسل العالم.
"وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم" معناه إنه يكون من نسلهم أمم سيمتعهم الله في الدنيا بضروب من النعم، فيكفرون نعمه ويجحدون ربوبيته، فيهلكهم الله. ثم يمسهم بعد ذلك عذاب مؤلم موجع...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طَهَّرَ وجهَ الأرضِ من أعدائه، وحفظ نوحاً عليه السلام من بلائه، هو ومن معه من أصدقائه وأقربائه. والأممُ التي أخبر أنه سَيُمَتِّعُهم ثم يَمَسُّهم العذابُ هم الذين ليسوا من أهل السعادة...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{منا وبركات عليك} وذلك أنه صار أبا البشر لأن جميع من بقي كانوا من نسله {وعلى أمم ممن معك} أي من أولادهم وذراريهم وهم المؤمنون وأهل السعادة إلى يوم القيامة {وأمم سنمتعهم} في الدنيا يعني الأمم الكافرة من ذريته إلى يوم القيامة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وبركات عليك) البركة: ثبوت الخير، ومنه بروك البعير. وقيل: إن البركة هاهنا هو أن الله سبحانه وتعالى جعله آدم الأصغر، فأهلك سائر من معه من غير نسل، وجعل النسل من ذريته إلى قيام الساعة. وقوله: (وعلى أمم ممن معك) معناه: على ذرية أمم ممن معك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى: أنّ السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشؤون ممن معك، وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار، وكان نوح عليه السلام أبا الأنبياء، والخلق بعد الطوفان منه وممن كان معه في السفينة...
المسألة الأولى: أنه تعالى أخبر عن السفينة أنها استوت على الجودي، فهناك قد خرج نوح وقومه من السفينة لا محالة، ثم إنهم نزلوا من ذلك الجبل إلى الأرض فقوله: {اهبط} يحتمل أن يكون أمرا بالخروج من السفينة إلى أرض الجبل. وأن يكون أمرا بالهبوط من الجبل إلى الأرض المستوية.
المسألة الثانية: أنه تعالى وعده عند الخروج بالسلامة أولا، ثم بالبركة ثانيا،
أما الوعد بالسلامة فيحتمل وجهين:
الأول: أنه تعالى أخبر في الآية المتقدمة أن نوحا عليه السلام تاب عن زلته وتضرع إلى الله تعالى بقوله: {وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين} وهذا التضرع هو عين التضرع الذي حكاه الله تعالى عن آدم عليه السلام عند توبته من زلته وهو قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} فكان نوح عليه السلام محتاجا إلى أن بشره الله تعالى بالسلامة من التهديد والوعيد فلما قيل له: {يا نوح اهبط بسلام منا} حصل له الأمن من جميع المكاره المتعلقة بالدين.
والثاني: أن ذلك الغرق لما كان عاما في جميع الأرض فعند ما خرج نوح عليه السلام من السفينة علم أنه ليس في الأرض شيء مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان كالخائف في أنه كيف يعيش وكيف يدفع جميع الحاجات عن نفسه من المأكول والمشروب، فلما قال الله تعالى: {اهبط بسلام منا} زال عنه ذلك الخوف، لأن ذلك يدل على حصول السلامة من الآفات ولا يكون ذلك إلا مع الأمن وسعة الرزق، ثم إنه تعالى لما وعده بالسلامة أردفه بأن وعده بالبركة هي عبارة عن الدوام والبقاء، والثبات، ونيل الأمل، ومنه بروك الإبل، ومنه البركة لثبوت الماء فيها، ومنه تبارك وتعالى، أي ثبت تعظيمه، ثم اختلف المفسرون في تفسير هذا الثبات والبقاء.
فالقول الأول: أنه تعالى صير نوحا أبا البشر، لأن جميع من بقي كانوا من نسله وعند هذا قال هذا القائل: إنه لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته ولم يحصل النسل إلا من ذريته، فالخلق كلهم من نسله وذريته، وقال آخرون: لم يكن في سفينة نوح عليه السلام إلا من كان من نسله وذريته، وعلى التقديرين فالخلق كلهم إنما تولدوا منه ومن أولاده، والدليل عليه قوله تعالى: {وجعلنا ذريته هم الباقين} فثبت أن نوحا عليه السلام كان آدم الأصغر، فهذا هو المراد من البركات التي وعده الله بها.
والقول الثاني: أنه تعالى لما وعده بالسلامة من الآفات، وعده بأن موجبات السلامة، والراحة والفراغة يكون في التزايد والثبات والاستقرار، ثم إنه تعالى لما شرفه بالسلامة والبركة شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: {وعلى أمم ممن معك} واختلفوا في المراد منه على ثلاثة أقوال... والمختار هو [هذا] القول..
واعلم أنه تعالى جعل تلك الأمم الناشئة من الذين معه على قسمين:
أحدهما: الذين عطفهم على نوح في وصول سلام الله وبركاته إليهم وهم أهل الإيمان.
والثاني: أمم وصفهم بأنه تعالى سيمتعهم مدة في الدنيا ثم في الآخرة يمسهم عذاب أليم، فحكم تعالى بأن الأمم الناشئة من الذين كانوا مع نوح عليه السلام لا بد وأن ينقسموا إلى مؤمن وإلى كافر. قال المفسرون: دخل في تلك السلامة كل مؤمن وكل مؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك المتاع وفي ذلك العذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، ثم قال أهل التحقيق: إنه تعالى إنما عظم شأن نوح بإيصال السلامة والبركات منه إليه، لأنه قال: {بسلام منا} وهذا يدل على أن الصديقين لا يفرحون بالنعمة من حيث إنها نعمة. ولكنهم إنما يفرحون بالنعمة من حيث إنها من الحق، وفي التحقيق يكون فرحهم بالحق وطلبهم للحق وتوجههم إلى الحق، وهذا مقام شريف لا يعرفه إلا خواص الله تعالى، فإن الفرح بالسلامة وبالبركة من حيث هما سلامة وبركة غير، والفرح بالسلامة والبركة من حيث إنهما من الحق غير، والأول: نصيب عامة الخلق، والثاني: نصيب المقربين...
وأما أهل العقاب فقد قال في شرح أحوالهم {وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم} فحكم بأنه تعالى يعطيهم نصيبا من متاع الدنيا فدل ذلك على خساسة الدنيا، فإنه تعالى لما ذكر أحوال المؤمنين لم يذكر البتة أنه يعطيهم الدنيا أم لا. ولما ذكر أحوال الكافرين ذكر أنه يعطيهم الدنيا، وهذا تنبيه عظيم على خساسة السعادات الجسمانية والترغيب في المقامات الروحانية...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كأنه قيل: ماذا أجيب عن ذلك؟ فقيل: {قيل} بالبناء للمفعول دلالة على العظمة والجلال الذي تكون الأمور العظيمة لأجله بأدنى إشارة {يا نوح اهبط} أي من السفينة {بسلام} أي عظيم {منا} أي ومن سلمنا عليه فلا هلك يلحقه {وبركات} أي خيرات نامية عظيمة صالحة {عليك} أي خاصة بك {وعلى أمم} ناشئة {ممن معك} لكونهم على ما يرضينا ولا نمتعهم بالدنيا إلا قليلاً، ولهم إذا رجعوا إلينا نعيم مقيم، وقد دخل في هذا الكلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة {وأمم} أي منهم {سنمتعهم} في الدنيا بالسعة في الرزق والخفض في العيش على وفق علمنا وإرادتنا ولا بركات عليهم منا ولا سلام، فالآية من الاحتباك: ذكر البركات والسلام أولاً دليلاً على نفيهما ثانياً، والمتاع ثانياً، دليلاً على حذفه أولاً {ثم يمسهم منا} أي في الدارين أو في الآخرة أو فيهما {عذاب أليم} لجريهم على غير هدينا وجرأتهم على ما يسخطنا، ويجوز أن يكون {وأمم} مبتدأ من غير تقدير صفة محذوفة، فيكون المسوغ للابتداء كون المقام مقام التفضيل؛ والعياذ: طلب النجاة بما يمنع من الشر؛ والبركة: ثبوت الخير بنمائه حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك والبركة لثبوت الماء فيها...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{بسلام} أي ملتبساً بسلامة مما تكره كائنة {مِنَّا} أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلماً عليك من جهتنا {وبركات عَلَيْكَ} أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركاً عليك أي مدعواً لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كانت خاتمة المطاف: النجاة والبشرى له ولمن يؤمن من ذريته؛ والوعيد والتهديد لمن يريدون منهم متاع الحياة الدنيا ثم يمسهم العذاب الأليم.. ذات البشرى وذات الوعيد، اللذان مرا في مقدمة السورة. فجاء القصص ليترجمهما في الواقع المشهود...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البركات: الخيرات النامية، واحدتها بركة، وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء. ولما كان الداعون بلفظ التحيّة إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح عليه السّلام ومن معه، فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم...
و (مِن) في {ممّن معك} ابتدائية، و (مَن) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح عليه السّلام في السفينة. ومنهم ابناؤه الثلاثة. فالكلام بشارة لنوح عليه السّلام ومن معه بأن الله يجعل منهم أمماً كثيرة يكونون محلّ كرامته وبركاته. وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمماً بخلاف ذلك، ولذلك عطف على هذه الجملة قوله: {وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم}. وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحاً بالسلام والبركات وشرّك معه فيهما أمماً ناشئين ممن هم معه، وفيهم الناشئون من نوح عليه السلام لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده. فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عُنون عنهم بوصف معية نوح عليه السّلام تنبيهاً على سبب كرامتهم. وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح عليه السّلام، فحصل تنويه نوح عليه السّلام وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع. وجملة {وأمم سنمتعهم} إلخ، عطف على جملة {اهبط بسلام منا} إلى آخرها، وهي استئناف بياني لأنّها تبيين لما أفاده التنكير في قوله: {وعلى أمم ممن معك} من الاحتراز عن أمم آخرين...
والمقصود: تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا، والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذريّة نوح ولم يتبعوا سبيل جدّهم، فأشعروا بأنّهم من الأمم التي أنبأ الله نوحاً بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ} فقد منحه الله نعمة السلام الروحيّ المتمثل في الطمأنينة النفسية التي تشيع في داخله، والسلام الإلهيّ الذي يتمثل في رحمة الله المرفرفة حوله. كما أعطاه نعمة البركات الفيّاضة التي تجعل منه عنصر خير ونفع للناس وللحياة من حوله، {وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} أي واهبط أنت وأمم معك بسلام منا وبركات، لأنهم اتبعوك وآمنوا بك، وشاركوك في خط جهادك الطويل، فكان لهم من الخير والثواب ما كان لك، {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} وهذه جملة مستأنفةً تشير إلى أن المستقبل سيتمخّض عن أممٍ أخرى لا تؤمن بك وبالرسالات والرسل من بعدك، بل تتحرك في خط الكفر والضلال والعصيان، وسنمتّعهم ما امتدت بهم الحياة التي قدّرناها لهم، ولكنهم لن يفلتوا من العقاب، مهما امتدّ بهم العمر، وأقبلت عليهم الحياة، بل سيواجهون نتائج المسؤولية وجهاً لوجه يوم القيامة {ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}...