وقوله : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس . . } تعليل لسؤال إبراهيم ربه أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام .
أى : يا رب لقد تضرعت إليك بأن تعصمنى وبنىّ عن عبادة الأصنام ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس عن اتباع الحق ، وعن الهداية إلى الصراط المستقيم .
وأسند الإضلال إليها مع أنها جمادات لا تعقل ، لأنها كانت سببا فى إضلال كثير من الناس ، فكأنها أضلتهم ، فنسبة الإضلال إليها مجازية من باب نسبة الشئ إلى سببه ، كما يقال : فلان فتنته الدنيا وأضلته ، وهو إنما فتن وضل بسببها .
وقوله - سبحانه - { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } بيان لموقفه - عليه السلام - من المهتدين والضالين .
أى : فمن تبعنى من الناس فى ديني وعقيدتى ، فإنه يصير بهذا الاتباع من أهل دينى وهو دين الإِسلام ، ومن عصانى ولم يقبل الدخول فى الدين الحق ، فإنى أفوض أمره إليك ، فأنت - سبحانك - لا تسأل عما تفعل وغيرك يسأل .
فالجملة الكريمة تدل على الأدب السامى ، والخلق العالى ، الذى كان يتحلى به إبراهيم - عليه السلام - فى مخاطبته لربه - عز وجل - حيث فوض الأمور إليه دون أن يقطع فيه برأى ، كما تدل على رقة قلبه وشفقته على العصاة من الوقوع فى العذاب الأليم .
وشبيه بهذه الآية ما حكاه - سبحانه - عن عيسى - عليه السلام - فى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } هذا ، ولا نرى وجها لما ذهب إليه بعض المفسرين ، من أن قول إبراهيم - عليه السلام - { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كان قبل أن يعلم بأن الله لا يغفر الشرك ، أو أن المراد بالمعصية هنا ما دون الشرك ، أون المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك . . "
نقول : لا نرى وجها لكل ذلك ، لأن الجملة الكريمة ليس المقصود بها الدعاء بالمغفرة لمن عصى ، وإنا المقصود بها تفويض أمر العصاة إلى الله - تعالى - إن شاء غفر لهم ورحمهم ، وإن شاء عذبهم .
قال عبد الله بن وهب : حدثنا عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سَوَادة حدثه ، عن عبد الرحمن بن جُبَير{[15971]} عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وقول{[15972]} عيسى عليه السلام : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ورفع يديه ، [ ثم ]{[15973]} قال : " اللهم أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي " ، وبكى فقال الله : [ يا جبريل ]{[15974]} اذهب إلى محمد - وربك أعلم وسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل ، عليه السلام ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال ، [ قال ]{[15975]} فقال الله : اذهب إلى محمد ، فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك{[15976]} .
ونسب إلى الأصنام أنها أضلت كثيراً من الناس - تجوز - إذ كانت عرضة الإضلال ، والأسباب المنصوبة للغيّ ، وعليها تنشأ الأغيار ، وحقيقة الإضلال إنما هي لمخترعه ، وقيل : أراد الأصنام هنا الدنانير والدراهم .
وقوله : { ومن عصاني } ظاهره بالكفر ، بمعادلة قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، وإذا كان ذلك كذلك فقوله : { فإنك غفور رحيم } معناه : بتوبتك على الكفرة حتى يؤمنوا ، لا أنه أراد أن الله يغفر لكافر ، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب - صلى الله عليه وسلم - قال قتادة : اسمعوا قول الخليل صلى الله عليه وسلم ، والله ما كانوا طعانين ولا لعانين ، وكذلك قال نبي الله عيسى { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }{[2]} [ المائدة : 118 ] وأسند الطبري عن عبد الله بن عمر حديثاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم : تلا هاتين الآيتين ثم دعا لأمته ، فبشر فيهم{[3]} وكان إبراهيم التيمي يقول : من يأمن على نفسه بعد خوف إبراهيم الخليل على نفسه من عبادة الأصنام ؟ .
إعادة النداء في قوله : { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } لإنشاء التحسر على ذلك .
وجملة { إنهن أضللن كثيراً من الناس } تعليل للدعوة بإجنابه عبادتها بأنها ضلال راج بين كثير من الناس ، فحق للمؤمن الضنين بإيمانه أن يخشى أن تجترفه فتنتها ، فافتتاح الجملة بحرف التوكيد لما يفيده حرف ( إنّ ) في هذا المقام من معنى التعليل .
وذلك أن إبراهيم عليه السلام خرج من بلده أُور الكلدانيين إنكاراً على عبدة الأصنام ، فقال : { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ سورة الصافات : 99 ] وقال لقومه : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ سورة مريم : 48 ] . فلما مر بمصر وجدهم يعبدون الأصنام ثم دخل فلسطين فوجدهم عبدة أصنام ، ثم جاء عَرَبَةَ تهامة فأسكن بها زوجه فوجدها خالية ووجد حولها جُرْهمَ قوماً على الفطرة والسذاجة فأسكن بها هاجر وابنه إسماعيل عليه السلام . ثم أقام هنالك مَعلَم التوحيد . وهو بيت الله الكعبة بناه هو وابنه إسماعيل ، وأراد أن يكون مأوى التوحيد ، وأقام ابنه هنالك ليكون داعية للتوحيد . فلا جرم سأل أن يكون ذلك بلداً آمناً حتى يسلم ساكنوه وحتى يأوي إليهم من إذا آوى إليهم لقنوه أصول التوحيد .
ففرع على ذلك قوله : { فمن تبعني فإنه مني } ، أي فمن تبعني من الناس فتجنب عبادة الأصنام فهو مني ، فدخل في ذلك أبوه وقومه ، ويدخل فيه ذريته لأن الشرط يصلح للماضي والمستقبل .
و ( من ) في قوله : { مِني } اتصالية . وأصلها التبعيض المجازي ، أي فإنه متصل بي اتصال البعض بكله .
وقوله : { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } تأدب في مقام الدعاء ونفع للعصاة من الناس بقدر ما يستطيعه . والمعنى ومن عصاني أفوّض أمره إلى رحمتك وغفرانك . وليس المقصود الدعاء بالمغفرة لمن عصى . وهذا من غلبة الحلم على إبراهيم عليه السلام وخشية من استئصال عصاة ذريته . ولذلك متعهم الله قليلاً في الحياة الدنيا ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير } [ سورة البقرة : 126 ] وقوله : { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين } [ سورة الزخرف : 27 ] . وسوق هذه الدعوة هنا للتعريض بالمشركين من العرب بأنهم لم يبروا بأبيهم إبراهيم عليه السلام .
وإذ كان قوله : { فإنك غفور رحيم } تفويضاً لم يكن فيه دلالة على أن الله يغفر لمن يشرك به .