ثم بين - سبحانه - حالهم يوم القيامة ، وأنهم سيكونون على مثل حالهم فى الدنيا من الكذب والفجور . . فقال - تعالى - { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } .
أي : اذكر - أيها الرسول الكريم - يوم يبعث الله - هؤلاء المنافقين جميعا للحساب والجزاء { فيحلفون } لله - تعالى - فى الآخرة بأنهم مسلمون { كما } كانوا { يحلفون لكم } فى الدنيا بأنهم مسلمون .
{ ويحسبون }فى الآخرة - لغبائهم وانطماس بصائرهم { أنهم } بسبب تلك الأيمان الفاجرة { على شىء } من جلب المنفعة أو دفع المضرة .
أي يتوهمون فى الآخرة أن هذه الأيمان قد تنفعهم فى تخفيف شيء من العذاب عنهم .
{ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } أي الذين بلغوا فى الكذب حدا لا غاية وراءه .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد بينت أن هؤلاء المنافقين في الدنيا ، قد بعثوا والنفاق ما زال فى قلوبهم ، وسلوكهم القبيح لا يزال متلبسا بهم ، فهم لم يكتفوا بكذبهم على المؤمنين فى الدنيا ، بل وفي الآخرة - أيضا - يحلفون لله - تعالى - بأنهم كانوا مسلمين .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وقوله - سبحانه - : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية : يعنى ليس العجب من حلفهم لكم - فى الدنيا بأنهم مسلمون - فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر ، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة - بأنهم كانوا مسلمين فى الدنيا . والمراد وصفهم بالتوغل فى نفاقهم ، ومرونهم عليه ، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل .
وقال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ } حذفت صفة شيء ، لظهور معناها من المقام ، أي ويحسبون أنهم على شيء نافع .
وهذا يقتضى توغلهم في النفاق ، ومرونتهم عليه ، وأنه باق في أرواحهم بعد بعثهم ، لأن نفوسهم خرجت من الدنيا متخلقة به ، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثا في عالم التكليف .
وفي الحديث : أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن رجلا من أهل الجنة يستأذن ربه أن يزرع ، فيقول الله له : أولست فيما شئت ؟ قال : بلى يا ربي ولكن أحب أن أزرع ، فأسرع وبذر ، فيبادر الطرفَ نباتُه واستواؤُه واستحصادُه أمثالَ الجبال ، وكان رجل من أهل البادية عند النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله لا نجد هذا الرجل إلا قرشيا أو أنصاريا ، فإنهم أصحاب زرع ، فأما نحن - أي أهل البادية - فلسنا بأصحاب زرع ، فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقرارا لما فهمه الأعرابي " .
وفى حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه ، " أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال : يبعث كل عبد على ما مات عليه " .
قال عياض : هو عام في كل حالة مات عليها المرء ، وقال السيوطى : يبعث الزمار بمزماره ، وشارب الخمر بقدحه . قلت : " ثم تتجلى لهم الحقائق على ما هي عليه ، إذ تصير العلوم على الحقيقة " .
ثم قال :{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا } أي : يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحدًا ، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : يحلفون بالله{[28467]} عز وجل ، أنهم كانوا على الهدى والاستقامة ، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ؛ لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ، ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس ، فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ؛ ولهذا قال :{ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : حلفهم ذلك لربهم ، عز وجل .
ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم{[28468]}{ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } فأكد الخبر عنهم بالكذب .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا زهير ، عن{[28469]} سمَاك بن حرب ، حدثني سعيد بن جُبَير ؛ أن ابن عباس حدثه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حُجَره ، وعنده نفر من المسلمين قد كان يَقلصُ عنهم الظل ، قال : " إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان ، فإذا أتاكم فلا تكلموه " . فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فقال : " علام تشتمني أنت وفلان وفلان ؟ " - نفر دعاهم بأسمائهم - قال : فانطلق الرجل فدعاهم ، فحلفوا له واعتذروا إليه ، قال فأنزل الله ، عز وجل :{ فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ } . وهكذا رواه الإمام أحمد من طريقين ، عن سماك ، به{[28470]} ، ورواه ابن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن سماك ، به نحوه{[28471]} ، وأخرجه أيضًا من حديث سفيان الثوري ، عن سماك ، بنحوه . إسناد جيد ولم يخرجوه .
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول :{ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 23 ، 24 ] .
والعامل في قوله { يوم يبعثهم } ، { أصحاب } على تقدير فعل ، وأخبر الله تعالى عنهم في هذه الآية أنه ستكون لهم أيمان يوم القيامة وبين يدي الله يخيل إليهم بجهلهم أنها تنفعهم وتقبل منهم ، وهذا هو حسابهم { أنهم على شيء } ، أي على فعل نافع لهم ، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي : قال النبي عليه السلام : «ينادي مناد يوم القيامة : أين خصماء الله ، فتأتي القدرية مسودة وجوههم زرقة أعينهم ، فيقولون والله ما عبدنا شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك ولياً » ، قال ابن عباس : صدقوا والله ولكن أتاهم الإشراك من حيث لا يعلمون ، ثم تلا ابن عباس هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {يوم يبعثهم الله جميعا} يعني المنافقين {فيحلفون له كما يحلفون لكم} وذلك أنهم كانوا إذ قالوا شيئا أو عملوا شيئا وأرادوه، سألهم المؤمنون عن ذلك، فيقولون: والله لقد أردنا الخير فيصدقهم المؤمنون بذلك، فإذا كان يوم القيامة سئلوا عن أعمالهم الخبيثة فاستعانوا بالكذب كعادتهم في الدنيا فذلك قوله يحلفون لله في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا، {ويحسبون أنهم على شيء} من الدين فلن يغني عنهم ذلك من الله شيئا، {ألا إنهم هم الكاذبون} في قولهم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرهم هم أصحاب النار، يوم يبعثهم الله جميعا، فيوم من صلة أصحاب النار، وعُني بقوله {يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّهُ جَمِيعا} من قبورهم أحياء كهيئاتهم قبل مماتهم، فيحلفون له كما يحلفون لكم كاذبين مبطلين فيها... وقوله: {وَيحْسَبُونَ أنّهُمْ على شَيْءٍ} يقول: ويظنون أنهم في أيمانهم وحلفهم بالله كاذبين على شيء من الحقّ.
{ألا إنّهُمْ هُمُ الكاذِبُونَ} فيما يحلفون عليه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عقوبتُهم الكبرى ظَنُّهم أنَّ ما عَمِلوا مع الخَلْقِ يتمشَّى أيضاً في مُعَاملةِ الحقِّ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَيَحْلِفُونَ} لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} في الدنيا على ذلك، {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شيء} من النفع، يعني: ليس العجب من حلفهم لكم، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر، وأن لهم نفعاً في ذلك دفعاً عن أرواحهم واستجرار فوائد دنيوية، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة مع عدم النفع والاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل، والمراد: وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باق فيهم لا يضمحل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والتشبيه في قوله: {كما يحلفون لكم} في صفة الحلف، وهي قولهم: إنهم غير مشركين، وفي كونه حلفاً على الكذب، وهم يعلمون...
{ويحسبون أنهم على شيء} يظنون يومئذٍ أن حلفهم يفيدهم تصديقَهم عند الله فيحسبون أنهم حصّلوا شيئاً عظيماً، أي نافعاً. و {على} للاستعلاء المجازي وهو شدة التلبس بالوصف ونحوِه...
{ألا إنهم هم الكاذبون} وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله: {ويحلفون على الكذب} [المجادلة: 14]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: {إنهم هم الكاذبون} وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيداً لمفاد الحصر الادعائي، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنهم يلازمهم يوم البعث.