لقد صرحت السورة الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا ، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال - تعالى - : { فَكَذَّبُوهُ } أى : فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا ، وأصروا على التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، ومع أنه مكث فيهم " ألف سنة إلا خمسين عاما " كانت نتيجة ذلك - كما حكى القرآن :
{ فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك } أى : فأنجيناه من الغرق هو والذين آمنوا معه بأن حملناهم في السفينة التي صنعها . والفاء في { فَأَنجَيْنَاهُ } للسببية .
قيل كان عدد الذين آمنوا معه أربعين رجلا وأربعين امرأة . وقيل غير ذلك . والقرآن قد صرح بأن المؤمنين به كانوا قلة ، فقال : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } عمين : جمع عم صفة مشبهة ، يقال : هو عم - كفرح - لأعمى البصيرة .
أى : وأغرقنا بالطوفان أولئك الذين كذبوا بآياتنا من قوم نوح لأنهم كانوا قوماً عمى البصائر عن الحق والإيمان لا تنفع فيهم المواعظ ولم يجد معهم التذكير .
وهذه سنة الله في خلقه أن جعل حسن العاقبة للمؤمنين ، وسوء العذاب للجاحدين . { ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين الذين اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } .
إفاضة الماء : صبه ، ومادة الفيض فيها معنى الكثرة .
والمعنى : أن أهل النار - بعد أن أحاط بهم العذاب المهين - أخذوا يستجدون أهل الجنة بذلة وانكسار فيقولون لهم : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله من طعام ، لكى نستعين بهما على ما نحن فيه من سموم وحميم .
وهنا يرد عليهم أهل الجنة بما يقطع آمالهم بسبب أعمالهم فيقولون لهم : إن الله منع كلا منهما على الكافرين ، الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ، أى الذين اتخذوا دينهم - الذي أمرهم الله باتباع أوامره واجتناب نواهيه - مادة للسخرية والتلهى ، وصرف الوقت فيما لا يفد ، فأصبح الدين - في زعمهم - صورة ورسوما لا تزكى نفساً ، ولا تطهر قلباً ، ولا تهذب خلقا وهم فوق ذلك قد غرتهم الحياة الدنيا - أى شغلتهم بمتعها ولذائذها وزينتها عن كل ما يقربهم إلى الله ، ويهديهم إلى طريقه القويم .
وقوله - تعالى - : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } معناه فاليوم نفعل بهم فعل الناسى بالمنسى من عدم الاعتناء بهم وتركهم في النار تركا كليا بسبب تركهم الاستعداد لهذا اليوم ، وبسبب جحودهم لآياتنا التي جاءتهم بها أنبياؤهم .
فالنسيان في حق الله - تعالى - مستعمل في لازمه ، بمعنى أن الله لا يجيب دعاءهم ، ولا يرحم ضعفهم وذلهم ، بل يتركهم في النار كما تركوا الإيمان والعمل الصالح في الدنيا .
وهكذا تسوق لنا السورة الكريمة مشاهد متنوعة لأهوال يوم القيامة ، فتحكى لنا أحوال الكافرين ، كما تصور لنا ما أعده الله للمؤمنين . كما تسوق لنا ما يدور بين الفريقين من محاورات ومناقشات فيها العبر والعظات { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيد }
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي : فتمادوا{[11855]} على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة ، كما قال : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ] { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح : 25 ]
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي : عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له .
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{[11856]} } [ غافر : 51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة{[11857]} للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح [ عليه االسلام ]{[11858]} بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين .
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح [ عليه السلام ]{[11859]} إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز .
وقال ابن وَهْب : بلغني عن ابن عباس : أنه نجا مع نوح [ عليه السلام ]{[11860]} في السفينة ثمانون رجلا أحدهم " جُرْهم " ، وكان لسانه عربيا .
رواهن{[11861]} ابن أبي حاتم . وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فكذّب نوحا قومُه ، إذ أخبرهم أنه لله رسول إليهم يأمرهم بخلع الأنداد والإقرار بوحدانية الله والعمل بطاعته ، وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون ، فأنجاه الله في الفلك والذين معه من المؤمنين به . وكانوا بنوح عليه السلام ثلاث عشرة ، فيما :
حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : نوح وبنوه الثلاثة : سام ، وحام ، ويافث وأزواجهم ، وستة أناسيّ ممن كان آمن به .
وكان حمل معه في الفُلك من كلّ زوجين اثنين ، كما قال تبارك وتعالى : وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ . والفُلك : هو السفينة . وأغْرَقْنا الّذِينَ كَذّبُوا بآياتِنا يقول : وأغرق الله الذين كذّبوا بحججه ولم يتبعوا رسله ولم يقبلوا نصيحته إياهم في الله بالطوفان . إنّهُمْ كانُوا قَوْما عَمِينَ يقول : عمين عن الحقّ . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : عَمِينَ قال : عن الحقّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : قَوْما عَمِينَ قال : العَمِي : العامي عن الحقّ .
وقع التّكذيب من جميع قومه : من قادتهم ، ودهمائهم ، عدا بعضَ أهل بيته ومن آمَن به عقب سماع قول نوح ، فعُطف على كلامه بالفاء أي صدر منهم قول يقتضي تكذيب دعوى أنّه رسول من ربّ العالمين يبلِّغ وينصَح ويعلَم ما لا يعلمون ، فصار تكذيباً أعم من التّكذيب الأوّل ، فهو بالنّسبة للملأ يَؤول إلى معنى الاستمرار على التّكذيب ، وبالنّسبة للعامة تكذيب أنُف ، بعد سماع قول قَادتهم وانتهاء المجادلة بينهم وبين نوح ، فليس الفعل مستعملاً في الاستِمرار كما في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله } [ النساء : 136 ] إذ لا داعي إليه هنا ، وضمير الجمع عائد إلى القوم ، والفاء في قوله : { فأنجيناه } للتّعقيب ، وهو تعقيب عُرفي : لأنّ التّكذيب حصل بعده الوَحْيُ إلى نوح بأنّه لن يؤمن من قومه إلاّ مَن قد آمن ، ولا يُرجى زيادة مؤمن آخر ، وأمرُه بأن يدخل الفلك ويحملَ معه مَن آمن إلى آخر ما قصّه الله في سورة هود .
وقدم الإخبار بالإنجاء على الإخبار بالإغراق ، مع أنّ مقتضى مقام العبرة تقديم الإخبار بإغراق المنكرين ، فقدم الإنجاء للاهتمام بإنجاء المؤمنين وتعجيلاً لمسرة السّامعين من المؤمنين بأنّ عادة الله إذا أهلك المشركين أن ينجي الرّسول والمؤمنين ، فذلك التّقديم يفيد التّعريض بالنّذارة ، وإلاّ فإنّ الإغراق وقع قبل الإنجاء ، إذ لا يظهر تحقّق إنجاء نوح ومن معه إلاّ بعد حصول العذاب لمن لم يؤمنوا به ، فالمعقّب به التّكذيب ابتداءً هو الإغراق ، والإنجاء واقع بعده ، وليتأتى هذا التّقديم عطف فعل الإنجاء بالواو المفيدة لمطلق الجمع ، دون الفاء .
وقوله : { في الفلك } متعلّق بمعنى قوله : { معه } لأنّ تقديره : استقرّوا معه في الفلك ، وبهذا التّعليق عُلم أنّ الله أمره أن يحمل في الفلك معشراً ، وأنّهم كانوا مصدّقين له ، فكان هذا التّعليق إيجازاً بديعاً .
والفُلك تقدّم في قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض } في سورة البقرة ( 164 ) .
{ والذين معه } هم الذين آمنوا به ، وسنذكر تعيينهم عند الكلام على قصّته في سورة هود .
والإتيان بالموصول في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } دون أن يقال : وأغرقنا سائرهم ، أو بقيتهم ، لما تؤذن به الصّلة من وجه تعليل الخبر في قوله : { وأغرقنا } أي أغرقناهم لأجل تكذيبهم .
وجملة : { إنهم كانوا قوماً عمين } تتنزل منزلة العلّة لجملة { أغرقنا } كما دلّ عليه حرف ( إن ) لأنّ حرف ( إن ) هنا لا يقصد به ردّ الشكّ والتَّرَدّد ، إذ لا شكّ فيه ، وإنّما المقصود من الحرف الدّلالة على الاهتمام بالخبر ، ومن شأن ( إن ) إذا جاءت للاهتمام أن تقوم مقام فَاء التّفريع ، وتفيدَ التّعليل وربط الجملة بالتي قبلها . ففصل هذه الجملة كَلاَ فَصْل .
و { عَمِين } جمع عَمٍ جمع سلامة بواو ونون . وهو صفة على وزن فَعِل مثل أشِر ، مشتق من العمَى ، وأصله فقدان البصر ، ويطلق مجازاً على فقدان الرأي النّافع ، ويقال : عَمَى القَلْبِ ، وقد غلب في الكلام تخصيص الموصوف بالمعنى المجازي بالصّفة المشبَّهة لدلالتها على ثبوت الصّفة ، وتمكّنها بأن تكون سجية وإنّما يصدّق ذلك في فقد الرّأي ، لأنّ المرء يخلق عليه غالباً ، بخلاف فقد البصر ، ولذلك قال تعالى هنا { عَمِين } ولم يقل عُمْياً كما قال في الآية الأخرى { عُمْياً وبكماً وصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ومثله قول زهير :
ولكنّني عن عِلْمِ مَا فِي غدٍ عَمِ
والذين كذّبوا كانوا عمين لأنّ قادتهم دَاعون إلى الضّلالة مؤيّدونها ، ودهماؤهم متقبّلون تلك الدّعوة سمَّاعون لها .
وقد دلّت هذه القصّة على معنى عظيم في إرادة الله تعالى تطوّرَ الخلق الإنساني : فإنّ الله خلق الإنسان في أحسن تقويم ، وخلق له الحسّ الظاهر والحِسّ الباطن ، فانتفع باستعمال بعض قواه الحسيَّة في إدراك أوائل العلوم ، ولكنّه استعمل بعض ذلك فيما جلَب إليه الضرّ والضّلال ، وذلك باستعمال القواعد الحِسّية فيما غاب عن حسِّه وإعانتها بالقوى الوهميّة والمخيَّلة ، ففكّر في خالقه وصفاته فتوهّم له أنداداً وأعواناً وعشيرة وأبناء وشركاءَ في مُلكه ، وتفاقم ذلك في الإنسان مع مرور الأزمان حتّى عاد عليه بنسيان خالقه ، إذ لم يَدخل العلمُ به تحت حواسه الظّاهرة ، وأقبل على عبادة الآلهة الموهومة حيث اتّخذ لها صُوراً محسوسة ، فأراد الله إصلاح البشر وتهذيبَ إدراكهم ، فأرسل إليهم نوحاً فآمن به قليل من قومه وكفر به جمهورهم ، فأراد الله انتخاب الصّالحين من البشر الذين قبلت عقولهم الهدى ، وهم نوح ومن آمن به ، واستيصال الذين تمكّنت الضّلالة من عقولهم ليُنشىء من الصّالحين ذرّية صالحة ويَكْفِيَ الإنسانيّة فساد الضّالين ، كما قال نوح : { إنَّك إنْ تَذَرْهُمْ يُضِلوا عبادَك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفَّارا } [ نوح : 27 ] ، فكانت بعثة نوح وما طرأ عليها تجديداً لصلاح البشر وانتخاباً للأصْلَح .