ثم حكت لنا السورة الكريمة بعد ذلك ، ما كان منه عندما توجه إلى جهة مدين ، وما حصل له فى تلك الجهة من أحداث ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ . . . } .
لفظ { تِلْقَآءَ } فى قوله - تعالى - : { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } منصوب على الظرفية المكانية ، وهو فى الأصل اسم مصدر . يقال دارى تلقاء دار فلان ، إذا كانت محاذية لها .
و { مَدْيَنَ } اسم لقبيلة شعيب - عليه السلام - أو لقريته التى كان يسكن فيها ، سميت بذلك نسبه إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - .
وإنما توجه إليها موسى - عليه السلام - ، لأنها لم تكن داخلة تحت سلطان فرعون وملئه .
أى : وبعد أن خرج موسى من مصر خائفا يترقب ، صرف وجهه إلى جهة قرية مدين التى على أطراف الشام جنوبا ، والحجاز شمالا .
صرف وجهه إليها مستسلماً لأمر ربه ، متوسلا إليه بقوله : { عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } .
أى : قال على سبيل الرجاء فى فضل الله - تعالى - وكرمه : عسى ربى الذى خلقنى بقدرته ، وتولانى برعايته وتربيته ، أن يهدينى ويرشدنى إلى أحسن الطرق التى تؤدى بى إلى النجاة من القوم الظالمين .
فالمراد بسواء السبيل : الطريق المستقيم السهل المؤدى . إلى النجاة ، من إضافة الصفة إلى الموضوف أى : عسى أن يهدينى ربى إلى الطريق الوسط الواضح .
وقوله : ولَمّا تَوَجّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ يقول تعالى ذكره : ولِما جعل موسى وجهه نحو مدين ، ماضيا إليها ، شاخصا عن مدينة فرعون ، وخارجا عن سلطانه ، قال : عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ وعنى بقوله : «تلقاء » : نحو مدين ويقال : فعل ذلك من تلقاء نفسه ، يعني به : مِن قِبَل نفسه ويقال : داره تلقاءَ دار فلان : إذا كانت محاذيتها ، ولم يصرِف اسم مدين لأنها اسم بلدة معروفة ، كذلك تفعل العرب بأسماء البلاد المعروفة ومنه قول الشاعر :
رُهْبانُ مَدْيَنَ لَوْ رأوْكِ تَنزّلُوا *** والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العُقولِ الفادِرِ
وقوله : عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ يقول : عسى ربي أن يبين لي قصد السبيل إلى مدين ، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن يعرف الطريق إليها .
وذُكر أن الله قيّض له إذ قال : رَبّ نَجّنِي مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ ملَكا سدّده الطريق ، وعرفه إياه . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما أخذ موسى في بنيات الطريق جاءه مَلَك على فرس بيده عَنْزة فلما رآه موسى سجد له من الفَرَق قال : لا تسجد لي ولكن اتبعني ، فاتبعه ، فهداه نحو مدين . وقال موسى وهو متوجه نحو مدين : عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ فانطلق به حتى انتهى به إلى مَدين .
حدثنا العباس ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : خرج موسى متوجها نحو مدين ، وليس له علم بالطريق إلاّ حُسن ظنه بربه ، فإنه قال عَسَى رَبي أنْ يَهْدِينِي سَوَاءَ السّبِيلِ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ذُكِرَ لي أنه خرج وهو يقول : رَبّ نَجّنِي منَ القَوْمِ الظّالِمِينَ فهيأ الله الطريق إلى مدين ، فخرج من مصر بلا زاد ولا حذاء ولا ظهر ولا درهم ولا رغيف ، خائفا يترقب ، حتى وقع إلى أمة من الناس يسقون بمَدين .
حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المَرْوِزِيّ ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَير ، قال : خرج موسى من مصر إلى مَدْين ، وبينها وبينها مسيرة ثمان ، قال : وكان يُقال نحو من الكوفة إلى البصرة ، ولم يكن له طعام إلاّ وَرَق الشجر ، وخرج حافيا ، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عَثّام ، قال : حدثنا الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : لما خرج موسى من مصر إلى مدين ، وبينه وبينها ثمان ليال ، كان يقال : نَحوٌ من البصرة إلى الكوفة ثم ذكر نحوه . ومدين كان بها يومئذٍ قوم شعيب عليه السلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَلما تَوَجّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ومدين : ماء كان عليه قوم شعيب قالَ عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ .
وأما قوله : سَوَاءَ السّبِيلِ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله نحو قولنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد سَوَاءَ السّبِيلِ قال : الطريق إلى مدين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة قالَ عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ قال : قصد السبيل .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا عَبّاد بن راشد ، عن الحسن عَسَى رَبّي أنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السّبِيلِ قال : الطريق المستقيم .
ولما خرج موسى عليه السلام فاراً بنفسه منفرداً حافياً لا شيء معه ، رأى حاله وعدم معرفته بالطريق وخلوه من الزاد وغيره فأسند أمره إلى الله تعالى و { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } ، وهذه الأقوال منه تقتضي أنه كان عارفاً بالله تعالى عالماً بالحكمة والعلم الذي آتاه الله تعالى ، و { توجه } ، رد وجهه إليها ، و { تلقاء } معناه ناحية ، أي إلى الجهة التي يلقى فيها الشيء المذكور ، و { سواء السبيل } معناه وسطه وقويمه ، وفي هذا الوقت بعث الله تعالى الملك المسدد حسبما ذكرناه قبل وقال مجاهد : أراد ب { سواء السبيل } طريق مدين وقال الحسن : أراد سبيل الهدى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا أبدع ونظيره قول الصديق عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا الذي يهديني السبيل » الحديث{[1]} .
هذه هجرة نبوية تشبه هجرة إبراهيم عليه السلام إذ قال { إني مهاجر إلى ربي } [ العنكبوت : 26 ] . وقد ألهم الله موسى عليه السلام أن يقصد بلاد مدين إذ يجد فيها نبيئاً يبصره بآداب النبوءة ولم يكن موسى يعلم إلى أين يتوجه ولا من سيجد في وجهته كما دل عليه قوله { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } .
فقوله تعالى { ولما توجه تلقاء مدين } عطف على جمل محذوفة إذ التقدير : ولما خرج من المدينة هائماً على وجهه فاتفق أن كان مسيره في طريق يؤدي إلى أرض مدين حينئذ قال { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } . قال ابن عباس : خرج موسى ولا علم له بالطريق إلا حسن ظن بربه .
و { توجه } : ولى وجهه ، أي استقبل بسيره تلقاء مدين .
و { تلقاء } : أصله مصدر على وزن التفعال بكسر التاء ، وليس له نظير في كسر التاء إلا تمثال ، وهو بمعنى اللقاء والمقاربة . وشاع إطلاق هذا المصدر على جهته فصار من ظروف المكان التي تنصب على الظرفية . والتقدير : لما توجه جهة تلاقي مدْيَن ، أي جهة تلاقي بلاد مدين ، وقد تقدم قوله تعالى { وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار } في سورة الأعراف( 47 ) .
و { مدْيَن } : قوم من ذرية مدين بن إبراهيم . وقد مضى الكلام عليهم عند قوله تعالى { وإلى مدين أخاهم شعيباً } في سورة الأعراف ( 85 ) .
وأرض مدين واقعة على الشاطىء الغربي من البحر الأحمر وكان موسى قد سلك إليها عند خروجه من بلد ( رعمسيس ) أو ( منفيس ) طريقاً غربية جنوبية فسلك برية تمر به على أرض العمالقة وأرض الأدوميين ثم بلاد النبط إلى أرض مدين . تلك مسافة ثمانمائة وخمسين ميلاً تقريباً . وإذ قد كان موسى في سيره ذلك راجلاً فتلك المسافة تستدعي من المدة نحواً من خمسة وأربعين يوماً . وكان يبيت في البرية لا محالة . وكان رجلاً جلداً وقد ألهمه الله سواء السبيل فلم يضل في سيره .
والسواء : المستقيم النهج الذي لا التواء فيه . وقد ألهمه الله هذه الدعوة التي في طيها توفيقه إلى الدين الحق .