المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

21- يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي أنشأكم وخلقكم ونماكم كما خلق الذين سبقوكم ، فهو خالق كل شيء ، لعلكم بذلك تعدون أنفسكم وتهيئونها لتعظيم الله ومراقبته ، فتتطهر بذلك نفوسكم وتذعن للحق ، وتخاف سوء العاقبة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

وبعد أن بينت السورة الكريمة أقسام الناس الثلاثة ، وعاقبة كل قسم منهم ، ساقت لهم نداء عاماً دعتهم فيه إلى عبادة الله وحده ، قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا . . . }

في هاتين الآيتين توجيه للناس إلى الأمر الذي خلقوا من أجله وهو عبادة الله دون ما سواه ، وبيان البراهين الساطعة التي تدل على وحدانية الله وعظيم قدرته .

و " يا " حرف نداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا ، فهو أصل حروف النداء .

و " أي " اسم مبهم لكن يزول إبهامه بالاسم المقصود بالنداء الذي يأتي بعده .

و " ها " المتصلة به مؤكدة للتنبيه المستفاد من النداء .

و " العبادة " الخضوع البالغ الغاية .

وقد كثر النداء في القرآن الكريم بهذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيراً ما يقتضيه المقام .

وفي ذكره تعالى باسم الرب ، وإضافته إلى المخاطبين ، تقوية لداعية إقبالهم على عبادته .

فإن الإِنسان إذا اتجه بفكره إلى معنى كون الله مالكاً له ، أو مربياً له وتذكر ما يحفه به من رفق ، وما يجود به عليه من إنعام ، لم يلبث أن يخصه بأقصى ما يستطيع من الخضوع والخشوع والإِجلال .

وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى ، إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإِفراد والإِضافة إلى جميع الناس إلا الله . ثم بين - سبحانه - الموجبات التي من شأنها أن تحملهم على عبادته وحده فقال { الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ } .

والخلق : أصله الإِيجاد على تقدير وتسوية ، ويطلق في القرآن وفي عرف الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة ، فهو إخراجها من العدم إلى الوجود إخراجاً لا صنعة فيه للبشر .

والمعنى : اجعلوا أيها الناس عبادتكم لله تعالى وحده ، لأنه هو الذي أوجدكم في أحسن تقويم بعد أن كنتم في عدم ، كما أوجد الذين تقدموكم .

وقدم وصفه بخلق المخاطبين مع أنه متأخر بالزمان عن خلق من تقدموهم ، لأن علم الإِنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره .

وقوله تعالى : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } فيه رد على الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم إنما خلقهم آباؤهم فقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر .

فكان قوله : { والذين مِن قَبْلِكُمْ } تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لابد أن ينتهوا إلى أب أول قد خلقه الله تعالى .

وجملة " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " تعليل للأمر بالعبادة ، ولذلك فصلت . و " لعل " حرف موضوع ليدل على الترجي ، وهو توقع حصول الشيء عندما يحصل سيبه وتنتفى موانعه . والشيء المتوقع حصوله في الآية هو التقوى وسببه العبادة ، إذ بالعبادة يستعد الإِنسان لأن يبلغ درحة التقوى وهي الفوز بالهدى والفلاح ، والترجي قد يكون من جهة المتكلم وهو الشائع وقد تستعمل لعل في الكلام على أن يكون الترجي مصروفاً للمخاطب ، فيكون المترجي هو المخاطب لا المتكلم ، وعلى هذا الوجه يحمل الترجي في هذه الآية ، لاستحالة توقع حصول الشيء من عالم الغيب والشهادة ، لأن توقع الإِنسان لحصول الشيء هو أن يكون متردداً بين الوقوع وعدمه مع رجحان الوقوع ، وعليه فيكون المعنى : اعبدوا ربكم راجين أن تكونوا من المتقين ، الذين بلغوا الغاية في الهدى والفلاح .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته ، بأنه تعالى هو المنعم على عَبيده ، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعمَ الظاهرة والباطنة ، بأن جعل لهم الأرض فراشا ، أي : مهدا كالفراش مُقَرّرَة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات ، { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } وهو السقف ، كما قال في الآية الأخرى : { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] وأنزل لهم من السماء ماء - والمراد به السحاب هاهنا - في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد ؛ رزقًا لهم ولأنعامهم ، كما قرر هذا في غير موضع{[1339]} من القرآن . ومنْ أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا{[1340]} وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ غافر : 64 ] ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ، وساكنيها ، ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يُشْرَك به غَيره ؛ ولهذا قال : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : «أن تجعل لله ندا ، وهو خلقك » الحديث{[1341]} . وكذا حديث معاذ :

" أتدري ما حق الله على عباده ؟ أن يعبدوه لا{[1342]} يشركوا به شيئًا " الحديث{[1343]} وفي الحديث الآخر : «لا يقولن أحدكم : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن ليقل{[1344]} ما شاء الله ، ثم شاء فلان " {[1345]} .

وقال حماد بن سلمة : حدثنا عبد الملك بن عمير ، عن رِبْعيِّ بن حِرَاش ، عن الطفيل بن سَخْبَرَة ، أخى عائشة أم المؤمنين لأمها ، قال : رأيت فيما يرى النائم ، كأني أتيت على نفر من اليهود ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : نحن اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عُزَير ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . قال : ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : من أنتم ؟ قالوا : نحن النصارى . قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . فلما أصبحت أخبرت بها مَنْ أخبرت ، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال : «هل أخبرت بها أحدًا » فقلت : نعم . فقام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : " أما بعد ، فإن طُفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء الله وشاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده " . هكذا رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة ، به{[1346]} . وأخرجه ابن ماجه من وجه آخر ، عن عبد الملك بن عمير به ، بنحوه{[1347]} .

وقال سفيان بن سعيد الثوري ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس ، قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت . فقال : «أجعلتني لله ندا{[1348]} ؟ قل : ما شاء الله وحده » . رواه ابن مردويه ، وأخرجه النسائي ، وابن ماجه من حديث عيسى بن يونس ، عن الأجلح ، به{[1349]} .

وهذا كله صيانة ، وحماية لجناب التوحيد ، والله أعلم .

وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } للفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين ، أي : وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وبه عن ابن عباس : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر ، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه

الرسول صلى الله عليه وسلم من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه . وهكذا قال قتادة .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم ، حدثنا أبي عمرو ، حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم ، حدثنا شبيب بن بشر ، حدثنا عكرمة ، عن ابن عباس ، في قول الله ، عز وجل{[1350]} { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا [ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ]{[1351]} } قال : الأنداد هو الشرك ، أخفى من دبيب النمل على صَفَاة سوداء في ظلمة الليل ، وهو أن يقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، ويقول : لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البطّ في الدار لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئتَ ، وقول الرجل : لولا الله وفلان . لا تجعل فيها " فلان " . هذا{[1352]} كله به شرك .

وفي الحديث : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت ، فقال : «أجعلتني لله ندا » . وفي الحديث الآخر : «نعم القوم أنتم ، لولا أنكم تنددون ، تقولون : ما شاء الله ، وشاء فلان » .

قال{[1353]} أبو العالية : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي عدلاء شركاء . وهكذا قال الربيع بن أنس ، وقتادة ، والسُّدي ، وأبو مالك : وإسماعيل بن أبي خالد .

وقال مجاهد : { فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل .

ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة :

قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو خلف موسى بن خلف ، وكان يُعَد من البُدَلاء ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن الحارث الأشعري ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله عز وجل ، أمر يحيى بن زكريا ، عليه السلام ، بخمس كلمات أن يعمل بهن ، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وكان يبطئ بها ، فقال له عيسى ، عليه السلام : إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإما أن تبلغهن ، وإما أن أبلغهن . فقال : يا أخي ، إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي » . قال : «فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس ، حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشرف ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن ، وآمركم أن تعملوا بهن ، وأولهن : أن تعبدوا الله{[1354]} لا تشركوا به شيئًا ، فإن مثل ذلك مَثَل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بوَرِق أو ذهب ، فجعل يعمل ويؤدي غلته{[1355]} إلى غير سيده فأيكم يسره{[1356]} أن يكون عبده كذلك ؟ وأن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأمركم بالصلاة ؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت ، فإذا صليتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام ، فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة ، كلهم يجد ريح المسك . وإن خلوف فم الصائم عند الله أطيب{[1357]} من ريح المسك . وأمركم بالصدقة ؛ فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو ، فشدوا يديه إلى عنقه ، وقدموه ليضربوا عنقه ، فقال لهم : هل لكم أن أفتدي نفسي{[1358]} ؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيرًا ؛ وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سِراعا في أثره ، فأتى حصنا حصينًا فتحصن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله » .

قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ؛ فإنه من خرج من الجماعة قيدَ شِبْر فقد خلع رِبْقة الإسلام من عنقه ، إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جِثِيِّ جهنم » . قالوا : يا رسول الله ، وإن صام وصلى{[1359]} ؟ فقال : " وإن صلى وصام{[1360]} وزعم أنه مسلم ؛ فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم{[1361]} الله عز وجل : المسلمين المؤمنين عباد الله " {[1362]} .

هذا حديث حسن ، والشاهد منه في هذه الآية قوله : " وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئًا " .

وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له ، وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على وجود الصانع فقال : وهي دالة على ذلك بطريق الأولى ، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة ، علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب ، وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى ؟ فقال : يا سبحان الله ، إن البعرة لتدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير ؟

وحكى فخر الدين عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل باختلاف اللغات والأصوات والنغمات ، وعن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى ، فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها ، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد . فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل ، فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع ! ! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه .

وعن الشافعي : أنه سئل عن وجود الصانع ، فقال : هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم ، وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبعير والأنعام فتلقيه بعرًا وروثا ، وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شيء واحد .

وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصن حصين أملس ، ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء ، وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح ، يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة .

وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :

تأمل في نبات الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** بأحداق هي الذهب السبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

وقال ابن المعتز :

فيا عجبًا كيف يعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحد

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وقال آخرون : من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار المنيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظر إلى البحار الملتفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها كما قال : { وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 27 ، 28 ] وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر لمنافع العباد وما زرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييح والأشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، علم وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله غيره ولا رب سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدًا .


[1339]:في جـ: "غير هذا الموضع".
[1340]:في جـ: "فراشا" وهو خطأ.
[1341]:صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
[1342]:في جـ: "ولا".
[1343]:رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
[1344]:في جـ: "ليقول".
[1345]:رواه أبو داود في السنن برقم (4980) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[1346]:ورواه الإمام أحمد في المسند (5/72) من طريق بهز وعفان عن حماد بن سلمة به.
[1347]:رواه ابن ماجة في السنن برقم (2118) عن هشام بن عمار، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير به، وقال البوصيري في الزوائد (2/151): "هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري لكنه منقطع بين سفيان وبين عبد الملك بن عمير".
[1348]:في جـ: "أندادا".
[1349]:سنن النسائي الكبرى برقم (10825) وسنن ابن ماجة برقم (2117) وقال البوصيري في الزوائد (1/150): "هذا فيه الأجلح بن عبد الله، مختلف فيه".
[1350]:في جـ: "تعالى".
[1351]:زيادة من جـ، ط.
[1352]:في جـ: "لأن هذا".
[1353]:في جـ: "وقال".
[1354]:في جـ: "الله وحده".
[1355]:في جـ، أ: "عمله".
[1356]:في جـ: "سره".
[1357]:في ب: "أطيب عند الله".
[1358]:في جـ، ب، أ، و: "نفسي منكم".
[1359]:في جـ: "وصلى وزعم أنه مسلم".
[1360]:في أ: "وإن صلى وإن صام".
[1361]:في جـ، ط: "بل بما سماهم".
[1362]:المسند (4/130).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ} (21)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ يَاأَيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ }

قال أبو جعفر : فأمر جل ثناؤه الفريقين اللذين أخبر الله عن أحدهما أنه سواء عليهم أأنذروا أم لم يُنذروا أنهم لا يؤمنون ، لطبعه على قلوبهم ، وعلى سمعهم وأبصارهم ، وعن الاَخر أنه يخادع الله والذين آمنوا بما يبدي بلسانه من قيله : آمنا بالله واليوم الاَخر ، مع استبطانه خلاف ذلك ، ومرض قلبه ، وشكه في حقيقة ما يبدي من ذلك وغيرهم من سائر خلقه المكلفين ، بالاستكانة والخضوع له بالطاعة ، وإفراد الربوبية له ، والعبادة دون الأوثان والأصنام والاَلهة لأنه جل ذكره هو خالقهم وخالق من قبلهم من آبائهم وأجدادهم ، وخالق أصنامهم وأوثانهم وآلهتهم ، فقال لهم جل ذكره : فالذي خلقكم وخلق آباءكم وأجدادكم وسائر الخلق غيركم وهو يقدر على ضركم ونفعكم أولى بالطاعة ممن لا يقدر لكم على نفع ولا ضر .

وكان ابن عباس فيما رُوي لنا عنه يقول في ذلك نظير ما قلنا فيه ، غير أنه ذكر عنه أنه كان يقول في معنى : اعْبُدُوا رَبكُمْ وَحّدوا ربكم . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن معنى العبادة الخضوع لله بالطاعة والتذلل له بالاستكانة . والذي أراد ابن عباس إن شاء الله بقوله في تأويل قوله : اعْبُدُوا رَبّكُمْ وَحّدُوه : أي أفردوا الطاعة والعبادة لربكم دون سائر خلقه .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قال الله : يا أيها الناسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، عن أسباط ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : يا أيّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمْ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يقول : خلقكم وخلق الذين من قبلكم .

قال أبو جعفر : وهذه الآية من أدلّ دليل على فساد قول من زعم أن تكليف ما لا يطاق إلا بمعونة الله غير جائز إلا بعد إعطاء الله المكلف المعونة على ما كلفه . وذلك أن الله أمر من وصفنا بعبادته والتوبة من كفره ، بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون .

القول في تأويل قوله تعالى : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ .

قال أبو جعفر : وتأويل ذلك : لعلكم تتقون بعبادتكم ربكم الذي خلقكم ، وطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه ، وإفرادكم له العبادة ، لتتقوا سخطه وغضبه أن يحل عليكم ، وتكونوا من المتقين الذين رضي عنهم ربهم .

وكان مجاهد يقول في تأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ : تطيعون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثني أبي عن سفيان ، عن ابن نجيح عن مجاهد في قوله : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ قال : لعلكم تطيعون .

قال أبو جعفر : والذي أظن أن مجاهدا أراد بقوله هذا : لعلكم أن تتقوا ربكم بطاعتكم إياه وإقلاعكم عن ضلالتكم .

قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : فكيف قال جل ثناؤه : لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ ؟ أوَ لم يكن عالما بما يصير إليه أمرهم إذا هم عبدوه وأطاعوه ، حتى قال لهم : لعلكم إذا فعلتم ذلك أن تتقوا ، فأخرج الخبر عن عاقبة عبادتهم إياه مخرج الشك ؟ قيل له : ذلك على غير المعنى الذي توهمت ، وإنما معنى ذلك : اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ، لتتقوه بطاعته وتوحيده وإفراده بالربوبية والعبادة ، كما قال الشاعر :

وقُلْتُمْ لَنا كُفّوا الحُرُوبَ لَعَلّنَا *** نَكُفّ وَوَثّقْتُمْ لَنا كُلّ مَوْثِقِ

فلَمّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كانَتْ عُهُودُكُم ْكَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الفَلاَ مُتَألّقِ

يريد بذلك : قلتم لنا كفوا لنكفّ . وذلك أن «لعلّ » في هذا الموضع لو كان شكّا لم يكونوا وثقوا لهم كُلّ موثق .