وبعد أن أجاب عيسى على سؤال ربه تلك الإِجابة الموفقة . فوض الأمر إليه - سبحانه - في شأن قومه . فقال - كما حكى القرآن عنه { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } .
أي : إن تعذب - يا إلهي - قومي ، فإنك تعذب عبادك الذين خلقتهم بقدرتك ، والذين تملكهم ملكا تاما ، والاعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بمملوكه . وإن تغفر لهم ، وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فذلك إليك وحدك ، لأن صفحك عمن تشاء من عبادك هو صفح القوي القاهر الغالب الذي لا يعجزه شيء . والذي يضع الأمور في مواضعها بمقتضى بحكمته السامية وقد قال بعض المفسرين هنا : كيف جاز لعيسى أن يقول : { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } والله - تعالى - لا يغفر أن يشرك به ؟
وقد أجاب عن ذلك الإِمام القرطبي بقوله : قول عيسى { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } قاله على وجه الاستعطاف لهم ، والرأفة بهم ، كما يستعطف السيد لعبده ، ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك . وقيل قاله على وجه التسليم لأمره ، والاستجارة من عذابه ، وهو يعلم أنه لا يغفر لكافر وقيل . الهاء والميم في { إِن تُعَذِّبْهُمْ } أي : من أقام على الكفر منهم { فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } أي : لمن آمن منهم { فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } الغالب على أمره { الحكيم } في صنعه .
ومع وجاهة هذا الوجه فإننا نرى أن الآية الكريمة حكاية للتفويض المطلق الذي فوضه عيسى إلى ربه - سبحانه - في شأن قومه ولهذا قال ابن كثير :
هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله - تعالى - فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وكذبوا على رسوله ، وجعلوا لله ندا وصاحبه وولدا .
وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها .
فقد روى الإِمام أحمد عن أبي ذر قال : " صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة : فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية فلما أصبح قلت : يا رسول الله ألم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال : إني سألت ربي - عز وجل . الشفاعة لأمتي فأعطانيها - وهي نائلة - إن شاء الله - لمن لا يشرك بالله شيئا " .
وبعد أن حكى القرآن الكريم ما رد به عيسى عليه السلام - على قول ربه وخالقه - سبحانه - { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } وقد تضمن هذا الرد - كام سبق أن بينا - التنزيه المطلق لله - تعالى - ، والنفي التام لأن يكون عيسى قد قال هذا القول .
بعد كل ذلك ختم - سبحانه تلك المجاوبة ببيان حسن عاقبة الصادقين يوم القيامة فقال - تعالى - :
وقوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله ، عز وجل ، فإنه الفعال لما يشاء ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون . ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله ، وعلى رسوله ، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، وهذه الآية لها شأن{[10536]} عظيم ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث : أن رسول الله{[10537]} صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فُضَيْل ، حدثني فُليَت العامري ، عن جَسْرة العامرية ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ بآية حتى أصبح ، يركع بها ويسجد بها : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما أصبح قلت : يا رسول الله ، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال : " إني سألت ربي ، عز وجل ، الشفاعة لأمتي ، فأعطانيها ، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا " . {[10538]}
طريق أخرى وسياق آخر : قال أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا قُدَامة بن عبد الله ، حدثتني جَسْرة بنت دجاجة : أنها انطلقت معتمرة ، فانتهت إلى الربذة ، فسمعت أبا ذر يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء ، فصلى بالقوم ، ثم تخلف أصحاب له يصلون ، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله ، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلي ، فجئت فقمت خلفه ، فأومأ إليَّ بيمينه ، فقمت عن يمينه . ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه ، فأومأ إليه بشماله ، فقام عن شماله ، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو . وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة . فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود : أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ؟ فقال ابن مسعود بيده : لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ ، فقلت : بأبي أنت وأمي ، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن ، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه ، قال : " دعوت لأمتي " . قلت : فماذا أَجِبْتَ ؟ - أو ماذا رُدَّ عليك ؟ - قال : " أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة " . قلت : أفلا أبشر الناس ؟ قال : " بلى " . فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر . فقال عمر : يا رسول الله ، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة . فناداه أن ارجع فرجع ، وتلك الآية : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }{[10539]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فرفع يديه فقال : " اللهم أمتي " . وبكى ، فقال الله : يا جبريل ، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله : ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال ، فقال الله : يا جبريل ، اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك . {[10540]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا ابن هُبَيْرة{[10541]} أنه سمع أبا تميم الجَيْشاني يقول : حدثني سعيد بن المسيب ، سمعت حذيفة بن اليمان يقول : غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج ، حتى ظننا أن لن يخرج ، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها ، فلما رفع رأسه قال : " إن ربي ، عز وجل ، استشارني في أمتي : ماذا أفعل بهم ؟ فقلت : ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك . فاستشارني الثانية ، فقلت له كذلك ، فقال : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، ليس عليهم حساب ، ثم أرسل إليّ فقال : ادع تُجب ، وسل تُعْطَ " . فقلت لرسوله : أومعطي ربي سؤلي ؟ قال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك ، ولقد أعطاني ربي ولا فخر ، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وأنا أمشي حيًا صحيحًا ، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب ، وأعطاني الكوثر ، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي ، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا ، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة ، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة ، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج " . {[10542]}
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.