ثم بين - سبحانه - مظاهر فضله ورحمته على هذه الآمة ، حيث جعل كتابه ميسرا فى حفظه وفهمه ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } .
أى : والله لقد سهلنا القرآن { لِلذِّكْرِ } أى : للتذكر والحفظ ، بأن أنزلناه فصيحا فى ألفاظه ، بليغا فى تراكيبه ، واضحا فى معانيه ، سهل الحفظ لمن أراد أن يحفظه . . . فهل من معتبر ومتعظ ، بقصصه ، ووعده ، ووعيده ، وأمره ، ونهيه ؟
وقد وردت هذه الآية فى أعقاب قصة نوح وهود وصالح ولوط - عليهم السلام - ، لتأكيد مضمون ما سبق فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النذر } وللتنبيه والإشعار بأن كل قصة من تلك القصص جديرة بإيجاب الاتعاظ ، وكافية فى الاعتبار والازدجار { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } والمقصود بالآية الكريمة التحضيض على حفظ القرآن الكريم والاعتبار بمواعظه ، والعمل بما فيه من تشريعات حكيمة ، وآداب قويمة ، وهدايات سامية . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولقد يسرنا} يقول: هوّنا {القرآن للذكر} يعني ليتذكروا فيه. {فهل من مدكر} يعني فيتذكر فيه، ولولا أن الله تعالى يسر القرآن للذكر ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله تعالى، ولكن الله تعالى يسره على خلقه فيقرؤونه على كل حال.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ "يقول تعالى ذكره: ولقد سهّلنا القرآن، بيّناه وفصّلناه للذكر، لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه... قال ابن زيد، في قوله: "وَلَقَدْ يَسّرْنا القُرْآنَ للذّكْرِ" قال: يسّرنا: بيّنا.
وقوله: "فَهَلْ مِنْ مُدّكِر" يقول: فهل من معتبر متعظ يتذكر فيعتبر بما فيه من العبر والذكر.
وقد قال بعضهم في تأويل ذلك: هل من طالب علم أو خير فيُعان عليه، وذلك قريب المعنى مما قلناه، ولكنا اخترنا العبارة التي عبرناها في تأويله، لأن ذلك هو الأغلب من معانيه على ظاهره...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولقد يسّرنا القرآن للذِّكر فهل من مُدّكر} هذا يحتمل وجوها:
أحدها: {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر} أي للحفظ، أي صيّرناه بحيث يحفظه كل أحد من صغير وكبير وكافر ومؤمن، وكل أحد يتكلّف حفظه.
والثاني: {ولقد يسّرنا القرآن للذّكر} أي لذِكر ما نُسوا من نعم الله تعالى عليهم، ولذكر ما أنبأهم فيه من أخبار الأوائل من مُصدّقيهم ومكذّبيهم... {فهل من مُدّكر} خُرّج مخرج الأمر، أي: اذكروا، واتّعظوا بما فيه من الأنباء، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يَسَّرنا قراءَتَه على ألسنةِ الناس، ويسَّرنا عِلْمه على قلوبِ قوم، ويسَّرنا فَهْمَه على قلوب قوم، ويَسَّرْنا حِفْظَه على قلوبِ قومٍ، وكلُّهم أهلُ القرآن...
وكلُّهم أهل الله وخاصته. {فَهَلْ مِن مُّدَّكَرٍ} لهذا العهد الذي جرى لنا معه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ} أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد {فَهَلْ مِن} متعظ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فهل من مدكر} استدعاء وحض على ذكره وحفظه لتكون زواجره وعلومه وهداياته حاضرة في النفس... الآية تعديد نعمة في أن الله يسر الهدى...
(الثاني): سهلناه للاتعاظ حيث أتينا فيه بكل حكمة.
(الثالث): جعلناه بحيث يعلق بالقلوب ويستلذ سماعه ومن لا يفهم يتفهمه ولا يسأم من سمعه وفهمه ولا يقول قد علمت فلا أسمعه بل كل ساعة يزداد منه لذة وعلما.
(الرابع): وهو الأظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر بحال نوح عليه السلام وكان له معجزة قيل له: إن معجزتك القرآن {ولقد يسرنا القرآن للذكر} تذكرة لكل أحد وتتحدى به في العالم ويبقى على مرور الدهور، ولا يحتاج كل من يحضرك إلى دعاء ومسألة في إظهار معجزة، وبعدك لا ينكر أحد وقوع ما وقع كما ينكر البعض انشقاق القمر...
{فهل من مدكر} أي متذكر لأن الافتعال والتفعل كثيرا ما يجيء بمعنى، وعلى هذا فلو قال قائل: هذا يقتضي وجود أمر سابق فنسي، نقول: ما في الفطرة من الانقياد للحق هو كالمنسي فهل من مدكر يرجع إلى ما فطر عليه وقيل: فهل من مدكر أي حافظ أو متعظ على ما فسرنا به قوله تعالى: {يسرنا القرآن للذكر} وقوله: {فهل من مدكر} وعلى قولنا المراد متذكر إشارة إلى ظهور الأمر فكأنه لا يحتاج إلى نكر، بل هو أمر حاصل عنده لا يحتاج إلى معاودة ما عند غيره.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله: "فهل من مذكر " لأن " هل " كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم، فاللام من " هل " للاستعراض والهاء للاستخراج.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
وفيه الحث على تعليم القرآن والاشتغال به لأنه قد يسره الله وسهله على من يشاء من عباده بحيث يسهل حفظه للصغير والكبير والعربي والعجمي وغيرهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{للذكر} أي الاتعاظ والتذكر والتدبر والفهم والحفظ والتشريف لمن يراعيه، والآية ناظرة بالعطف والمعنى إلى {ولقد جاءهم من الأنباء} الآيتين، فالمعنى أنا ولو شئنا بما لنا من العظمة لجئناهم بعبارات لا يشمون رائحتها، وبلاغات لا يهتدون إلى وجه معناها أصلاً، لكننا لم نفعل ذلك بل خاطبناهم بأبلغ من بلاغتهم مع تيسير فهم ما خاطبناهم به فكان في ذلك إعجازان: أحدهما أنه فوق بلاغتهم، والثاني أنه مع علوه يشترك في أصل فهمه الذكي والغبي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9] تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالاً على مدارسته...
فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار...
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حَال المشركين الشاكين في أنه من عند الله. وإذ كان القرآن كلاماً فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يُراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به بدون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للأذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فلذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة. وأما من جانب المعاني، فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولد معانٍ من معانٍ أُخر كلّما كرّر المتدبر تدبّره في فهمها...
{يسرنا القرآن للذكر} أن القرآن سُهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير، فجعلت سرعة ترتب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يُسرت له وسائل تحْصيله، وقربت له أباعدها.ويؤول المعنى إلى: يسرنا القرآن للمتذكرين. وفرع على هذا المعنى قوله: {فهل من مدكر}. والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفاً، إلا أن بين الادِّكارين فرقاً دقيقاً، فالادِّكار السالف ادّكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة، والادّكار المذكور هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذّكْرِ} بما نقصُّ فيه من أخبار الماضين، وما نثيره من آيات العبرة، وما نحركه من المفاهيم العامة الحكيمة التي تبني لهم عقولهم، وتدير لهم حياتهم، ليخرجوا من أجواء الغفلة واللامبالاة، ليكون ذكرى لكل حياتهم، {فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} إنه السؤال الذي يطرح نفسه على كل فكر وشعورٍ ليهتز وليتذكر ولينفتح على الحقيقة الإلهية في كل مواقعها...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.