111- يؤكد اللَّه وعده للمؤمنين الذين يبذلون أنفسهم وأموالهم في سبيله ، فإنه اشترى منهم تلك الأنفس والأموال بالجنة ثمنا لما بذلوا ، فإنهم يجاهدون في سبيل اللَّه فيقتلون أعداء اللَّه أو يستشهدون في سبيله ، وقد أثبت اللَّه هذا الوعد الحق في التوراة والإنجيل ، كما أثبته في القرآن ، وليس أحد أبر ولا أوفي بعهده من اللَّه ، فافرحوا - أيها المؤمنون المجاهدون - بهذه المبايعة التي بذلتم فيها أنفسكم وأموالكم الفانية ، وعُوضتم عنها بالجنة الباقية ، وهذا الشراء والبيع هو الظفر الكبير لكم .
وبعد أن بين - سبحانه - أنواع المتخلفين عن غزوة تبوك ، تبع ذلك بالترغيب في الجهاد وفى بيان فضله فقال - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى . . } .
قال الفخر الرازى : أعلم الله - تعالى - لما شرع في شرح فضائح المنافقين وقبائحهم لسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، فلما تمم ذلك الشرح والبيان وذكر أقسامهم وفرع كل قسم ما كان لائقا به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد وحيقته فقال - تعالى - : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين } الآية .
وقال القرطبى : " نزلت هذه الآية في البيعة الثانية ، وهى بيعة العقبة الكبرى وهى التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين ، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند العقبة ، فقال عبد الله بن رواحة للنبى - صلى الله عليه وسلم - : اشترط لربك ولنفسك ما شئت ، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - : أشترط لربى أن تعبدوه ولا تشكروا به شيئا ، وأشترط لنفسى أن تمنعونى مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا : فإذا فعلنا فمالنا ؟ قال :
" لكم الجنة " قالوا : ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقبل فنزلت هذه الآية " .
ثم هي بعد ذلك عامة في كل مجاهد في سبيل الله من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة . تثميل للثواب الذي منحه الله - تعالى - للمجاهدين في سبيله .
فقد صور - سبحانه - جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه ، وإثابته - سبحانه - لهم على ذلك بالجنة ، صور كل ذلك بالبيع والشراء .
أى : أن الله - تعالى - وهو المالك لكل شئ ، قد اشترى من المجاهدين أنسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله ، وأعطاهم في مقابل ذلك الجنة .
قال أبو السعود : الآية الكريمة ترغيب للمؤمنين في الجهاد . . وقد بلوغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه ، حيث عبّر عن قبول الله - تعالى - من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوا في سبيله - تعالى - وإثباته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية . ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد : أنفس المؤمنين وأموالهم ، والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة : الجنة .
ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال : إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ؛ ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة ، وما بله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأمول وسيلة إليها ، إيذانا بتعليق كمال العناية بهم وبأوالهم .
ثم إن لم يقل " بالجنة " بل قل : { بِأَنَّ لَهُمُ الجنة } مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم " واختصاصه بهم " فكأنه قيل : بالجنة الثابتة لهم ، المختصة بهم .
وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } جملة مستأنفة جئ بها لبيان الوسيلة التي توصلهم إلى الجنة وهى القتال في سبيل الله .
أى : أنهم يقاتلون في سبيل الله ، فمنهم من يقتل أعداء الله ، ومنهم من يقتل على أيدى هؤلاء الأعداء ، وكلا الفريقين القاتل والمقتول جزاؤه الجنة .
وقرأ حمزة والكسائى " فيقتلون ويقتلون " بتقديم الفعل المبنى للمفعول على الفعل المبنى للفاعل .
وهذه القراءة فيها إشارة إلا أن حرص هؤلاء المؤمنين الصادقين على الاستشهاد أشد من حرصهم على النجاة من القتل ؛ لأن هذا الاستشهاد يوصلهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، وإلى الحياة الباقية الدائمة . .
وقوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والإنجيل والقرآن } تأكيد للثمن الذي وعدهم الله به .
أى : أن هذه الجنة التي هي جزاء المجاهدين ، قد جعلها - سبحانه - تفضلا منه وكرما ، حقا لهم عليه ، وأثبت لهم ذلك في الكتب السماوية التي أنزلها على رسله .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : " وعدا عليه " مصدر مؤكد لمضمون الجملة وقوله " حقا " نعت له ، وقوله " عليه " في موضع الحال من قوله " حقا " لتقدمه عليه ، وقوله : { فِي التوراة والإنجيل والقرآن } متعلق بمذحوف وقع نعتا لقوله " وعدا " أيضاً .
أى : وعدا مثبتاً في التوراة والإِنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد إلحاق مالا يعرف بما يعرف . إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن . ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بذلك ، أو أن من جاهد بنفسه وماله . من حقه ذلك ، وفى كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن . .
وقوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } جملة معترضة مسوقة لتأكيد مضمون ما قبلها من حقية الوعد وتقريره : والاستفهام للنفى .
أى : لا أحد أوفى بعهده من الله - تعالى - لأنه إذا كان خلف الوعد لا يكاد يصدر من كرام الخلق مع إمكان صدوره منهم ، فكيف يكون الحال من جانب الخالق - عز وجل - المنزه عن كل نقص ، المتصف بكل كمال .
وقوله : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } تحريض على القتال ، وإعلام لهم بأنهم رابحون في هذه الصفقة .
والاستبشار : الشعور بفرح البشرى ، شعورا تنبسط له أسارير الوجه .
أى : إذا كان الأمر كذلك فافرحوا ببيعكم الذي بايعتم به غاية الفرح ، وارضوا به نهاية الرضى ، فإن ذلك البيع هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه .
قال بعض العلماء : ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ من هذه الآية لأنه أبرزه في صورة عقد عقده رب العزة ، وثمنه مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، ولم يجعل المقعود عليه كونهم مقتولين فقط بل إذا كانوا قاتلين أيضاً لإعلاء كلمته ، ونصر دينه ، وجعله مسجلا في الكتب السماوية ، وناهيك به من صك .
وجعل وعده حقاً ، ولا أحد أوفى من وعده فنسيئته أقوى من نقد غيره ، وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلية ، حيث صور جهاد المؤمنين ، وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثباة الله لهم على ذلك الجنة ، بالبيع والشراء وأتى بقوله : " يقاتلون " . . بيانا لمكان التسليم وهو المعركة وإليه الإِشارة بقوله - صلى الله عليه وسلم - " الجنة تحت ظلال السيوف " ، ثم أمضاه بقوله { وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .
ويروى عن الحسن البصرى أنه قرأ هذه الآية فقال : انظروا إلى كرم الله . تعالى . أنفس هو خالقها ، وأموال هو رازقها ، ثم يكافئنا عليها متى بذلناها في سبيله بالجنة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاع من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة "وعدا عليه "حقّا، يقول: وعدهم الجنة جلّ ثناؤه، وعدا عليه حقّا أن يوفي لهم به في كتبه المنزّلة التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وفوا بما عاهدوا الله فقاتلوا في سبيله ونصرة دينه أعداءه فَقَتلوا وقُتلوا. "وَمَنْ أوْفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللّهِ" يقول جلّ ثناؤه: ومن أحسن وفاء بما ضمن وشرط من الله. "فاسْتَبْشِرُوا" يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا أيها المؤمنون الذين صدقوا الله فيما عاهدوا "بِبَيْعِكُمْ" أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم، فإن ذلك هو الفوز العظيم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) يحتمل قوله (اشترى) أي استام؛ لأن قوله: (اشترى) خبر، ولكن يحتمل الاستيام، أي استام أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم ليجعل لهم الله الجنة ثم بين، فقال: (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون). ويحتمل أن يكون قوله: (اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) خبر عن قوم باعوا أنفسهم وأموالهم...فإذا صاروا بائعين أنفسهم كان الله مشتريها منهم.
ثم بين أن كيف يباع؟ وكيف يشرى؟ فقال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي يَقتلون العدو، ويُقتلون أي يقتلهم العدو... وأيهما كان، أو يقاتلون، وإن لم يقتلوا كقوله: (ومن يقتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما) [النساء: 74]...
ثم قال: (بأن لهم الجنة) بحق الوعد لهم فضلا منه لا بحق البذل. ثم قوله تعالى: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ذكر شِرَى أنفسهم، وأموالهم منهم، وأنفسهم في الحقيقة لله أن يأخذ منهم أنفسهم وأموالهم، وأن يتلفهم بأي وجه ما شاء، لكنه عامل عباده معاملة من لا ملك له في ذلك ولا حق، كرما منه وجودا. ووعد لهم على ذلك أجرا وبدلا. وكذلك ما ذكر من القرض له، ووعد لهم على ذلك الأجر مضاعفا، وكذلك ما وعد لهم من الثواب في ما يعملون لأنفسهم كالعاملين له حين قال: (جزاء بما كانوا يعملون) [الواقعة: 24] وقال: (إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا) [الكهف: 30] ونحوه؛ وإن كانوا في الحقيقة عاملين لأنفسهم بقوله: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) الآية [الإسراء: 7]. ذكر ما ذكر فضلا منه وإكراما؛ إذ هي له حق في الحقيقة، وهو كما قال: (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) [الحج: 37] فإنما يطلب منهم بذل أنفسهم وأموالهم، والله أعلم...
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا). أي: وعدًا واجبًا حقًّا. وقوله تعالى: (وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن) هذه الآية تنقض قول من يقول بأن الإنجيل على التخفيف والتيسير، والتوراة بالشدائد... ثم، قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) هذا على أن قوله: (اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ...) إنما هو عهد إليهم؛ حيث قال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)، أي: لا أحد أوفى وأصدق بعهده من اللَّه إن وفيتم أنتم بعهده الذي عهد عليكم، واللَّه أعلم.
وقوله تعالى: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) يشبه أن يكون الاستبشار الذي ذكر وقت الموت أن تقول لهم الملائكة (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) في الحياة. هذا يدل أن البيع يكون بيعا بالبدل، وإن لم يتلفظ بلفظة البيع، وقد ذكرنا في ما تقدم أن الأحكام لم تتعلق بالألفاظ والأسامي، إنما علقت بمعاني فيها؛ فإذا وجدت المعاني حكم بها (وذلك هو الفوز العظيم) الذي ذكر.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... فجعل الثواب ثمنا والطاعات مثمنا على ضرب من المجاز، وكما أن في مقابلة الطاعة الثواب، فكذلك في مقابلة الألم العوض، غير أن الثواب مقترن بالإجلال والإكرام، والعوض خال منهما، والمثاب محسن مستحق على إحسانه المدح، وليس كذلك المعوض.
وقوله "وعدا عليه حقا"... والوعد: خبر بما يفعله المخبر من الخير بغيره.
وقوله "حقا "معناه يتبين الوعد بالحق الواجب من الوعد بما لم يكن واجبا. فالوعد بالثواب دل على وجوبه من وجهين: أحدهما -من حيث إنه جزاء على الطاعة. والثاني- أنه إنجاز الوعد...
وقوله" في التوراة والإنجيل والقرآن "معناه إن هذا الوعد للمجاهدين مذكور في هذه الكتب. قال الزجاج: وذلك يدل على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وللمقال في هذه الآية مجال... فيقال: البائعُ لا يستحقُّ الثمنَ إذا امتنع عن تسليم المبيع، فكذلك لا يستحق العبدُ الجزاءَ الموعودَ إلا بعد تسليمِ النَّفسِ والمالِ على موجب أوامر الشرع، فَمَنْ قَعَدَ أو فَرَّطَ فغيرُ مستحقٍ للجزاء.
ويقال لا يجوز في الشرع أن يبيع الشخصُ ويشتري شيئاً واحداً فيكونَ بائعاً ومشترياً إلا إذا كان أباً وجَدَّاً! ولكن ذلك هنا بلفظ الشفقة؛ فالحقُّ بإذنه كانت رَحْمَتُه بالعبد أتمَّ، ونظرُه له أبلغَ، وكان للمؤمِن فيه من الغبطة، ما لا يخفى، فصحَّ ذلك وإن كان حُكمه لا يقاس على حكم غيره.
ويقال إنما قال: {اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} ولم يقل "قلوبهم "لأنَّ النَّفْسَ محلُّ الآفات فجعل الجنة في مقابلتها، وجعل ثَمَنَ القلبِ أَجَلَّ من الجنة، وهو ما يخصُّ به أولياءه في الجنة مِنْ عزيزِ رؤيته. ويقال النَّفْسُ محلُّ العيب، والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره.
ويقال قال: {فاستبشروا ببيعكم} ولم يقل بثمن مبيعكم لأنه لم يكن منا بيع، وإنما أخبر عن نفسه بقوله: {إن الله اشترى من المؤمنين} فجعل بيعه بيعنا، وهذا مثلما قال في صفة نبيه- صلى الله عليه وسلم -: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (الأنفال:17).
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
ولما كان تعالى هو المرغب في ذلك والداعي إليه، وصف نفسه بأنه اشترى أنفسهم، كما وصفوا بأنهم باعوا وابتاعوا، وفي ذلك دلالة على عظم محل الجهاد ومنزلته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
مثل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشروى. وروي: تاجرهم فأغلى لهم الثمن. وعن عمر رضي الله عنه: فجعل لهم الصفقتين جميعاً. وعن الحسن: أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها. وروي: أنّ الأنصار حين بايعوه على العقبة قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم. قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة. قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. ومرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ وهو يقرأها فقال: كلام من؟ قال كلام الله. قال: بيع الله مربح لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد {يقاتلون} فيه معنى الأمر، كقوله: {وتجاهدون فِي سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11]. وقرئ: «فيَقتلون» و «يُقتلون» على بناء الأوّل للفاعل والثاني للمفعول، وعلى العكس {وَعْدًا} مصدر مؤكد. أخبر بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت قد أثبته {فِي التوراة والإنجيل} كما أثبته في القرآن، ثم قال: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} لأنّ إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط، ولا ترى ترغيباً في الجهاد أحسن منه وأبلغ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... وقال ابن عيينة: معنى الآية اشترى منهم أنفسهم ألا يعملوها إلا في طاعة الله، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله.
فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله...
ويحتمل أن ميعاد أمة محمد صلى الله عليه وسلم تقدم ذكره في هذه الكتب...
وقوله {ومن أوفى بعهده من الله} استفهام على جهة التقرير، أي لا أحد أوفى بعهده من الله...ثم وصف تعالى ذلك البيع بأنه {الفوز العظيم}، أي أنه الحصول على الحظ الأغبط من حط الذنوب ودخول الجنة بلا حساب.
... واختلفوا في أنه هل دخل تحت هذه الآية مجاهدة الأعداء بالحجة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أم لا؟ فمنهم من قال: هو مختص بالجهاد بالمقاتلة، لأنه تعالى فسر تلك المبايعة بالمقاتلة بقوله: {يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون} ومنهم من قال: كل أنواع الجهاد داخل فيه، بدليل الخبر الذي رويناه عن عبد الله بن رواحة. وأيضا فالجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل آثارا من القتال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:"لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس" ولأن الجهاد بالمقاتلة لا يحسن أثرها إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة. وأما الجهاد بالحجة فإنه غني عن الجهاد بالمقاتلة. والأنفس جوهرها جوهر شريف خصه الله تعالى بمزيد الإكرام في هذا العالم، ولا فساد في ذاته، إنما الفساد في الصفة القائمة به، وهي الكفر والجهل. ومتى أمكن إزالة الصفة الفاسدة، مع إبقاء الذات والجوهر كان أولى ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه، لا جرم حث الشرع على إبقائه، فقال: "هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به "فالجهاد بالحجة يجري مجرى الدباغة، وهو إبقاء الذات مع إزالة الصفة الفاسدة، والجهاد بالمقاتلة يجري مجرى إفناء الذات، فكان المقام الأول أولى وأفضل.
ثم قال: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم} واعلم أن هذه الآية مشتملة على أنواع من التأكيدات:
فأولها: قوله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم} فيكون المشتري هو الله المقدس عن الكذب والخيانة، وذلك من أدل الدلائل على تأكيد هذا العهد. والثاني: أنه عبر عن إيصال هذا الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد.
وثالثها: قوله: {وعدا} ووعد الله حق.
ورابعها: قوله: {عليه} وكلمة «على» للوجوب.
وخامسها: قوله: {حقا} وهو التأكيد للتحقيق.
وسادسها: قوله: {في التوراة والإنجيل والقرآن} وذلك يجري مجرى إشهاد جميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل على هذه المبايعة.
وسابعها: قوله: {ومن أوفى بعهده من الله} وهو غاية في التأكيد.
وثامنها: قوله: {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} وهو أيضا مبالغة في التأكيد. وتاسعها: قوله: {وذلك هو الفوز}.
وعاشرها: قوله: {العظيم} فثبت اشتمال هذه الآية على هذه الوجوه العشرة في التأكيد والتقرير والتحقيق.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد. وفي لفظة اشترى لطيفة وهي: رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به..
ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأنّ في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} هذا تمثيل لإثابة الله المؤمنين على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بتمليكهم الجنة دار النعيم الأبدي، والرضوان السرمدي، تفضل جل جلاله وعم نواله بجعلها من قبيل من باع شيئا هو له لآخر، لطفا منه تعالى وكرما وتكريما لعباده المؤمنين بجعلهم كالمتعاقدين معه، كما يتعاقد البيعان على المنافع المتبادلة،وهو عز وجل المالك لأنفسهم إذ هو الذي خلقها، والمالك لأموالهم إذ هو الذي رزقها، وهو غني عن أنفسهم وأموالهم، وإنما المبيع والثمن له وقد جعلهما بكرمه لهم.
وقوله: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ} بيان لصفة تسليم المبيع وهو أنهم يقاتلون في سبيل الحق والعدل الموصلة إلى مرضاته تعالى فيبذلون أنفسهم وأموالهم فيكونون إما قاتلين لأعدائه الصادين عن سبيله، وإما مقتولين شهداء في هذه السبيل قرأ الجمهور بتقديم (يقتلون) المبني للفاعل، وحمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول، فدلت القراءتان على أن الواقع هو أن يقتل بعضهم ويسلم بعض، وأنه لا فرق بين القاتل والمقتول في الفضل، والمثوبة عند الله عزّ وجلّ، إذ كل منهما في سبيله لا حبا في سفك الدماء، ولا رغبة في اغتنام الأموال، ولا توسلا إلى ظلم العباد، كما يفعل عباد الدنيا من الملوك ورؤساء الأجناد.
{وعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ والإِنجِيلِ والْقُرْآنِ} أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه لهم على نفسه، وجعله حقا عليه أثبته في الكتب الثلاثة المنزلة على أشهر رسله، ولا تتوقف صحة هذا الوعد على وجوده في التوراة والإنجيل اللذين في أيدي أهل الكتاب بنصه لما أثبتناه من ضياع كثير منهما، وتحريف بعض ما بقي لفظا ومعنى، بل يكفي إثبات القرآن لذلك وهو مهيمن عليها. (راجع ج 10).
{ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ}؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله عزّ وجلّ، إذ لا يمنعه من ذلك عجز من الوفاء، ولا يمكن أن تعرض له فيه التردد أو البداء.
{فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ} الاستبشار: الشعور بفرح البشرى أو استشعارها، الذي تنبسط به بشرة الوجه فيتألق نورها، والجملة تقرير لتمام صفقة البيع من الجانبين.
{وذَلِكَ هُو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} الذي لا يتعاظمه فوز، دون ما يتقدمه من النصر والسيادة والملك، الذي لا يعد فوزا إلا بجعله وسيلة لإقامة الحق والعدل. أعلى الله تعالى مقام المؤمنين المجاهدين في سبيله فجعلهم بفضله مالكين معه، ومبايعين له، ومستحقين للثمن الذي بايعهم به، وأكد لهم أمر الوفاء به وإنجازه...
ويروى عنه [جعفر الصادق] أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها. ومعناه أن الذي يقتل أو يموت في سبيل الله كان باذلا لبدنه الفاني لا لروحه الباقية، وليس معناه أن يبيع لربه جسده دون نفسه الناطقة كما توهم بعض المتفلسفين.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فكبر الناس في المسجد، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت فينا هذه الآية؟ قال:"نعم" فقال الأنصاري: بيع ربيح، لا نقيل ولا نستقيل، يعني البيع.
وأخرج ابن جرير أن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لنفسك ولربك فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال:"الجنة "قال: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. فنزلت الآية. وظاهر هذا أنها نزلت في مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم وتفصيله فيما يلي، وإن لم يصرح بأنه سبب النزول.
وأخرج ابن سعد عن عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت أن أسعد بن زرارة أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فقال: يا أيها الناس هل تدرون علام تبايعون محمدا؟ إنكم تبايعونه على أن تحاربوا العرب والعجم والجن والإنس كافة. فقالوا: نحن حرب لمن حارب، وسلم لمن سالم. فقال أسعد بن زرارة: يا رسول الله اشترط علي، فقال:"تبايعوني على أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، والسمع والطاعة، ولا تنازعوا الأمر أهله، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم". قالوا: نعم، قال قائل الأنصار: نعم هذا لك يا رسول الله، فما لنا؟ قال: "الجنة والنصر".
وأخرج ابن سعد عن الشعبي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم بالعباس بن عبد المطلب- وكان ذا رأي- إلى السبعين من الأنصار عند العقبة، فقال العباس: ليتكلم متكلمكم ولا يطيل الخطبة، فإن عليكم للمشركين عينا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم. فقال قائلهم -وهو أبو أمامة أسعد-: يا محمد سل لربك ما شئت، ثم سل لنفسك ولأصحابك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك، فقال:"أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأسألكم لنفسي وأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم". قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنة". فكان الشعبي إذا حدث هذا الحديث قال: ما سمع الشيب والشباب بخطبة أقصر ولا أبلغ منها.
ومعنى نزولها في مبايعة الأنصار أنها تدخل في عموم الآية دخولا أوليا لا أنها خاصة بها.
وقد روى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعا:"من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله".
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: ما على ظهر الأرض مؤمن إلا وقد دخل في هذه البيعة. وفي لفظ: اسعوا إلى بيعة بايع الله بها كل مؤمن {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوالَهُم}.
ولكن العجب ممن يدعون الإيمان وهم ينكثون بيعة الله عزّ وجلّ، فهم لا يبذلون أنفسهم ولا شيئا من أموالهم في سبيل الله، وإنما يطلبون الجنة بغير ثمنها، كما يطلبون سعادة الدنيا وسيادتها من غير طريقها، ولا طريق لها إلا الجهاد بالمال والنفس. والقرآن حجة عليهم وهو حجة الله البالغة التي لا يدحضها شيء وهي تدحض كل شيء.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ْ} التي هي أشرف الكتب التي طرقت العالم، وأعلاها، وأكملها، وجاء بها أكمل الرسل أولو العزم، وكلها اتفقت على هذا الوعد الصادق.
{وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}...وإذا أردت أن تعرف مقدار الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو اللّه جل جلاله، وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها، جنات النعيم، وإلى الثمن المبذول فيها، وهو النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان، وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل، وبأي كتاب رقم، وهي كتب اللّه الكبار المنزلة على أفضل الخلق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"هذا المقطع الأخير من السورة -أو الدرس الأخير فيها- بقية في الأحكام النهائية في طبيعة العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره؛ تبدأ من تحديد العلاقة بين المسلم وربه، وتحديد طبيعة الإسلام الذي أعلنه؛ ومن بيان تكاليف هذا الدين، ومنهج الحركة به في مجالاته الكثيرة. إن الدخول في الإسلام صفقة بين متبايعين.. اللّه -سبحانه- فيها هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع. فهي بيعة مع اللّه لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله يحتجزه دون اللّه -سبحانه- ودون الجهاد في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا، وليكون الدين كله للّه. فقد باع المؤمن للّه في تلك الصفقة نفسه وماله مقابل ثمن محدد معلوم، هو الجنة:وهو ثمن لا تعدله السلعة، ولكنه فضل اللّه ومَنَّه: (إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون، وعدا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن. ومن أوفى بعهده من اللّه؟ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم). والذين بايعوا هذه البيعة، وعقدوا هذه الصفقة هم صفوة مختارة، ذات صفات مميزة.. منها ما يختص بذوات أنفسهم في تعاملها المباشر مع اللّه في الشعور والشعائر؛ ومنها ما يختص بتكاليف هذه البيعة في أعناقهم من العمل خارج ذواتهم لتحقيق دين اللّه في الأرض من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام على حدود اللّه في أنفسهم وفي سواهم: (التائبون، العابدون، الحامدون، السائحون، الراكعون الساجدون، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود اللّه. وبشر المؤمنين). والآيات التالية في السياق تقطع ما بين المؤمنين الذين باعوا هذه البيعة وعقدوا هذه الصفقة، وبين كل من لم يدخلوا معهم فيها -ولو كانوا أولى قربى- فقد اختلفت الوجهتان، واختلف المصيران، فالذين عقدوا هذه الصفقة هم أصحاب الجنة، والذين لم يعقدوها هم أصحاب الجحيم. ولا لقاء في دنيا ولا في آخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم. وقربى الدم والنسب إذن لا تنشئ رابطة، ولا تصلح وشيجة بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين -ولو كانوا أولي قربى- من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم). (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه. إن إبراهيم لأواه حليم).. وولاء المؤمن يجب أن يتمحض للّه الذي عقد معه تلك الصفقة؛ وعلى أساس هذا الولاء الموحد تقوم كل رابطة وكل وشيجة -وهذا بيان من اللّه للمؤمنين يحسم كل شبهة ويعصم من كل ضلالة- وحسب المؤمنين ولاية اللّه لهم ونصرته؛ فهم بها في غنى عن كل ما عداه، وهو مالك الملك ولا قدرة لأحد سواه: (وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن اللّه بكل شيء عليم)، (إن اللّه له ملك السماوات والأرض، يحيي ويميت، وما لكم من دون اللّه من ولي ولا نصير). ولما كانت هذه طبيعة تلك البيعة؛ فقد كان التردد والتخلف عن الغزوة في سبيل اللّه أمراً عظيماً، تجاوز اللّه عنه لمن علم من نواياهم الصدق والعزم بعد التردد والتخلف؛ فتاب عليهم رحمة منه وفضلاً: (لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة، من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم؛ ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم). (وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه؛ ثم تاب عليهم ليتوبوا، إن اللّه هو التواب الرحيم). (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ومن ثم بيان محدد لتكاليف البيعة في أعناق أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب؛ أولئك القريبون من رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- الذين يؤلفون القاعدة الإسلامية، ومركز الانطلاق الإسلامي؛ واستنكار لما وقع منهم من تخلف؛ مع بيان ثمن الصفقة في كل خطوة وكل حركة في تكاليف البيعة: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول اللّه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل اللّه، ولا يطأون موطئاً يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح، إن اللّه لا يضيع أجر المحسنين)، (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة، ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم، ليجزيهم اللّه أحسن ما كانوا يعملون) ومع هذا التحضيض العميق على النفرة للجهاد بيان لحدود التكليف بالنفير العام. وقد اتسعت الرقعة وكثر العدد، وأصبح في الإمكان أن ينفر البعض ليقاتل ويتفقه في الدين؛ ويبقى البعض للقيام بحاجيات المجتمع كله من توفير للأزواد ومن عمارة للأرض، ثم تتلاقى الجهود في نهاية المطاف: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة. فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم، لعلهم يحذرون!) وفي الآية التالية تحديد لطريق الحركة الجهادية -بعدما أصبحت الجزيرة العربية بجملتها قاعدة للإسلام ونقطة لانطلاقه- وأصبح الخط يتجه إلى قتال المشركين كافة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله للّه.. وقتال أهل الكتاب كافة كذلك حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن اللّه مع المتقين).. وعقب هذا البيان المفصل لبيان طبيعة البيعة ومقتضياتها وتكاليفها وخطها الحركي.. يعرض السياق مشهداً من صفحتين تصوران موقف المنافقين وموقف المؤمنين من هذا القرآن وهو يتنزل بموحيات الإيمان القلبية، وبالتكاليف والواجبات العملية. ويندد بالمنافقين الذين لا تهديهم التوجيهات والآيات، ولا تعظهم النذر والابتلاءات: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول:أيكم زادته هذه إيماناً؛ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون). (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون). (أو لا يرون أنهم يُفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون؟) (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض:هل يراكم من أحد؟ ثم انصرفوا. صرف اللّه قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون).. ويختم الدرس وتختم معه السورة بآيتين تصوران طبيعة رسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- وحرصه على المؤمنين ورأفته بهم ورحمته. مع توجيهه -[صلى الله عليه وسلم]- إلى الاعتماد على اللّه وحده، والاستغناء عن المعرضين الذين لا يهتدون: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم. فإن تولوا فقل حسبي اللّه لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم) ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لمحتويات هذا المقطع الأخير في السورة يتجلى مدى التركيز على الجهاد؛ وعلى المفاصلة الكاملة على أساس العقيدة؛ وعلى الانطلاق بهذا الدين في الأرض -وفقاً للبيعة على النفس والمال بالجنة للقتل والقتال- لتقرير حدود اللّه والمحافظة عليها؛ أي لتقرير حاكمية اللّه للعباد، ومطاردة كل حاكمية مغتصبة معتدية! ولعله من خلال هذا العرض الإجمالي لهذه الحقيقة كذلك يتجلى مدى التهافت والهزيمة التي تسيطر على شراح آيات اللّه وشريعة اللّه في هذا الزمان؛ وهم يحاولون جاهدين أن يحصروا الجهاد الإسلامي في حدود الدفاع الإقليمي عن ""أرض الإسلام ""بينما كلمات اللّه -سبحانه- تعلن في غير مواربة عن الزحف المستمر على من يلون ""أرض الإسلام"" هذه من الكفار؛ دون ذكر لأنهم معتدون! فالاعتداء الأساسي متمثل في اعتدائهم على ألوهية اللّه -سبحانه- بتعبيد أنفسهم وتعبيد العباد لغير اللّه. وهذا الاعتداء هو الذي يقتضي جهادهم ما استطاع المسلمون الجهاد! وحسبنا هذه الإشارة في هذا التقديم المجمل للدرس الأخير، لنواجه نصوصه بالتفصيل."
هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عده من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان.. هذا النص -حين واجهته في "الظلال" أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان! إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين باللّه، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها- بإسلامهم -طوال الحياة. فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف [المؤمن] وتتمثل فيه حقيقة الإيمان. وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق! حقيقة هذه البيعة- أو هذه المبايعة كما سماها اللّه كرماً منه وفضلاً وسماحة -أن اللّه- سبحانه -قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله. لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن: هو الجنة.. والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال.. والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد: (إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون).. من بايع على هذا. من أمضى عقد الصفقة. من ارتضى الثمن ووفى. فهو المؤمن.. فالمؤمنون هم الذين اشترى اللّه منهم فباعوا.. ومن رحمة اللّه أن جعل للصفقة ثمنا، وإلا فهو واهب الأنفس والأموال، وهو مالك الأنفس والأموال. ولكنه كرم هذا الإنسان فجعله مريداً؛ وكرمه فجعل له أن يعقد العقود ويمضيها- حتى مع اللّه -وكرمه فقيده بعقوده وعهوده؛ وجعل وفاءه بها مقياس إنسانيته الكريمة؛ ونقضه لها هو مقياس ارتكاسه إلى عالم البهيمة:.. شر البهيمة.. (إن شر الدواب عند اللّه الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون).. كما جعل مناط الحساب والجزاء هو النقض أو الوفاء. وإنها لبيعة رهيبة- بلا شك -ولكنها في عنق كل مؤمن- قادر عليها -لا تسقط عنه إلا بسقوط إيمانه. ومن هنا تلك الرهبة التي أستشعرها اللحظة وأنا أخط هذه الكلمات: (إن اللّه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون).. عونك اللهم! فإن العقد رهيب.. وهؤلاء الذين يزعمون أنفسهم "مسلمين" في مشارق الأرض ومغاربها، قاعدون، لا يجاهدون لتقرير ألوهية اللّه في الأرض، وطرد الطواغيت الغاصبة لحقوق الربوبية وخصائصها في حياة العباد. ولا يقتلون. ولا يقتلون. ولا يجاهدون جهاداً ما دون القتل والقتال! ولقد كانت هذه الكلمات تطرق قلوب مستمعيها الأولين- على عهد رسول اللّه -[ص]- فتتحول من فورها في القلوب المؤمنة إلى واقع من واقع حياتهم؛ ولم تكن مجرد معان يتملونها بأذهانهم، أو يحسونها مجردة في مشاعرهم. كانوا يتلقونها للعمل المباشر بها. لتحويلها إلى حركة منظورة، لا إلى صورة متأملة.. هكذا أدركها عبد اللّه بن رواحة -رضي اللّه عنه- في بيعة العقبة الثانية. قال محمد بن كعب القرظي وغيره: قال عبد الله بن رواحة رضي اللّه عنه، لرسول اللّه -[صلى الله عليه وسلم]- [يعني ليلة العقبة] -: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: "أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم". قال: فما لنا إذا نحن فعلنا ذلك؟ قال:"الجنة "". قالوا: ربح البيع، ولا نقيل ولا نستقيل.. هكذا.." ربح البيع ولا نقيل ولا نستقيل".. لقد أخذوها صفقة ماضية نافذة بين متبايعين؛ انتهى أمرها، وأمضي عقدها، ولم يعد إلى مرد من سبيل: "لا نقيل ولا نستقيل" فالصفقة ماضية لا رجعة فيها ولا خيار؛ والجنة: ثمن مقبوض لا موعود! أليس الوعد من اللّه؟ أليس اللّه هو المشتري؟ أليس هو الذي وعد الثمن. وعداً قديماً في كل كتبه: (وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن).. (ومن أوفى بعهده من اللّه؟). أجل! ومن أوفى بعهده من اللّه؟ إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن.. كل مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل ومنذ كان دين اللّه.. إنها السنة الجارية التي لا تستقيم هذه الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركها: (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).. (ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيراً).. إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه. ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق!.. بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق.. إن دين اللّه لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية للّه وحده. ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في "الأرض" كلها لتحرير "الإنسان" كله. ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا ينثني عنه ليدع للباطل طريقاً!.. وما دام في "الأرض" كفر. وما دام في "الأرض" باطل. وما دامت في "الأرض" عبودية لغير اللّه تذل كرامة "الإنسان" فالجهاد في سبيل اللّه ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء. وإلا فليس بالإيمان: و "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق"... [رواه الإمام أحمد، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي]. (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم). استبشروا بإخلاص أنفسكم وأموالكم للّه، وأخذ الجنة عوضاً وثمناً، كما وعد اللّه.. وما الذي فات؟ ما الذي فات المؤمن الذي يسلم للّه نفسه وماله ويستعيض الجنة؟ واللّه ما فاته شيء. فالنفس إلى موت، والمال إلى فوت. سواء أنفقهما صاحبهما في سبيل اللّه أم في سبيل سواه! والجنة كسب. كسب بلا مقابل في حقيقة الأمر ولا بضاعة! فالمقابل زائل في هذا الطريق أو ذاك! ودع عنك رفعة الإنسان وهو يعيش للّه. ينتصر -إذا انتصر- لإعلاء كلمته، وتقرير دينه، وتحرير عباده من العبودية المذلة لسواه. ويستشهد -إذا استشهد- في سبيله، ليؤدي لدينه شهادة بأنه خير عنده من الحياة. ويستشعر في كل حركة وفي كل خطوة -أنه أقوى من قيود الأرض وأنه أرفع من ثقلة الأرض، والإيمان ينتصر فيه على الألم، والعقيدة تنتصر فيه على الحياة. إن هذا وحده كسب. كسب بتحقيق إنسانية الإنسان التي لا تتأكد كما تتأكد بانطلاقه من أوهاق الضرورة؛ وانتصار الإيمان فيه على الألم، وانتصار العقيدة فيه على الحياة.. فإذا أضيفت إلى ذلك كله.. الجنة.. فهو بيع يدعو إلى الاستبشار؛ وهو فوز لا ريب فيه ولا جدال: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم). ثم نقف وقفة قصيرة أمام قوله تعالى في هذه الآية: (وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن).. فوعد اللّه للمجاهدين في سبيله في القرآن معروف مشهور مؤكد مكرور.. وهو لا يدع مجالا للشك في أصالة عنصر الجهاد في سبيل اللّه في طبيعة هذا المنهج الرباني؛ باعتباره الوسيلة المكافئة للواقع البشري- لا في زمان بعينه ولا في مكان بعينه -ما دام أن الجاهلية لا تتمثل في نظرية تقابل بنظرية ولكنها تتمثل في تجمع عضوي حركي، يحمي نفسه بالقوة المادية؛ ويقاوم دين اللّه وكل تجمع إسلامي على أساسه بالقوة المادية كذلك؛ ويحول دون الناس والاستماع لإعلان الإسلام العام بألوهية اللّه وحده للعباد، وتحرير" الإنسان "في" الأرض "من العبودية للعباد. كما يحول دونهم ودون الانضمام العضوي إلى التجمع الإسلامي المتحرر من عبادة الطاغوت بعبوديته لله وحده دون العباد.. ومن ثم يتحتم على الإسلام في انطلاقه في" الأرض "لتحقيق إعلانه العام بتحرير" الإنسان "أن يصطدم بالقوة المادية التي تحمي التجمعات الجاهلية؛ والتي تحاول بدورها- في حتمية لا فكاك منها -أن تسحق حركة البعث الإسلامي وتخفت إعلانه التحريري، لاستبقاء العباد في رق العبودية للعباد! فأما وعد اللّه للمجاهدين في التوراة والإنجيل. فهو الذي يحتاج إلى شيء من البيان.. إن التوراة والإنجيل اللذين في أيدي اليهود والنصارى اليوم لا يمكن القول بأنهما هما اللذان أنزلهما اللّه على نبيه موسى وعلى نبيه عيسى عليهما السلام! وحتى اليهود والنصارى أنفسهم لا يجادلون في أن النسخة الأصلية لهذين الكتابين لا وجود لها؛ وأن ما بين أيديهم قد كتب بعد فترة طويلة ضاعت فيها معظم أصول الكتابين؛ ولم يبق إلا ما وعته ذاكرة بعد ذاكرة.. وهو قليل.. أضيف إليه الكثير! ومع ذلك فما تزال في كتب العهد القديم إشارات إلى الجهاد، والتحريض لليهود على قتال أعدائهم الوثنيين، لنصر إلههم وديانته وعبادته! وإن كانت التحريفات قد شوهت تصورهم للّه- سبحانه -وتصورهم للجهاد في سبيله. فأما في الأناجيل التي بين أيدي النصارى اليوم فلا ذكر ولا إشارة إلى جهاد.. ولكننا في حاجة شديدة إلى تعديل المفهومات السائدة عن طبيعة النصرانية؛ فهذه المفهومات إنما جاءت من هذه الأناجيل التي لا أصل لها- بشهادة الباحثين النصارى أنفسهم! -وقبل ذلك بشهادة اللّه سبحانه كما وردت في كتابه المحفوظ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. واللّه سبحانه يقول في كتابه المحفوظ: إن وعده بالجنة لمن يقاتلون في سبيل اللّه فيقتلون ويقتلون؛ ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن.. فهذا إذن هو القول الفصل الذي ليس بعده لقائل مقال! إن الجهاد في سبيل اللّه بيعة معقودة بعنق كل مؤمن، كل مؤمن على الإطلاق، منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين اللّه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لما كان الكلام في الآيات السابقة عن المتخلفين عن الجهاد، فإنّ هاتين الآيتين قد بيّنتا المقام الرفيع للمجاهدين المؤمنين مع ذكر مثال رائع.
لقد عرّف الله سبحانه وتعالى نفسه في هذا المثال بأنّه مشتر، والمؤمنين بأنّهم بائعون، وقال: (إِنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة).
ولما كانت كل معاملة تتكون في الحقيقة من خمسة أركان أساسية، وهي عبارة عن: المشتري، والبائع، والمتاع، والثمن، وسند المعاملة أو وثيقتها، فقد أشار الله سبحانه إِلى كل هذه الأركان، فجعل نفسه مشترياً، والمؤمنين بائعين، وأموالهم وأنفسهم متاعاً وبضاعة، والجنّة ثمناً لهذه المعاملة، غاية ما في الأمر أنّه بيّن طريقة تسليم البضاعة بتعبير لطيف، فقال: (يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) وفي الواقع فإنّ يد الله سبحانه حاضرة في ميدان الجهاد لتقبل هذه البضاعة، سواء كانت روحاً أم مالا يبذل في أمر الجهاد.
ثمّ يشير بعد ذلك إِلى سند المعاملة الثابت، والذي يشكل الركن الخامس فيها، فقال: (وعداً عليه حقّاً في التوراة والإِنجيل والقرآن).
إِذا أمعنا النظر في قوله: (في سبيل الله) يتّضح جلياً أنّ الله تعالى يشتري الأرواح والجهود والمساعي التي تبذل وتصرف في سبيله، أي سبيل إحقاق الحق والعدالة، والحريّة والخلاص لجميع البشر من قبضة الكفر والظلم والفساد.
ثم، ومن أجل التأكيد على هذه المعاملة، تضيف الآية: (ومن أوفى بعهده من الله) أي أنّ ثمن هذه المعاملة وإن كان مؤجلا، إلاّ أنّه مضمون، ولا وجود لأخطار النسيئة، لأنّ الله تعالى لقدرته واستغنائه عن الجميع أوفى من الكل بعهده، فلا هو ينسى، ولا يعجز عن الأداء، ولا يفعل ما يخالف الحكمة ليندم عليه ويرجع عنه، ولا يخلف وعده والعياذ بالله، وعلى هذا فلا يبقى أي مجال للشك في وفائه بعهده، وأدائه الثمن في رأس الموعد المقرر.
والأروع من كل شيء أنّه تعالى قد بارك للطرف المقابل صفقته، ويتمنى لهم أن تكون صفقة وفيرة الربح، تماماً كما هو المتعارف بين التجار، فيقول عزّ َوجلّ: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
وقد جاء نظير هذا المبحث بعبارات أُخرى، ففي الآيتين (10) و (11) من سورة الصف يقول الله عزَّ وجلّ: (يا أيّها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إِن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم).
إنّ الإنسان ليقع في حيرة هنا من كل هذا اللطف والرحمة الإِلهية، فإنّ الله المالك لكل عالم الوجود، والحاكم المطلق على جميع عالم الخلقة، وكل ما يملكه أيّ موجود فإنما هو من فيضه ومنحته، يبدو في مقام المشتري لنفس هذه المواهب التي وهبها لعباده، ويشتري ما أعطاه بمئات الأضعاف.
والأعجب من ذلك، أنّ الجهاد الذي هو السبب في عزّة الإِنسان وافتخار الأمة، وثمراته تعود في النهاية عليها، قد اعتبر دفعاً وتسليما لهذه البضاعة.
ومع أنّ المتعارف أنّ الثمن يجب أن يعادل المثمن أو البضاعة، إلاّ أن هذا التعادل لم يلاحظ في هذه المعاملة، وجعلت السعادة الأبدية في مقابل بضاعة متزلزلة يمكن أن تفنى في أية لحظة، سواء كان على فراش المرض أو ساحة القتال.
والأهم من هذا أنّ الله سبحانه وتعالى مع أنّه أصدق الصادقين، ولا يحتاج إِلى سند وضمان، فإنّه تعهد بأهم الوثائق والضمانات أمام عبيده.
وفي نهاية هذه المعاملة العظيمة، والصفقة الكبيرة، فإنّه قد بارك لهم وبشّرهم، فهل تُتصور رحمة ومحبّة أعلى من هذه؟!