37- فليس هناك أظلم من الذين يفترون الكذب على الله ، بنسبة الشريك والولد إليه ، وادِّعاء التحليل والتحريم وغيرهما من غير حُجة ، أو يكذبون بآيات الله الموحى بها في كتبه الموجودة في كونه ، أولئك ينالون في الدنيا نصيباً مما كتب الله لهم من الرزق أو الحياة أو العذاب ، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت ليقبضوا أرواحهم ، قالوا لهم موبخين : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله لتدرأ عنكم الموت ؟ فيجيبون : تبرأوا منا ، وتركونا وغابوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم مقرين بأنهم كانوا كافرين .
استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك بطريقته التصويرية المعجزة فيقول : { فَمَنْ أَظْلَمُ . . . . } .
أى : با أحد أشد ظلما ممن افترى الكذب على الله ، بأن أحل ما حرمه أو حرم ما أحله ، أو كذب بآياته المنزلة على أنبيائه ، والاستفهام في قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } للإنكار .
ثم بين - سبحانه - عاقبتهم فقال : { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب } . أى : أولئك الذين كذبوا بآيات الله سينالهم نصيبهم مما كتب لهم وقدر من رزق وأجر ، وخير وشر ، والمراد بالكتاب ، كتاب الوحى الذي أنزل على الرسل ، فإنه يتضمن ما أعده الله للمؤمنين من ثواب وما أعده للكافرين من عقاب ، وقيل المراد به اللوح المحفوظ ، أى أولئك ينالهم نصيبهم المكتوب لهم في كتاب المقادير ، وهو : اللوح المحفوظ .
ثم صور القرآن حالهم عند قبض أرواحهم فقال : { حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
أى : أولئك المفترون ينالهم نصيبهم الذي كتب لهم مدة حياتهم ، حتى إذا ما انتهت آجالهم وجاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم سألتهم سؤال توبيخ وتقريع : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، وتزعمون أنها شفعاؤكم عند الله لكى تنقذكم من هذا الموقف العصيب ؟ وهنا يجيب المشركون على الملائكة بقولهم بحسرة وندامة : { ضَلُّواْ عَنَّا } أى : غابوا عنا وصرنا لا ندرى مكانهم ، ولا نرجو منهم خيرا أو نفعا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بعبادتهم لغير الله الواحد القها . }
ها نحن أولاء أمام مشهد الاحتضار . احتضار الذين افتروا على الله الكذب ، فزعموا أن ما ورثوه عن آبائهم من التصورات والشعائر ، وما شرعوه هم لأنفسهم من التقاليد والأحكام ، أمرهم به الله ، والذين كذبوا بآيات الله التي جاءهم بها الرسل - وهي شرع الله المستيقن - وآثروا الظن والحرص على اليقين والعلم . وقد نالوا نصيبهم من متاع الدنيا الذي كتب لهم ، ومن فترة الابتلاء التي قدرها الله ، كما نالوا نصيبهم من آيات الله التي أرسل بها رسله وأبلغهم الرسل نصيبهم من الكتاب :
( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياتنا ؟ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم ، قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ قالوا : ضلوا عنا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته ؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم ، ويقبضون أرواحهم . فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار :
( قالوا : أين ما كنتم تدعون من دون الله ؟ ) . .
أين دعاويكم التي افتريتم على الله ؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا ، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل ؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة ؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله ؟
ويكون الجواب هو الجواب الوحيد ، الذي لا معدى عنه ، ولا مغالطة فيه :
غابوا عنا وتاهوا ! فلا نحن نعرف لهم مقراً ، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً ! . . فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم ، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة ! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها . في مثل هذا الأوان !
( وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ) . .
وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا : ( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ) !
الفاء للتّفريع على جملة الكلام السّابق ، وهذه كالفذلكة لما تقدّم لتُبيِّن أنّ صفات الضّلال ، التي أُبهم أصحابُها ، هي جافة بالمشركين المكذّبين برسالة محمّد عليه الصّلاة والسّلام فإنّ الله ذكر أولياء الشّياطين وبعض صفاتهم بقوله : { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } [ الأعراف : 27 ] وذكر أنّ الله عهد لبني آدم منذ القدم بأن يتّبعوا من يجيئهم من الرّسل عن الله تعالى بآياته ليتّقوا ويصلحوا ، ووعدهم على اتباع ما جاءهم بيني الخوف والحزن وأوعدهم على التّكذيب والاستكبار بأن يكونوا أصحاب النّار ، فقد أعذر إليهم وبصّرهم بالعواقب ، فتفرّع على ذلك : أن من كَذَب على الله فزعم أنّ الله أمره بالفواحش ، أوْ كَذب بآيات الله التي جاء بها رسوله ، فقد ظلم نفسه ظُلماً عظيماً حتّى يُسْأل عمن هو أظلم منه .
ولك أن تجعل جملة : { فمن أظلم ممن افترى } [ الأنعام : 144 ] إلخ معترضة بين جملة : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] وجملة : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } كما سيأتي في موقع هذه الأخيرة ، وقد تقدّم الكلام على تركيب : { من أظلم ممن } عند قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } في سورة البقرة ( 114 ) ، وأنّ الاستفهام للإنكار ، أي لا أحد أظلم .
والافتراء والكذب تقدّم القول فيهما عند قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة العقود ( 103 ) . ولهذه الآية اتّصال بآية : { وكم من قرية أهلكناها } [ الأعراف : 4 ] من حيث ما فيها من التّهديد بوعيد عذاب الآخرة وتفظيع أهواله .
و ( من ) استفهام إنكاري مستعمل في تهويل ظلم هذا الفريق ، المعبّر عنه بمَن افترى على الله كذباً . و ( مَنْ ) الثّانية موصولة ، وهي عامة لكلّ من تتحقّق فيه الصّلة ، وإنّما كانوا أظلم النّاس ولم يكن أظلمُ منهم ، لأنّ الظلم اعتداء على حقّ ، وأعظم الحقوق هي حقوق الله تعالى ، وأعظم الاعتداء على حقّ الله الاعتداءُ عليه بالاستخفاف بصاحبه العظيم ، وذلك بأن يكذّب بما جاءه من قِبله ، أو بأن يَكْذِب عليه قيبلِّغ عنه ما لم يأمر به فإنْ جَمَع بين الأمرين فقد عطّل مراد الله تعالى من جهتين : جهة إبطال ما يدلّ على مراده ، وجهة إيهام النّاس بأنّ الله أراد منهم ما لا يريده الله .
والمراد بهذا الفريق : هم المشركون من العرب ، فإنّهم كذّبوا بآيات الله التي جاء بها محمّد صلى الله عليه وسلم وافتروا على الله الكذب فيما زعموا أنّ الله أمرهم به من الفواحش ، كما تقدّم آنفاً عند قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] .
و ( أو ) ظاهرها التّقسيم فيكون الأظلمُ وهم المشركون فريقين : فريق افتروا على الله الكذب ، وهم سادة أهل الشّرك وكبراؤهم ، الذين شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، ونسبوه إلى الله وهم يعلمون ، مثل عَمْرو بن لُحَيّ ، وأبي كَبْشة ، ومن جاء بعدهما ، وأكثر هذا الفريق قد انقرضوا في وقت نزول الآية ، وفريق كذّبوا بآياتٍ ولم يفتروا على الله وهم عامة المشركين ، من أهل مكّة وما حولها ، وعلى هذا فكلّ واحد من الفريقين لا أظلمَ منه ، لأنّ الفريق الآخر مساوٍ له في الظلم وليس أظلَم منه ، فأمَّا من جمع بين الأمرين ممّن لعلّهم أن يكونوا قد شرعوا للمشركين أموراً من الضّلالات ، وكذّبوا محمّداً صلى الله عليه وسلم فهم أشدّ ظلماً ، ولكنّهم لمّا كانوا لا يخلون عن الانتساب إلى كلا الفريقين وجامعين للخصلتين لم يخرجوا من كونهم من الفريق الذين هم أظلم النّاس ، وهذا كقوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثلما أنزل الله } [ الأنعام : 93 ] ، فلا شكّ أنّ الجامع بين الخصال الثّلاث هو أظلم من كلّ من انفرد بخصلة منها ، وذلك يوجب له زيادة في الأظلميّة ، لأنّ كلّ شدّة وصف قابلة للزّيادة .
ولك أن تجعل ( أو ) بمعنى الواو ، فيكون الموصوف بأنّه أظلم النّاس هو من اتّصف بالأمرين الكذب والتّكذيب ، ويكون صادقاً على المشركين لأنّ جماعتهم لا تخلو عن ذلك .
شيء باسم الإشارة في قوله : { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ليدلّ على أنّ المشار إليهم أحرياء بأن يصيبهم العذاب بناءً على ما دلّ عليه التّفريع بالفاء .
وجملة { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن الاستفهام في قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } الآية ، لأنّ التّهويل المستفاد من الاستفهام يسترعي السّامع أن يَسأل عمّا سيلاقُونه من الله الذي افتروا عليه وكذّبوا بآياته .
ويجوز أن تكون جملة : { أولئك ينالهم نصيبهم } عطف بيان لجملة : { أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] أي خالدون الخلود الذي هو نصيبهم من الكتاب .
وتكملة هذه الجملة هي جملة : { حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } الآية كما سيأتي .
ومادة النّيل والنّوال وردت واوية العين ويائية العين مختلطتين في دواوين اللّغة ، غير مفصحةً عن توزيع مواقع استعمالها بين الواوي واليائيّ ، ويظهر أن أكثر معاني المادتين مترادفة وأنّ ذلك نشأ من القلب في بعض التّصاريف أو من تداخل اللّغات ، وتقول نُلْتُ بضمّ النّون من نال يُنول ، وتقول نِلْت بكسر النّون من نال يَنِيل ، وأصل النّيْل إصابة الإنسان شيئاً لنفسه بيَده ، ونوّله أعطاهُ فنال ، فالأصل أن تقول نَال فلان كسباً ، وقد جاء هنا بعكس ذلك لأنّ النّصيب من الكتاب هو أمر معنوي ، فمقتضى الظّاهر أن يكون النّصيب مَنُولا لا نَائلاً ، لأنّ النّصيب لا يُحصِّل الذين افتروا على الله كذباً ، بل بالعكس : الذين افتروا يحصلونه ، وقد جاء ذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } [ الحج : 37 ] وقوله { سينالهم غضب من ربهم } [ الأعراف : 152 ] ، فتعيّن أن يكون هذا إمّا مجازاً مرسلاً في معنى مطلق الإصابة ، وإمّا أن يكون استعارة مبنيّة على عكس التّشبيه بأن شبّه النّصيب بشخص طالب طِلبة فنالها ، وإنّما يصار إلى هذا للتّنبيه على أنّ الذي ينالهم شيءٌ يكرهونه ، وهو يطلبهم وهم يفرّون منه ، كما يطلب العدوّ عدوّه ، فقد صار النّصيب من الكتاب كأنَّه يطلب أن يحصِّل الفريق الذين حقّ عليهم ويصادِفهم ، وهو قريب من القلب المبني على عكس التّشبيه في قول رؤبة :
وَمَهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأنّ لَوْنَ أرْضِهِ سَمَاؤُه
وقولهم : « عرضتُ النّاقة على الحوض » .
والنّصيب الحظّ الصّائر لأحد المتقاسمين من الشّيء المقسوم ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { أولئك لهم نصيب مما كسبوا } في سورة البقرة ( 202 ) ، وقوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } في سورة النساء ( 7 ) .
والمراد بالكتاب ما تضمَّنه الكتاب ، فإن كان الكتاب مستعملاً حقيقة فهو القرآن ، ونصيبهم منه هو نصيبهم من وعيده ، مثل قوله تعالى آنفاً : { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } [ الأعراف : 36 ] ، وإن كان الكتاب مجازاً في الأمر الذي قضَاه الله وقدّره ، على حدّ قوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] أي الكتاب الثّابت في عِلم الله من إحقاق كلمة العذاب عليهم ، فنصيبهم منه هو ما أخبر الله بأنّه قدّره لهم من الخلود في العذاب ، وأنّه لا يغفر لهم ، ويَشْمل ذلك ما سبق تقديره لهم من الإمهال وذلك هو تأجيلهم إلى أجل أراده ثمّ استئصالهم بعده كما أخبر عن ذلك آنفاً بقوله : { ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } [ الأعراف : 34 ] . وحمل كثير من المفسّرين النّصيب على ما ينالهم من الرّزق والإمهال في الدّنيا قبل نزول العذاب بهم وهو بعيد من معنى الفاء في قوله : { فمن أظلم } ولا أحسب الحادي لهم على ذلك إلاّ ليكون نوال النّصيب حاصلاً في مدّةٍ ممتدّة ليَكون مجيء الملائكة لتَوَفِّيهم غاية لانتهاء ذلك النّصيب ، استبقاء لمعنى الغاية الحقيقيّة في ( حتّى ) . وذلك غير ملتزَم ، فإنّ حتّى الابتدائيّة لا تفيد من الغاية ما تفيده العاطفة كما سنذكره .
والمعنى : إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه ، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه ، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا ، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله ، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم .
وجملة : { حتى إذا جاءتهم رسلنا } تفصيل لمضمون جملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } فالوقت الذي أفاده قوله : { إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم } هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا .
و { حتى } ابتدائيّة لأنّ الواقع بعدها جملة فتفيد السّببيّة ، فالمعنى : ف { إذا جاءتهم رسلنا } إلخ ، و ( حَتّى ) الابتدائيه لها صدر الكلام فالغاية التي تدلّ عليها هي غاية مَا يُخبر به المخبر ، وليست غايةَ ما يبلغ إليه المعطوف عليه بحتّى ، لأنّ ذلك إنّما يُلتزم إذا كانت حتّى عاطفة ، ولا تفيد إلاّ السّببيّة كما قال ابن الحاجب فهي لا تفيد أكثر من تسبّب ما قبلها فيما بعدها ، قال الرضي ؛ قال المصنف : وإنّما وجب مع الرّفع السّببيّة لأنّ الاتّصال اللّفظي لمَّا زال بسبب الاستئناف شُرِط السّببيّة التي هي موجبة للاتّصال المعنوي ، جبراً لما فات من الاتّصال اللّفظي ، قال عَمرو بن شَأس :
نذود الملوك عنكُمُ وتذودُنا *** ولا صُلْحَ حتّى تَضبَعُونَ ونَضْبَعا
وقد تقدّم بعض هذا عند قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة } في سورة الأنعام ( 31 ) و ( حتّى ) الابتدائيّة تدلّ على أنّ مضمون الكلام الّذي بعدها أهمّ بالاعتناء للإلقاء عند المتكلّم لأنّه أجدى في الغرض المسوق له الكلام ، وهذا الكلام الواقع هنا بعد ( حتّى ) فيه تهويلُ ما يصيبهم عند قبض أرواحهم ، وهو أدخل في تهديدهم وترويعهم وموعظتهم ، من الوعيد المتعارف ، وقد هدّد القرآن المشركين بشدائد الموْت عليهم في آيات كثيرة لأنهم كانوا يرهبونه . والرّسُل هم الملائكة قال تعالى : { قل يتوفاكم ملك الموت } [ السجدة : 11 ] وقال { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } [ الأنفال : 50 ] .
وجملة : { يتوفونهم } في موضع الحال من { رُسلنا } وهي حال معلِّلة لعاملها ، كقوله : { ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم } [ الأعراف : 61 ، 62 ] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم .
والتّوفي نزع الرّوح من الجسد ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك } في سورة آل عمران ( 55 ) وهو المراد هنا ، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى ، ممّا تردّد فيه المفسّرون ، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف ( حتى ) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً ، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال ، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك .
ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب ، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمععِ والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ ، على طريقة : رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم . وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة ، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد .
والاستفهام في قوله : { أين ما كنتم تدعون من دون الله } مستعمل في التّهكّم والتّأييس .
و ( مَا ) الواقعة بعد أين موصولة ، يعني : أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم ، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أوراحهم ، فقد جاء في حديث « الموطّأ » : أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله . وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر .
وقولهم : { ضلّوا عنّا } أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا ، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع ، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم ، ولم يعلموا سببه ، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم ، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ولذلك قال هنا : { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } ، وقال في الآخرى : { انظر كيف كذبوا على أنفسهم } [ الأنعام : 24 ] .
والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم .
فأمّا قوله : { قال ادخلوا في أمم } فهذا قول آخر ، ليس هو من المحاورة السّابقة ، لأنّه جاء بصيغة الإفراد ، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع ، فتعيّن أنّ ضمير ( قال ) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام ، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى ، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة ، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته ، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار ، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم . والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة .
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة ، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم ، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم . وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول ، بصيغه الماضي : للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر .
ويجوز أن تكون جملة : { قال ادخلوا في أمم } في موضع عطف البيان لجملة { ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي : قال الله فيما كتبه لهم { ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم }
[ الأعراف : 34 ] أي أمثالكم ، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر .
والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله : { ولكل أمة أجل } .
و ( في ) من قوله : { في أمم } للظّرفية المجازيّة ، وهي كونهم في حالة واحدة وحكممٍ واحد ، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم ، وهي بمعنى ( مع ) في تفسير المعنى ، ونقل عن صاحب « الكشاف » أنه نظَّر ( في ) التي في هذه الآية بفي التي في قول عروة بن أذينة :
إنْ تَكُنْ عن حسن الصّنيعة مأفُو *** كاً ففي آخرينَ قد أُفِكُوا
ومعنى : { قد خلت } قد مضت وانقرضت قبلكم ، كما في قوله تعالى : { تلك أمة قد خلت } في سورة البقرة ( 134 ) ، يعني : أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم ، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله : { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } [ إبراهيم : 45 ] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك ، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فمن أظلم}، يعني فلا أحد أظلم، {ممن افترى على الله كذبا} بأن معه شريكا وأنه أمر بتحريم الحرث، والأنعام، والألبان، والثياب، {أو كذب بآياته}، يعني بآيات القرآن، {أولئك ينالهم نصيبهم}، يعني حظهم، {من الكتاب}، وذلك أن الله قال في الكتب كلها، إنه من افترى على الله كذبا، فإنه يسود وجهه، فهذا ينالهم في الآخرة، نظيرها في الزمر: {ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة} (الزمر: 60)، وقال: {حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم}، يعني ملك الموت وحده، ثم قالت لهم خزنة جهنم قبل دخول النار في الآخرة: {قالوا أين ما كنتم تدعون}، يعني تعبدون، {من دون الله} من الآلهة، هل يمنعونكم من النار، {قالوا ضلوا عنا}، يعني ضلت الآلهة عنا، يقول الله: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، وذلك حين قالوا: {والله ربنا ما كنا مشركين} (الأنعام: 23)، فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت الألسن من الشرك والكفر، نظيرها في الأنعام.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فمن أخطأ فعلاً وأجهل قولاً وأبعد ذهابا عن الحقّ والصواب مِمّنِ "افْتَرَى على اللّهِ كَذِبا "يقول: ممن اختلق على الله زورا من القول، فقال إذا فعل فاحشة: إن الله أمرنا بها. "أوْ كَذّبَ بآياتِهِ" يقول: أو كذّب بأدلته وأعلامه الدالة على وحدانيته ونبوّة أنبيائه، فجحد حقيقتها ودافع صحتها. "أُولَئِك" يقول: من فعل ذلك فافترى على الله الكذب وكذّب بآياته، "أُولَئِكَ يَنالَهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتابِ" يقول: يصل إليهم حظهم مما كتب الله لهم في اللوح المحفوظ.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة ذلك النصيب الذي لهم في الكتاب وما هو؛ فقال بعضهم: هو عذاب الله الذي أعدّه لأهل الكفر به...
وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما سبق لهم من الشقاء والسعادة... وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من كتابهم الذي كتب لهم أو عليهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا من خير وشرّ...عن ابن عباس: "أُولَئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتابِ" يقول: نصيبهم من الأعمال، من عمل خيرا جزي به، ومن عمل شرّا جُزي به.
وقال آخرون: معنى ذلك: ينالهم نصيبهم مما وعدوا في الكتاب من خير أو شرّ... وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب الذي كتبه الله على من افترى عليه... وقال آخرون: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم مما كتب لهم من الرزق والعمر والعمل...
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب مما كتب لهم من خير وشرّ في الدنيا ورزق وعمل وأجل. وذلك أن الله جلّ ثناؤه أتبع ذلك قوله: "حتى إذَا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوفّوْنَهُمْ قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ" فأبان بإتباعه ذلك قوله: "أُولَئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الكِتابِ" أن الذي ينالهم من ذلك إنما هو ما كان مقضيا عليهم في الدنيا أن ينالهم، لأنه قد أخبر أن ذلك ينالهم إلى وقت مجيئهم رسله لتقبض أرواحهم. ولو كان ذلك نصيبهم من الكتاب أو مما قد أعدّ لهم في الآخرة، لم يكن محدودا بأنه ينالهم إلى مجيء رسل الله لو فاتهم لأن رسل الله لا تجيئهم للوفاة في الآخرة، وأن عذابهم في الآخرة لا آخر له ولا انقضاء، فإن الله قد قضى عليهم بالخلود فيه، فبين بذلك أن معناه ما اخترنا من القول فيه.
"إذَا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفّوْنَهُمْ قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ قالُوا ضَلّوا عَنّا وشَهِدُوا على أنْفُسِهِمْ أنّهُمْ كانُوا كافِرِينَ".
يعني جلّ ثناؤه بقوله: "حتى إذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا": إلى أن جاءتهم رسلنا، يقول جلّ ثناؤه: وهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب أو كذّبوا بآيات ربهم، ينالهم حظوظهم التي كتب الله لهم وسبق في علمه لهم من رزق وعمل وأجل وخير وشرّ في الدنيا، إلى أن تأتيهم رسلنا لقبض أرواحهم.
"فإذَا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا" يعني: ملك الموت وجنده. "يَتَوَفّوْنَهُمْ" يقول: يستوفون عددهم من الدنيا إلى الآخرة. "قالُوا أيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ" يقول: قالت الرسل: أين الذين كنتم تدعونهم أولياء من دون الله وتعبدونهم، لا يدفعون عنكم ما قد جاءكم من أمر الله الذي هو خالقكم وخالقهم وما قد نزل بساحتكم من عظيم البلاء، وهلاّ يغيثونكم من كرب ما أنتم فيه فينقذونكم منه فأجابهم الأشقياء، فقالوا: ضلّ عنا أولياؤنا الذين كنا ندعو من دون الله، يعني بقوله: "ضَلّوا": جاروا وأخذوا غير طريقنا وتركونا عند حاجتنا إليهم فلم ينفعونا. يقول الله جلّ ثناؤه: وشهد القوم حينئذ على أنفسهم أنهم كانوا كافرين بالله جاحدين وحدانيته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قد ذكرنا في ما تقدم أن قوله تعالى: {فمن أظلم} إنما هو حرف استفهام وسؤال، لم يخرج له جواب. لكن أهل التأويل عرفوا ذلك، فقالوا: لا أحد {أظلم ممن افترى على الله كذبا} مع علمه أنه خالقه، وأنه متقلّب في نعمه، وأحاطت به أياديه وإحسانه...
وقوله تعالى: {فمن أظلم} أي لا أفحش ظلما، ولا أقبح ظلما {ممن افترى على الله كذبا} وقوله تعالى: {افترى على الله كذبا} قيل: الافتراء هو اختراع الكذب من نفسه من غير أن سبق له أحد في ذلك كقوله تعالى: {يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ} [الممتحنة: 12] وإما قد يكون ممّا أنشأ هو، وما سبق له أحد، فسمع عنه...
{أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب} ...
...ما حرّفوا من الكتب، وغيّروه، ثم أضافوا ذلك، ونسبوه إلى الله كقوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} [آل عمران: 78] فصار ما حرّفوه، وغيّروه سنّة منهم، يعملون بها إلى يوم القيامة، فينالون هم جزاء ذلك يوم القيامة...
{حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفّونهم} على هذا التأويل جاءتهم الرسل، تقبض أرواحهم، وهو ظاهر. وعلى تأويل من حمل ذلك على الجزاء في الآخرة فهو يجعل المتوفى في النار لشدة العذاب، وإن كانوا لا يموتون. وهو كقوله تعالى: {ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميّت} [إبراهيم: 17] أي تأتيه أسباب الموت...
فالمقصود من الآية زجر الكفار عن الكفر، لأن التهويل بذكر هذه الأحوال مما يحمل العاقل على المبالغة في النظر والاستدلال والتشدد في الاحتراز عن التقليد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان تكذيب الرسل تارة يكون بشرع شيء لم يشرعوه، وتارة برد ما شرعوه قولاً وفعلاً، وأخبر أن المكذبين أهل النار، علل ذلك بقوله: {فمن أظلم} أي أشنع ظلماً {ممن افترى} أي تعمد {على الله} أي الملك الأعلى {كذباً} أي كمن شرع في المطاعم والملابس غير ما شرع، أو ادعى أنه يوحي إليه فحكم بوجود ما لم يوجد {أو كذب بآياته} أي برد ما أخبر به الرسل فحكم بإنكار ما وجد. ولما كان الجواب: لا أحد أظلم من هذا، بل هو أظلم الناس، وكان مما علم أن الظالم مستحق للعقوبة فكيف بالأظلم قال: {أولئك} أي البعداء من الحضرات الربانية {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي الذي كتب حين نفخ الروح أو من الآجال التي ضربها سبحانه لهم والأرزاق التي قسمها، تأكيداً لرد اعتراض من قال: إن كنا خالفنا فما له لا يهلكنا؟ ثم غَيَّي نيل النصيب بقوله: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} أي الذين قسمنا لهم من عظمتنا ما شئنا حال كونهم {يتوفونهم} أي يقبضون أرواحهم كاملة من جميع أبدانهم {قالوا أين ما كنتم} عناداً كمن هو في جبلته {تدعون} أي دعاء عبادة {من دون الله} أي تزعمون أنهم واسطة لكم عند الملك الأعظم وتدعونهم حال كونكم معرضين عن الله، ادعوهم الآن ليمنعوكم من عذاب الهوان الذي نذيقكم {قالوا ضلوا} أي غابوا {عنا} فلا ناصر لنا. ولما كان الإله لا يغيب فعلموا ضلالهم بغيبتهم عنهم، قال مترجماً عن ذلك: {وشهدوا على أنفسهم} أي بالغوا في الاعتراف {أنهم كانوا كافرين} أي ساترين عناداً لما كشف لهم عنه نور العقل فلا مانع منه إلا حظوظ النفوس ولزوم البؤس.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ها نحن أولاء أمام مشهد هؤلاء الذين افتروا على الله كذباً أو كذبوا بآياته؛ وقد جاءتهم رسل ربهم من الملائكة يتوفونهم، ويقبضون أرواحهم. فدار بين هؤلاء وهؤلاء حوار: (قالوا: أين ما كنتم تدعون من دون الله؟).. أين دعاويكم التي افتريتم على الله؟ وأين آلهتكم التي توليتم في الدنيا، وفتنتم بها عما جاءكم من الله على لسان الرسل؟ أين هي الآن في اللحظة الحاسمة التي تسلب منكم فيها الحياة؛ فلا تجدون لكم عاصماً من الموت يؤخركم ساعة عن الميقات الذي أجله الله؟ ويكون الجواب هو الجواب الوحيد، الذي لا معدى عنه، ولا مغالطة فيه: (قالوا: ضلوا عنا)! غابوا عنا وتاهوا! فلا نحن نعرف لهم مقراً، ولا هم يسلكون إلينا طريقاً!.. فما أضيع عباداً لا تهتدي إليهم آلهتهم، ولا تسعفهم في مثل هذه اللحظة الحاسمة! وما أخيب آلهة لا تهتدي إلى عبادها. في مثل هذا الأوان! (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين).. وكذلك شهدناهم من قبل في سياق السورة عندما جاءهم بأس الله في الدنيا: (فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين)!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إمّا أنّ كل واحد من المشركين سيصيبه ما توعدهم الله به من الوعيد على قدر عتوه في تكذيبه وإعراضه، فنصيبه هو ما يناسب حاله عند الله من مقدار عذابه، وإمّا أن مجموع المشركين سيصيبهم ما قُدر لأمثالهم من الأمم المكذّبين للرّسل المعرضين عن الآيات من عذاب الدّنيا، فلا يغرنّهم تأخير ذلك لأنّه مُصيبهم لا محالة عند حلول أجله، فنصيبهم هو صفة عذابهم من بين صفات العذاب التي عذّبت بها الأمم.
وجملة: {حتى إذا جاءتهم رسلنا} تفصيل لمضمون جملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} فالوقت الذي أفاده قوله: {إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم} هو مبدأ وصف نصيبهم من الكتاب حين ينقطع عنهم الإمهال الذي لَقُوه في الدّنيا.
.. وجملة: {يتوفونهم} في موضع الحال من {رُسلنا} وهي حال معلِّلة لعاملها، كقوله: {ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} [الأعراف: 61، 62] أي رسول لأبلّغكم ولأنْصحَ لكم.
والتّوفي نزع الرّوح من الجسد، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى: {إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك} في سورة آل عمران (55) وهو المراد هنا، ولا جدوى في حمْلهِ على غير هذا المعنى، ممّا تردّد فيه المفسّرون، إلاّ أن المحافظة على معنى الغاية لحرف (حتى) فتوفي الرسل يجوز أن يكون المراد منه وقت أن يتوفوهم جميعاً، إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب الاستئصال، أي حين تبعث طوائف الملائكة لإهلاك جميع أمّة الشّرك.
ويجوز أن يكون المراد حتى يتوفَّون آحادهم في أوقات متفرّقه إن كان المراد بالنّصيب من الكتاب وعيد العذاب، وعلى الوجهين فالقول محكي على وجه الجمع والمراد منه التّوزيع أي قال كلّ ملَك لمن وُكِّل بتوفّيهِ، على طريقة: رَكِبَ القومُ دَوَابَّهم. وقد حكي كلام الرّسل معهم وجوابهم إياهم بصيغة الماضي على طريقة المحاورة، لأنّ وجود ظرف المستقبل قرينة على المراد.
والاستفهام في قوله: {أين ما كنتم تدعون من دون الله} مستعمل في التّهكّم والتّأييس.
و (مَا) الواقعة بعد أين موصولة، يعني: أين آلهتكم التي كنتم تزعمون أنّهم ينفعونكم عند الشّدائد ويردّون عنكم العذاب فإنّهم لم يَحْضُروكم، وذلك حين يشهدون العذاب عند قبض أرواحهم، فقد جاء في حديث « الموطّأ»: أنّ الميّت يرى مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنّة فمِنْ أهل الجنّة وإن كان من أهل النّار يقال له هذا مقعدك حتّى يبعثك الله. وهذا خطاب للأرواح التي بها الإدراك وهو قبل فتنة القبر.
وقولهم: {ضلّوا عنّا} أي أتلفوا مواقعنا وأضاعونا فلم يحضروا، وهذا يقتضي أنّهم لَمَّا يعلمُوا أنّهم لا يُغنون عنهم شيئاً من النّفع، فظنّوا أنّهم أذهبهم ما أذهبهم وأبعدهم عنهم ما أبعدهم، ولم يعلموا سببه، لأنّ ذلك إنّما يتبيّن لهم يوم الحشر حين يرون إهانة أصنامهم وتعذيب كبرائهم، ولذلك لم ينكروا في جوابهم أنّهم كانوا يدعونهم من دون الله بخلاف ما حُكي عنهم في يوم الحشر من قولهم: {والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23] ولذلك قال هنا: {وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين}، وقال في الأخرى: {انظر كيف كذبوا على أنفسهم} [الأنعام: 24].
والشّهادة هنا شهادة ضِمنية لأنّهم لما لم ينفُوا أن يكونوا يدْعُون من دون الله وأجابوا بأنّهم ضلّوا عنهم قد اعترفوا بأنّهم عبدوهم.
فأمّا قوله: {قال ادخلوا في أمم} فهذا قول آخر، ليس هو من المحاورة السّابقة، لأنّه جاء بصيغة الإفراد، والأقوالُ قبله مسندة إلى ضمائر الجمع، فتعيّن أنّ ضمير (قال) عائد إلى الله تعالى بقرينة المقام، لأنّ مثل هذا القول لا يصدر من أحد غير الله تعالى، فهو استيناف كلام نشأ بمناسبة حكاية حال المشركين حينَ أوّل قدومهم على الحياة الآخرة، وهي حالة وفاة الواحد منهم فيَكون خطاباً صدر من الله إليهم بواسطة أحد ملائكته، أو بكلام سمعوه وعلموا أنّه من قِبَل الله تعالى بحيث يوقنون منه أنّهم داخلون إلى النار، فيكون هذا من أشدّ ما يرون فيه مقعدهم من النّار عقوبة خاصّة بهم. والأمر مستعمل للوعيد فيتأخّر تنجيزه إلى يوم القيامة.
ويجوز أن يكون المحكي به ما يصدر من الله تعالى يوم القيامة من حكم عليهم بدخول النّار مع الأمم السّابقة، فذُكر عقب حكاية حال قبض أرواحهم إكمالاً لذكر حال مصيرهم، وتخلّصاً إلى وصف ما ينتظرهم من العذاب ولذكر أحوال غيرهم. وأيَّاً مّا كان فالإتيان بفعل القول، بصيغه الماضي: للتنبيه على تحقيق وقوعه على خلاف مقتضى الظاهر.
ويجوز أن تكون جملة: {قال ادخلوا في أمم} في موضع عطف البيان لجملة {ينالهم نصيبهم من الكتاب} أي: قال الله فيما كتبه لهم {ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم}
[الأعراف: 34] أي أمثالكم، والتّعبير بفعل المضي جرَى على مقتضى الظّاهر.
والأمم جمع الأمّة بالمعنى الذي تقدّم في قوله: {ولكل أمة أجل}.
و (في) من قوله: {في أمم} للظّرفية المجازيّة، وهي كونهم في حالة واحدة وحكم واحد، سواء دخلوا النّار في وسطهم أم دخلوا قبلهم أو بَعدهم، وهي بمعنى (مع) في تفسير المعنى...
ومعنى: {قد خلت} قد مضت وانقرضت قبلكم، كما في قوله تعالى: {تلك أمة قد خلت} في سورة البقرة (134)، يعني: أنّ حالهم كحال الأمم المكذّبين قبلَهم، وهذا تذكير لهم بما حاق بأولئك الأمم من عذاب الدّنيا كقوله: {وتبين لكم كيف فعلنا بهم} [إبراهيم: 45] وتعريض بالوعيد بأن يحل بهم مثل ذلك، وتصريح بأنّهم في عذاب النّار سواء.
فهل يترك الحق من كذبوا بالآيات؟ أنهم خلق الله، والله استدعاهم إلى الوجود، لذلك يضمن لهم مقومات الحياة، وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلاء المكذبين الكافرين كما هي في خدمة الطائعين المؤمنين. ومن يحسن منهم الأسباب يأخذ نتائجها، وإن أهمل المؤمنون الأخذ بالأسباب فلن يأخذوا نتائجها، وكل هذا لأنه عطاء ربوبية ولأنه خلق فلابد أن يرزق، والنواميس الكونية تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لأن ذلك من سنة الله ولن يجد أحد لسنة الله تبديلا. إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قدّر لهم، من الرزق والحياة، ما هو مسطر في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحق: {أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب.. 37} [سورة الأعراف]: أو ينالهم، أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب، والعاصي له العقاب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
توضح الآيات الكريمة صورة المكذِّبين بآيات الله، أو الذين افتروا كذباً على الله، انطلاقاً من الأجواء المضلِّلة التي خلقوها وعاشوا فيها، لإبعاد الناس عن صفاء الفطرة ووضوح الرؤية للأشياء، في ما يخلطونه بالباطل من قضايا الحق، وما يثيرونه في أفكارهم من شكوكٍ وشبهات، وما يوحون إليهم به من أوهامٍ وتعقيداتٍ، فتتضخّم شخصياتهم، وتؤدّي بهم إلى الانحراف عن الحقيقة، في زهوٍ وخيلاء، وتقودهم إلى متاهات الكبرياء... وهكذا تتجسَّد الصورة، وتتعاظم في مدلولاتها؛ فإذا بالموقف من هؤلاء يمثل أفظع الظلم، لأنه يسيء إلى خالق الحقيقة من جهة، وإلى الحقيقة من جهة أخرى... ولكنها مع ذلك الصورة التي تضيع معها أحلام الإنسان وطموحاته في الهواء، لتتحول إلى ورقةٍ تهرب منه كلما عصفت الرياح، وكلما امتد به الطريق أو تعقّدت في داخله الحيرة...