والآن فلنول وجوهنا شطر القرآن الكريم ، لنتدبر حديثه الحكيم عن هذه الغزوة ، ولنستمع إليه بقلوب واعية ، وآذان متفتحة ، وهو يبدأ حديثه عنها فيقول : { وَإِذْ غَدَوْتَ . . . } .
فى هذه الآيات الكريمة التى بدأت السورة بها حديثها عن غزوة أحد ، تذكير للمؤمنين بما وقع فيها حتى يعتبروا ويعتصموا بحبل الله جميعاً ولا يتفرقوا .
وقوله - تعالى - : { غَدَوْتَ } من الغدو وهو الخروج فى أول النهار ، يقال : غدا يغدو من باب سما يسمو .
و { مِنْ } فى قوله : { مِنْ أَهْلِكَ } للابتداء ، والمراد بأهله ، زوجه عائشة - رضى الله عنها - فقد كان خروجه لغزوة أحد من بيتها . والكلام على حذف مضاف يدل عليه فعل { غَدَوْتَ } والتقدير : من بيت أهلك .
وقوله : { تُبَوِّىءُ } أصله من التبوء وهو اتخاذ المنزل . يقال : بوأته ، وبوأت له منزلا ، أى : أنزلته فيه . والمراد به هنا تنظيم المؤمنين وتسويتهم للقتال ، حتى يكونوا صفا واحداً كأنهم بنيان مرصوص .
والعامل فى { وَإِذْ } فعل مضمر تقديره ، واذكر .
والمعنى : واذكر لهم يا محمد ليعتبروا ويتعظوا وقت خروجك مبكراً من حجرة زوجتك عائشة إلى غزوة أحد .
وقوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى تنزلهم وتسوى لهم بالتنظيم والترتيب مواطن وأماكن للقتال ، بحيث يكونون فى أحسن حال ، وأكمل استعداد لملاقاة أعدائهم .
قال الجمل : " ويستعمل الفعل { غَدَوْتَ } بمعنى صار عند بعضهم ، فيكون ناقصاً يرفع الاسم وينصب الخبر . . . وهذا المعنى ممكن هنا ، فالمعنى عليه ، وإذ غدوت أى صرت تبوىء المؤمنين أى تنزلهم فى منازل للقتال ، وهذا أظهر من الآخر ، لأن المذكور فى القصة أنه سار من عند أهله بعد صلاة الجمعة وبات فى شعب أحد ، وأصبح ينزل أصحابه فى منازل القتال ويدبر لهم أمر الحرب " .
فالجملة الكريمة تشير إلى ما فعله النبى صلى الله عليه وسلم مع أصحابه قبل أن تبدأ المعركة ، فقد اهتم بتنظيم صفوفهم ، وبرسم الخطة الحكيمة التى تكفل لهم النصر ، وأمر الجيش كله ألا يتحرك للقتال إلا عندما يأذن له بذلك ، ولقد حدث أن بعض المسلمين من الأنصار استشرف للقتال وتمناه عندما رأى قريشا قد سرحت خيولها وإبلها فى زروع المسلمين ، وقال للنبى صلى الله عليه وسلم " أترعى زروع بنى قيلة - يعنى الأنصار - ولما تضارب " ؟ ؟ إلا أن النبى صلى الله عليه وسلم نهاهم عن القتال إلا بعد إذنه .
وجملة { تُبَوِّىءُ } حال من فاعل " غدوت " .
والفعل { تُبَوِّىءُ } يحتاج لمفعولين :
أولهما : قوله : { المؤمنين } .
وثانيهما : قوله : { مَقَاعِدَ } وقوله : { لِلْقِتَالِ } متعلق بقوله : { تُبَوِّىءُ } .
والمراد بقوله : { مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أى مراكز وأماكن ومواقف للقتال بحيث يعرف كل مؤمن مكانه وموقفه فينقض منه على خصمة إلا أن القرآن الكريم عبر عن هذه الأماكن والمراكز والمواقف بالمقاعد . للإشارة إلى وجوب الثبات فيها كما يثبت القاعد فى مكانه ، وأن عليهم ألا يبرحوا أماكنهم إلا بإذن قائدهم صلى الله عليه وسلم .
وقد ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } لبيان أنه مطلع على كل شىء ، وعلى ما كان يجرى بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه من مشاورات ومناقشات .
فهو - سبحانه - { سَمِيعٌ } لما نطقت به ألسنتهم { عَلِيمٌ } بما تخفيه صدورهم ، وسيجازى المؤمنين الصادقين بما يستحقون من ثواب ، وسيجازى غيرهم من ضعاف الإيمان والمنافقين بما يستحقون من عقاب .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة غرس الرهبة فى قلوب المؤمنين ، حتى لا يعودوا إلى مثل ما حدث من بعضهم فى غزوة أحد . حيث خالفوا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ، والله سميع عليم . إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ، والله وليهما ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) . .
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره - وقد كان قريبا من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم . ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو ، واستحضار المشهد الأول بهذا النص ، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته ؛ وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور - الذي يعرفونه - من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور . وأولها حقيقة حضور الله - سبحانه - معهم ، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم . وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي . وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة ، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي . والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي ، بكل تكاليفه ، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها ، وبكل حيويتها كذلك :
( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال . . والله سميع عليم . . ) . .
والإشارة هنا إلى غدو النبي [ ص ] من بيت عائشة - رضي الله عنها - وقد لبس لأمته ودرعه ؛ بعد التشاور في الأمر ، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها . وما أعقب هذا من تنظيم الرسول [ ص ] للصفوف ، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل . . وهو مشهد يعرفونه ، وموقف يتذكرونه . . ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه :
ويا له من مشهد ، الله حاضره ! ويا له من موقف ، الله شاهده ! ويا لها من رهبة إذن ومن روعة تحف به ، وتخالط كل ما دار فيه من تشاور . والسرائر مكشوفة فيه لله . وهو يسمع ما تقوله الألسنة ويعلم ما تهمس به الضمائر .
وجود حرف العطف في قوله : { وإذ غدوت } مانع من تعليق الظرف ببعض الأفعال المتقدّمة مثل { ودوا ما عنتم } [ آل عمران : 118 ] ومثل { يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] وعليه فهو آت كما أتَتْ نظائره في أوائل الآي والقِصص القرآنية ، وهو من عطف جملة على جملة وقصة على قصة وذلك انتقال اقتضابي فالتقدير : واذكر إذ غدوت . ولا يأتي في هذا تعلّق الظرف بفعل ممَّا بعده لأنّ قوله : { تبوِّىء } لاَ يستقيم أن يكون مبدأ الغرض ، وقوله : { همت } لا يصلح لتعليق { إذ غدوت } لأنَّه مدخول ( إذْ ) أخرى .
ومناسبة ذكر هذه الوقعة عقب ما تقدّم أنَّها من أوضح مظاهر كيد المخالفين في الدّين ، المنافقين ، ولمَّا كان شأن المنافقين من اليهود وأهل يثرب واحداً ، ودخيلتهما سواء ، وكانوا يعملون على ما تدبّره اليهود ، جمع الله مكائد الفريقين بذكر غزوة أحُد ، وكان نزول هذه السورة عقب غزوة أحُد كما تقدّم . فهذه الآيات تشير إلى وقعة أحُد الكائنة في شوّال سنة ثلاث من الهجرة حين نزل مشركو مكَّة ومن معهم من أحلافهم سَفْحَ جبل أحُد ، حول المدينة ، لأخذ الثَّأر بما نالهم يوم بدر من الهزيمة ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيما يفعلون وفيهم عبد الله بنُ أبي ابن سَلُول رأسُ المنافقين ، فأشار جمهورهم بالتحصّن بالمدينة حتَّى إذا دخل عليهم المشركون المدينة قاتلوهم في الديار والحصون فغلبوهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين ، وأشار فريق بالخروج ورغبوا في الجهاد وألحُّوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي المشيرين بالخروج ، ولبس لأْمته ، ثُمّ عرضَ للمسلمين تردّد في الخروج فراجعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " لا ينبغي لنبيء أن يلبس لأمته فيضعها حتَّى يحكم الله بينه وبين عدُوّه "
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.