13- فبسبب نقض بني إسرائيل عهودهم ، استحقوا الطرد من رحمة الله ، وصارت قلوبهم صلبة لا تلين لقبول الحق ، وأخذوا يصرفون كلام الله في التوراة عن معناه ، إلى ما يوافق أهواءهم ، وتركوا نصيباً وافياً مما أمروا به في التوراة ، وستظل أيها الرسول ترى منهم ألواناً من الغدر ونقض العهد ، إلا نفراً قليلا منهم آمنوا بك فلم يخونوا ولم يغدروا . فتجاوز أيها الرسول عما فرط من هؤلاء ، واصفح وأحسن إليهم ، إن الله يحب المحسنين .
لقد بين - سبحانه - جانبا من رذائلهم ، ومن العقوبات التي عاقبهم بها بسبب فسوقهم عن أمره فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } .
والفاء في قوله : { فَبِمَا نَقْضِهِم } للتفريع على ما تقدم من الحديث عنهم ، والباء للسبيبة و " ما " مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس والجار والمجرور - متعلق بقوله : { لَعنَّاهُمْ } .
وقوله : { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } معطوف على ما قبله .
وقوله : { قَاسِيَةً } بوزن فاعلة - من القسوة بمعنى الصلابة واليبوسة يقال : قسا قلبه يقسو فهو قاس ، إذا غلظ واشتد وصار يابسا صلبا .
وقساوة القلب هنا مجاز عن عدم تأثره بالمواعظ والترغيب والترهيب .
أي فبسبب جرائمهم الشديدة أبعدناهم من رحمتنا وجعلنا قلوبهم يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تتأُر بالمواعظ والنذر .
وقرأ حمزة والكسائي : { وجعلنا قلوبهم قسية } بتشديد الياء من غير ألف على وزن فعيلة .
أحدهما : { قسية } بمعنى قاسية ، غير أن فيها مبالغة ، إذ هي على وزن فعيلة ، وهذه الصفة تدل على تمكن صفة القسوة من قلوبهم .
والثاني : أن معنى { قسية } هنا غير معنى قاسية ، لأن قسية في هذا الموضع مأخوذة من قولهم : درهم قسى - على وزن شقى - أي : فاسد رديء لأنه مغشوش بنحاس أو غيره مما يخلو منه الدرهم السليم .
والمعنى على هذا الوجه : وجعلنا قلوبهم إيمانها ليس خالصا وإنما يخالطه كفر ونفاق كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص أو غيرهما .
وقد رجح ابن جرير الرأي الأول - وهو أن قسية بمعنى قاسية غير أن فيها مبالغة - فقال ( وأولى التأويلين عندي بالصواب تأويل من تأول فعيلة من القسوة كما قيل : نفس زكية وزاكية ، وامرأة شاهدة وشهيدة ، لأن الله - تعالى - وصف القوم بنقضهم ميثاقهم ، وكفرهم به ، ولم يصفهم بشيء من الإِيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها يخالطه كفر كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش ) .
وأما صاحب الكشاف فقد رد التفسير الثاني إلى الأول وجعل بينهما تعانقا وتلازماً في المعنى فقال : وقرأ عبد الله { قسية } أي : ردية مغشوشة . من قولهم : درهم قسى وهو من القسوة ، لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين ، والمغشوش فيه يبس وصلابة .
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } استئناف مبين لشدة قساوة قلوبهم ، فإنه لا قسوة أشد من تحريف كلام الله - تعالى - والميل به عن الحق والصواب .
أي : أنهم بلغ بهم الحال في قسوة قلوبهم ، وعدم تأثرها بوعيد الله أنهم يميلون كلامه - سبحانه - عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله عن طريق التأويل الباطل ، أو التفسير الفاسد ، أو التبديل للألفاظ بالزيادة تراة وبالنقصان أخرى ، على حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وشهواتهم الممقوتة .
وعبر - سبحانه - بقوله : { يُحَرِّفُونَ } بصيغة الفعل المضارع ، لاستحضار صورة هؤلاء المحرفين . والدلالة على أن أبناءهم قد نهجوا نهج آبائهم في هذا الخلق الذميم .
فإن هذا التحريف الذي حكاه الله - تعالى - في هذه الآية قد كان من بني إسرائيل بعد عهد موسى - عليه السلام - واستمروا على ذلك دون أن يصدهم عنه ما كان من نصح النبي صلى الله عليه وسلم لهم ومن تحذيره إياهم .
والمراد بالنسيان في قوله : { وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } الترك والإِهمال قال الراغب : ( النسيان : ترك الإِنسان ضبط ما استودع . إما لضعف قلبه ، وإما عن غفلة ، وإما عن قصد حتى يزول عن القلب ذكره ) .
والأنواع الثلاثة التي ذكرها الراغب كأسباب للنسيان قد فعلها بنو إسرائيل فهم قد أصابتهم الغفلة عن تدبر كتابهم والعمل بما فيه بسبب ضعف قلوبهم ، واستيلاء المطامع والشهوات عليها وأهملوا أمر دينهم وشريعتهم ولم يقيدوا أنفسهم بها عن تعمد وإصرار ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على دين الله وهذا ما تأباه نفوسهم الجامحة وشهواتهم العارمة .
والتنكير في قوله { حَظَّا } للتكثير والتهويل . أي : تركوا نصيبا كبيراً مما أمرتهم به شريعتهم وذكرتهم به توراتهم من وجوب اتباعهم للحق وإيمانهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - عند ظهوره .
وهذه الجملة الكريمة وما يشبهها مما أورده القرآن في هذا المعنى تعتبر من المعجزات الدالة على صدق القرآن الكريم فإن الناس قبل البعثة النبوية الشريفة لم يكونوا يعرفون أن اليهود نسوا حظا كبيرا مما ذكرتهم به توراتهم ، فلما بين القرآن ذلك ، عرفوا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل .
ولما كانت أخلاق الآباء كثيراً ما يتوارثها الأبناء ، فقد رأينا القرآن الكريم يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود المعاصرين له ، والذين ورثوا رذائل آبائهم فقال : { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } .
وقوله { خَآئِنَةٍ } بمعنى الخيانة أي عدم الوفاء بالعهد . فهي مصدر على وزن فاعله كالعافية والطاغية . قال - تعالى - { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } أي بالطغيان . ويحتمل أن يكون قوله { خائنة } صفة لموصوف محذوف أي على فرقة خائنة أو طائفة .
والمعنى : ولا تزال - أيها الرسول الكريم - ترى في هؤلاء اليهود المعاصرين لك صورة السابقين في الغدر والخيانة . وإن تباعدت الأزمان فهؤلاء الذين يعاصرونك فيهم خيانة أسلافهم ، وغدرهم ونقضهم لعهودهم . إلا قليلا منهم دخلوا في الإِسلام فوفوا بعهودهم ولم يكونوا ناقضين لها .
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم عما لقيه من اليهود المعاصرين له من كيد ومكر وخيانة . فكأنه الله - تعالى - يقول له إن ما تراه منهم من غدر وخداع ليس شيئاً مستبعداً ، بل هو طبيعة فيهم ورثوها عن آبائهم منذ زمن بعيد : وفيها - أيضاً - تحذير له صلى الله عليه وسلم من شرورهم ومن مسالكم الخبيثة لكيد الإِسلام والمسلمين فإن التعبير بقوله { وَلاَ تَزَال } المفيد للدوام والاستمرار يدل على استمرار خيانتهم ودوام نقضهم لعهودهم ومواثيقهم .
وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } استثناء من الضمير المجرور في قوله { خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } والمراد بهذا العدد القليل منهم ، أولئك الذين دخلوا في الإِسلام ، واتبعوا الحق كعبد الله بن سلام وأمثاله .
ثم ختم سبحانه - الآية بقوله : { فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } والعفو عدم مقابلة الإِساءة بمثلها .
والصفح : ترك اللوم والمعاتبة . ولذا قالوا : الصفح أعلى رتبة من العفو ، لأن العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهراً . أما الصفح فهو يتناول السماحة النفسية واعتبار الإِساءة كأن لم تكن في الظاهر والباطن .
وللعلماء أقوال في المراد بالذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنه :
1 - فيرى بعضهم أن المراد بهم ، القلة اليهودية التي أسلمت ، واستثناها الله بقوله { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ } وهذا الرأي مردود بأنهم ما داموا قد آمنوا ، فقد عصموا دماءهم وأموالهم ، ولم يصبح للعفو والصفح عنهم موضع .
2 - ويرى آخرون أن الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالعفو والصفح عنهم هم كافة اليهود ، إلا أن الآية نسخت بآية التوبة وهي قوله { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وهذا الرأي ضعيف لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الآيتين وهو غير متعذر - كما سنبين .
3 - ويرى أبو مسلم أن المراد بهم اليهود الذين بقوا على كفرهم ولكنهم لم ينقضوا عهودهم .
والذي نراه أولى أن العفو والصفح عام لليهود ، وأن من مظاهر ذلك مسالمتهم ومساكنتهم ، ومجادلتهم بالتي هي أحسن ومعاملتهم بمبدأ لهم ما لنا وعليهم ما علينا ، مع العفو عن زلاتهم التي لا تؤثر على كيان الدعوة الإِسلامية .
فإذا ما نقضوا عهودهم وخانوا الله ورسوله والمؤمنين ، وأصبح العفو عنهم فيه مضرة بالمسلمين ففي هذه الحالة تجب معاملتهم بالطريقة التي تقى المسلمين شرورهم ، لأن العفو عنهم - عند استلزام قتالهم للدفاع عن النفس وعن العقيدة - يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة ويكون قد وضع العفو في غير موضعه . وهذا القول يقارب ما ذهب إليه أبو مسلم . وربما اعتبر توضيحاً له . فكأن الله - تعالى - يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم فاعف عن هؤلاء اليهود الذين ورثوا الخيانة عن آبائهم ، واصفح عن زلاتهم التي لا تؤثر في سير الدعوة الإِسلامية إلى الوقت المناسب لمحاسبتهم ، إن الله تعالى يحب المحسنين .
وبذلك نرى السورة الكريمة قد بينت جانباً مما أخذ الله على بني إسرائيل من عهود ومواثيق ، ورغَّبتهم في الوفاء بها وحذرتهم . من نقضها ، كما بينت بعض العقوبات التي عاقبتهم الله بها بسبب فسوقهم عن أمره ورسمت للنبي صلى الله عليه وسلم طريق معالجتهم ومعاملتهم بما يقي المسلمين من شرورهم ومكرهم .
لقد نقضوا ميثاقهم مع الله . . قتلوا أنبياءهم بغير حق ، وبيتوا القتل والصلب لعيسى عليه السلام - وهو آخر أنبيائهم - وحرفوا كتابهم - التوراة - ونسوا شرائعها فلم ينفذوها ، ووقفوا من خاتم الأنبياء - عليه الصلاة والسلام - موقفا لئيما ماكرا عنيدا ، وخانوا مواثيقهم معه . فباءوا بالطرد من هدى الله ، وقست قلوبهم فلم تعد صالحة لاستقبال هذا الهدى . .
( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ، يحرفون الكلم عن مواضعه ، ونسوا حظا مما ذكروا به . . . )
وصدق الله . فهذه سمات يهود التي لا تفارقهم . . لعنة تبدو على سيماهم ، إذ تنضح بها جبلتهم الملعونة المطرودة من الهداية . وقسوة تبدو في ملامحهم الناضبة من بشاشة الرحمة ، وفي تصرفاتهم الخالية من المشاعر الإنسانية ، ومهما حاولوا - مكرا - إبداء اللين في القول عند الخوف وعند المصلحة ، والنعومة في الملمس عند الكيد والوقيعة ، فإن جفاف الملامح والسمات ينضح ويشي بجفاف القلوب والأفئدة . . وطابعهم الأصيل هو تحريف الكلم عن مواضعه . تحريف كتابهم أولا عن صورته التي أنزلها الله على موسى - عليه السلام - إما بإضافة الكثير إليه مما يتضمن أهدافهم الملتوية ويبررها بنصوص من الكتاب مزورة على الله ! وإما بتفسير النصوص الأصلية الباقية وفق الهوى والمصلحة والهدف الخبيث ! ونسيان وإهمال لأوامر دينهم وشريعتهم ، وعدم تنفيذها في حياتهم ومجتمعهم ، لأن تنفيذها يكلفهم الاستقامة على منهج الله الطاهر النظيف القويم .
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم ، إلا قليلا منهم . . . ) . .
وهو خطاب للرسول [ ص ] يصور حال يهود في المجتمع المسلم في المدينة . فهم لا يكفون عن محاولة خيانة رسول الله [ ص ] وقد كانت لهم مواقف خيانة متواترة . بل كانت هذه هي حالهم طوال إقامتهم معه في المدينة - ثم في الجزيرة كلها - وما تزال هذه حالهم في المجتمع الإسلامي على مدار التاريخ . على الرغم من أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد الذي آواهم ، ورفع عنهم الاضطهاد ، وعاملهم بالحسنى ، ومكن لهم من الحياة الرغيدة فيه . ولكنهم كانوا دائما - كما كانوا على عهد الرسول - عقارب وحيات وثعالب وذئابا تضمر المكر والخيانة ، ولا تني تمكر وتغدر . إن أعوزتهم القدرة على التنكيل الظاهر بالمسلمين نصبوا لهم الشباك وأقاموا لهم المصائد ، وتآمروا مع كل عدو لهم ، حتى تحين الفرصة ، فينقضوا عليهم ، قساة جفاة لا يرحمونهم ، ولا يرعون فيهم إلا ولا ذمة . أكثرهم كذلك . . كما وصفهم الله سبحانه في كتابه ، وكما أنبأنا عن جبلتهم التي أورثها إياهم نقضهم لميثاق الله من قديم .
والتعبير القرآني الخاص عن واقع حال اليهود مع رسول الله [ ص ] في المدينة ، تعبير طريف :
( ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم ) . .
الفعلة الخائنة ، والنية الخائنة ، والكلمة الخائنة ، والنظرة الخائنة . . يجملها النص بحذف الموصوف وإثبات الصفة . . ( خائنة ) . . لتبقى الخيانة وحدها مجردة ، تملأ الجو ، وتلقي ظلالها وحدها على القوم . . فهذا هو جوهر جبلتهم ، وهذا هو جوهر موقفهم ، مع الرسول [ ص ] ومع الجماعة المسلمة . .
إن هذا القرآن هو معلم هذه الأمة ومرشدها ورائدها وحادي طريقها على طول الطريق . وهو يكشف لها عن حال أعدائها معها ، وعن جبلتهم وعن تاريخهم مع هدى الله كله . ولو ظلت هذه الأمة تستشير قرآنها ؛ وتسمع توجيهاته ؛ وتقيم قواعده وتشريعاته في حياتها ، ما استطاع أعداؤها أن ينالوا منها في يوم من الأيام . . ولكنها حين نقضت ميثاقها مع ربها ؛ وحين اتخذت القرآن مهجورا - وإن كانت ما تزال تتخذ منه ترانيم مطربة ، وتعاويذ ورقى وأدعية ! - أصابها ما أصابها .
ولقد كان الله - سبحانه - يقص عليها ما وقع لبني إسرائيل من اللعن والطرد وقسوة القلب وتحريف الكلم عن مواضعه ، حين نقضوا ميثاقهم مع الله ، لتحذر أن تنقض هي ميثاقها مع الله ، فيصيبها ما يصيب كل ناكث للعهد ، ناقض للعقد . . فلما غفلت عن هذا التحذير ، وسارت في طريق غير الطريق ، نزع الله منها قيادة البشرية ؛ وتركها هكذا ذيلا في القافلة ! حتى تثوب إلى ربها ؛ وحتى تستمسك بعهدها ، وحتى توفيبعقدها . فيفي لها الله بوعده من التمكين في الأرض ومن القيادة للبشر والشهادة على الناس . . وإلا بقيت هكذا ذيلا للقافلة . . وعد الله لا يخلف الله وعده . .
ولقد كان توجيه الله لنبيه في ذلك الحين الذي نزلت فيه هذه الآية :
( فاعف عنهم واصفح ، إن الله يحب المحسنين ) . .
والعفو عن قبائحهم إحسان ، والصفح عن خيانتهم إحسان . .
ولكن جاء الوقت الذي لم يعد فيه للعفو والصفح مكان . فأمر الله نبيه [ ص ] أن يجليهم عن المدينة . ثم أن يأمر بإجلائهم عن الجزيرة كلها . وقد كان . .
قوله : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم } قد تقدّم الكلام على نظيره في قوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم وكفرِهم } [ النساء : 155 ] ، وقوله : { فبظلم من الّذين هادوا حرّمنا عليهم طيّبات } في سورة النّساء ( 160 ) .
واللعن هو الإبعاد ، والمراد هنا الإبعادُ من رحمة الله تعالى ومن هديه إذ استوجبوا غضب الله لأجل نقض الميثاق .
{ وجَعلنا قلوبهم قاسية } قساوة القلب مجاز ، إذْ أصلها الصلابة والشدّة ، فاستعيرت لعدم تأثّر القلوب بالمواعظ والنذر . وقد تقدّم في قوله تعالى : { ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك } [ البقرة : 74 ] . وقرأ الجمهور : { قاسية } بصيغة اسم الفاعل . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف : { قَسِيَّة } فيكون بوزن فَعِيلة من قَسَا يَقْسو .
وجملة { يُحرّفون الكَلِم عن مواضعه } استئناف أو حال من ضمير { لَعنّاهم } . والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف ، والحرف هو الجانب . وقد كثر في كلام العرب استعارة معاني السير وما يتعلّق به إلى معاني العمل والهُدى وضدّه ؛ فمن ذلك قولهم : السلوك ، والسيرة ؛ والسعي ؛ ومن ذلك قولهم : الصراط المستقيم ، وصراطاً سوياً ، وسواء السبيل ، وجادّة الطريق ، والطريقة الواضحة ، وسواء الطريق ؛ وفي عكس ذلك قالوا : المراوغة ، والانحراف ، وقالوا : بنيَّات الطريق ، ويعْبُد الله على حرف ، ويشعِّبُ الأمور . وكذلك ما هنا ، أي يعدلون بالكلم النبويّة عن مواضعها فيسيرون بها في غير مسالكها ، وهو تبديل معاني كتبهم السماوية . وهذا التحريف يكون غالباً بسوء التأويل اتّباعاً للهوى ، ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة لأهواة العامّة ، قيل : ويكون بتبديل ألفاظ كتبهم . وعن ابن عبّاس : ما يدلّ على أنّ التحريف فساد التأويل . وقد تقدّم القول في ذلك عند قوله تعالى : { من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه } في سورة النساء ( 46 ) . وجيء بالمضارع للدلالة على استمرارهم .
وجملة { ونسوا حظّاً } معطوفة على جملة { يحرّفون } . والنسيان مراد به الإهمال المفضي إلى النسيان غالباً . وعبّر عنه بالفعل الماضي لأنّ النسيان لا يتجدّد ، فإذا حصل مضى ، حتّى يُذكّره مُذكِّر . وهو وإن كان مراداً به الإهمال فإنّ في صوغه بصيغة الماضي ترشيحاً للاستعارة أو الكناية لتهاونهم بالذكرى .
والحظّ النصيب ، وتنكيره هنا للتعظيم أو التكثير بقرينة الذمّ . وما ذكّروا به هو التّوراة .
وقد جمعت الآية من الدلائل على قلّة اكتراثهم بالدّين ورقّة اتِّباعهم ثلاثة أصول من ذلك : وهي التعمّد إلى نقض ما عاهدوا عليه من الامتثال ، والغرور بسوء التأويل ، والنسيان الناشىءُ عن قلّة تعهّد الدّين وقلّة الاهتمام به .
والمقصود من هذا أن نعتبر بحالهم ونتّعظ من الوقوع في مثلها . وقد حاط علماء الإسلام رضي الله عنهم هذا الدّين من كلّ مسارب التحريف ، فميّزوا الأحكام المنصوصة والمقيسة ووضعوا ألقاباً للتمييز بينها ، ولذلك قالوا في الحكم الثابت بالقياس : يجوز أن يقال : هو دين الله ، ولا يجوز أن يُقال : قاله الله .
وقوله : { ولا تزال تطّلع على خائنة منهم } انتقال من ذكر نقضهم لعهد الله إلى خيسهم بعهدهم مع النّبيء صلى الله عليه وسلم وفِعل { لا تزال } يدلّ على استمرار ، لأنّ المضارع للدلالة على استمرار الفعل لأنّه في قوة أن يقال : يدوم اطّلاعك . فالاطّلاع مجاز مشهور في العلم بالأمر ، والاطّلاع هنا كناية عن المطّلع عليه ، أي لا يزالون يخونون فتطّلع على خيانتهم .
والاطّلاع افتعال من طَلع . والطلوع : الصعود . وصيغة الافتعال فيه لمجرّد المبالغة ، إذ ليس فعله متعدّياً حتّى يصاغ له مطاوع ، فاطّلع بمنزلة تطّلع ، أي تكلّف الطلوع لقصد الإشراف . والمعنى : ولا تزال تكشف وتشاهد خائنة منهم .
والخائنة : الخيانة فهو مصدر على وزن الفاعلة ، كالعاقبة ، والطاغية . ومنه { يعلم خائنة الأعين } [ غافر : 19 ] . وأصْل الخيانة : عدم الوفاء بالعهد ، ولعلّ أصلها إظهار خلاف الباطن . وقيل : { خائنة } صفة لمحذوف ، أي فرقة خائنة .
واستثنى قليلاً منهم جُبلوا على الوفاء ، وقد نقض يهود المدينة عهدهم مع رسول الله والمسلمين فظاهروا المشركين في وقعة الأحزاب ، قال تعالى : { وأنزَل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم } [ الأحزاب : 26 ] . وأمْره بالعفو عنهم والصفح حمل على مكارم الأخلاق ، وذلك فيما يرجع إلى سوء معاملتهم للنّبيء صلى الله عليه وسلم وليس المقام مقام ذكر المناواة القومية أو الدّينية ، فلا يعارض هذا قوله في براءة { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الّذين أوتوا الكتاب حتّى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } [ التوبة : 29 ] لأنّ تلك أحكام التصرّفات العامّة ، فلا حاجة إلى القول بأنّ هذه الآية نسخت بآية براءة .