ثم أرشده - سبحانه - إلى جانب من مسالكهم الخبيثة ، وصفاتهم القبيحة ، وحذره من الاستجابة إلى شئ من مقترحاتهم ، فقال : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين . وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }
وقوله : { وَدُّواْ } من الود بمعنى المحبة . وقوله : { تُدْهِنُ } من الإدهان وهى المسايرة والمصانعة والملاينة للغير . وأصله أن يجعل على الشئ دهنا لكي يلين أو لكي يحسن شكله ، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير .
أي : إن ربك - أيها الرسول الكريم - لا يخفى عليه شئ من أحوالك وأحوالهم ، وما دام الأمر كذلك ، فاحذر أن تطيع هؤلاء المكذبين في شئ مما يقترحونه عليك ، فإنهم أحبوا وودوا أن تقبل بعض مقترحاتهم ، وأن تلاينهم وتطاوعهم فيما يريدون منك . . وهم حينئذ يظهرون لك من جانبهم الملاينة والمصانعة . . حتى لكأنهم يميلون نحو الاستجابة لك ، وترك إيذائك وإيذاء أصحابك .
فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التي عرضها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثرها ، ومنها : ما ذكره ابن إسحاق في سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه ، فنزلت سورة " الكافرون " .
ومنها ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الوليد بن المغيرة تارة ، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى . . مما هو معروف في كتب السيرة .
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لعمه أبي طالب عندما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم ، وقال له : يا ابن أخي أشفق على نفسك وعلي ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق .
وقال له صلى الله عليه وسلم : يا عماه ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى ، والقمر في يساري . على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه . . " .
والتعبير بقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم ، لا منه صلى الله عليه وسلم ، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم ، لكي يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوا على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عن غوائلهم ، .
وقوله : { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ } .
فإن : قلت : لماذا رفع " فيدهنون " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني ؟ قلت : قد عدل إلى طريق آخر ، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف . أي : فهم يدهنون ، كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على معنى : ودوا لو تدهن فهم يدهنون . .
ثم يكشف الله له عن حقيقة حالهم ، وحقيقة مشاعرهم ، وهم يخاصمونه ويجادلونه في الحق الذي معه ، ويرمونه بما يرمونه ، وهم مزعزعو العقيدة فيما لديهم من تصورات الجاهلية ، التي يتظاهرون بالتصميم عليها . إنهم على استعداد للتخلي عن الكثير منها في مقابل أن يتخلى هو عن بعض ما يدعوهم إليه ! على استعداد أن يدهنوا ويلينوا يحافظوا فقط على ظاهر الأمر لكي يدهن هو لهم ويلين . . فهم ليسوا أصحاب عقيدة يؤمنون بأنها الحق ، وإنما هم أصحاب ظواهر يهمهم أن يستروها :
( فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون ) . .
فهي المساومة إذن ، والالتقاء في منتصف الطريق . كما يفعلون في التجارة . وفرق بين الاعتقاد والتجارة كبير ! فصاحب العقيدة لا يتخلى عن شيء منها ؛ لأن الصغير منها كالكبير . بل ليس في العقيدة صغير وكبير . إنها حقيقة واحدة متكاملة الأجزاء . لا يطيع فيها صاحبها أحدا ، ولا يتخلى عن شيء منها أبدا .
وما كان يمكن أن يلتقي الإسلام والجاهلية في منتصف الطريق ، ولا أن يلتقيا في أي طريق . وذلك حال الإسلام مع الجاهلية في كل زمان ومكان . جاهلية الأمس وجاهلية اليوم ، وجاهلية الغد كلها سواء . إن الهوة بينها وبين الإسلام لا تعبر ، ولا تقام عليها قنطرة ، ولا تقبل قسمة ولا صلة . وإنما هو النضال الكامل الذي يستحيل فيه التوفيق !
وقد وردت روايات شتى فيما كان يدهن به المشركون للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ليدهن لهم ويلين ؛ ويترك سب آلهتهم وتسفيه عبادتهم ، أو يتابعهم في شيء مما هم عليه ليتابعوه في دينه ، وهم حافظون ماء وجوههم أمام جماهير العرب ! على عادة المساومين الباحثين عن أنصاف الحلول ! ولكن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] كان حاسما في موقفه من دينه ، لا يدهن فيه ولا يلين . وهو فيما عدا الدين ألين الخلق جانبا وأحسنهم معاملة وأبرهم بعشيرة وأحرصهم على اليسر والتيسير . فأما الدين فهو الدين ! وهو فيه عند توجيه ربه : ( فلا تطع المكذبين ) !
ولم يساوم [ صلى الله عليه وسلم ] في دينه وهو في أحرج المواقف العصيبة في مكة . وهو محاصر بدعوته . وأصحابه القلائل يتخطفون ويعذبون ويؤذون في الله أشد الإيذاء وهم صابرون . ولم يسكت عن كلمة واحدة ينبغي أن تقال في وجوه الأقوياء المتجبرين ، تأليفا لقلوبهم ، أو دفعا لأذاهم . ولم يسكت كذلك عن إيضاح حقيقة تمس العقيدة من قريب أو من بعيد . .
روى ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق قال :
" فلما بادى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قومه بالإسلام . وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها . فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته - إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون - وحدب على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] عمه أبو طالب ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على أمر الله مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء . "
" فلما رأت قريش أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب . . عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية . وأبو البختري واسمه العاص بن هشام . والأسود بن عبد المطلب بن أسد . وأبو جهل " واسمه عمرو بن هشام وكان يكنى ابا الحكم " والوليد بن المغيرة ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر . . أو من مشى منهم . . فقالوا : يا أبا طالب . إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ؛ فنكفيكه ! فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه .
" " ومضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على ما هو عليه : يظهر دين الله ، ويدعو إليه . ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعدوا وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتذامروا فيه . وحض بعضهم بعضا عليه . ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى . فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا . وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ؛ وإنا والله لا نصبر على هذا : من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين - أو كما قالواله . . ثم انصرفوا عنه . فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] لهم ولا خذلانه . قال ابن إسحق : وحدثني يعقوب بن عقبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدث ، أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال له : يا بن أخي . إن قومك قد جاءوني فقالوا لي : كذا وكذا " للذي كانوا قالوا له " فأبق علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر مالا أطيق . قال : فظن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنه قد بدا لعمه فيه بداء ، وأنه خاذله ومسلمه وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه . قال : فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته " . . قال : واستعبر رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فبكى . ثم قام . فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا بن أخي . قال : فأقبل عليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : اذهب يا بن أخي فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا " .
فهذه صورة من إصرار النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على دعوته في اللحظة التي تخلى عنه فيها عمه . حاميه وكافيه ، وآخر حصن من حصون الأرض يمنعه المتربصين به المتذامرين فيه !
هذه هي صورة قوية رائعة جديدة في نوعها من حيث حقيقتها ، ومن حيث صورها وظلالها ومن حيث عباراتها وألفاظها . . . جديدة جدة هذه العقيدة ، رائعة روعة هذه العقيدة ، قوية قوة هذه العقيدة . فيها مصداق قول الله العظيم : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) .
وصورة أخرى رواها كذلك ابن إسحق ، كانت في مساومة مباشرة من المشركين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد إذ أعياهم أمره ، ووثبت كل قبيلة على من أسلم منها تعذبه وتفتنه عن دينه .
قال ابن إسحق : وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش . ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ? وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يزيدون ويكثرون . فقالوا : يا أبا الوليد قم إليه فكلمه . فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : يا بن أخي . إنك منا حيث علمت : من السطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم . فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها ، لعلك تقبل منها بعضها . قال : فقال له رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " قل يا أبا الوليد أسمع " . . قال : يا بن أخي . إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا . وإن كنت إنما تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه ! - أو كما قال له - حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يستمع منه قال : " أقد فرغت يا أبا الوليد ? " قال : نعم . قال : " فاستمع مني " . قال : أفعل . فقال : بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون . بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون . وقالوا : قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ، وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، فاعمل إننا عاملون . قل : إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين . . . )ثم مضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيها يقرؤها عليه . فلما سمعها منه عتبة أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه . ثم انتهى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى السجدة منها فسجد . ثم قال . " قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت . فأنت وذاك " . . فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به . فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد ? قال : ورائي أنني سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني ، واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم . فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم . وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به . قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه . قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم . .
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل : أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود ) . . فقام مذعورا فوضع يده على فم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يقول : أنشدك الله والرحم يا محمد ! وذلك مخافة أن يقع النذير . وقام إلى القوم فقال ما قال !
وعلى أية حال فهذه صورة أخرى من صور المساومة . وهي كذلك صورة من صور الخلق العظيم . تبدو في أدبه [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يستمع إلى عتبة حتى يفرغ من قوله الفارغ الذي لا يستحق الانتباه من مثل محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في تصوره لقيم هذا الكون ، وفي ميزانه للحق ولعرض هذه الأرض . ولكن خلقه يمسك به لا يقاطع ولا يتعجل ولا يغضب ولا يضجر ، حتى يفرغ الرجل من مقالته ، وهو مقبل عليه . ثم يقول في هدوء : " أقد فرغت يا أبا الوليد ? " زيادة في الإملاء والتوكيد . إنها الطمأنينة الصادقة للحق مع الأدب الرفيع في الاستماع والحديث . . وهما معا بعض دلالة الخلق العظيم .
وصورة ثالثة للمساومة فيما رواه ابن اسحق قال :
" واعترض رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يطوف بالكعبة - فيما بلغني - الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمي . وكانوا ذوي أسنان في قومهم . فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر . فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد كنت قد أخذت بحظك منه ! فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل : يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون ) : السورة كلها . .
وحسم الله المساومة المضحكة بهذه المفاصلة الجازمة . وقال لهم الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ما أمره ربه أن يقول . . .
وليس المراد أنهم ودُّوا ذلك في نفوسهم فأطْلَع الله عليه رسوله صلى الله عليه وسلم لعدم مناسبته لقوله : { فلا تطع المكذبين }
وورد في كتب السيرة أن المشركين تقدموا للنبيء صلى الله عليه وسلم بمثل هذا العرض ووسطوا في ذلك عمه أبا طالب وعتبة بن ربيعة .
فينتظم من هذا أن قوله { فلا تطع المكذبين } نهي عن إجابتهم إلى شيء عرضوه عليه عندما قرعهم بأول هذه السورة وبخاصة من وقْع معنى التعريض البديع الممزوج بالوعيد بسوء المستقبل من قوله : { فستبصُر ويبصرون بأيكم المفتون } إلى قوله : { بالمهتدين } [ القلم : 5 7 ] فلعلهم تحدثوا أو أوعَزُوا إلى من يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو صارحوه بأنفسهم بأنه إن ساءه قولهم فيه { إنه لمجنون } [ القلم : 51 ] فقد ساءهم منه تحقيرهم بصفات الذم وتحقير أصنامهم وآبائهم من جانب الكفر فإن أمسك عن ذلك أمسكوا عن أذاه وكان الحال صلحاً بينهم ويترك كلّ فريق فريقاً وما عبده .
والطاعة : قبول ما يُبتغَى عمله ، ووقوع فعل { تطع } في حيز النهي يقتضي النهي عن جنس الطاعة لهم فيعم كل إجابة لطلب منهم ، فالطاعة مراد بها هنا المصالحة والملاينة كما في قوله تعالى : { فلا تطع الكافرين وجَاهدهم به جهاداً كبيراً } [ الفرقان : 52 ] ، أي لا تلن لهم .
واختير تعريفهم بوصف المكذبين دون غيره من طرق التعريف لأنه بمنزلة الموصول في الإِيماء إلى وجه بناءِ الحكم وهو حكم النهي عن طاعتهم فإن النهي عن طاعتهم لأنهم كذبوا رسالته .
ومن هنا يتضح أن جملة { ودُّوا لو تُدهِنُ فيدهنون } بيان لمتعلق الطاعة المنهي عنها ولذلك فصلت ولم تعطف .
وفعل { تدهن } مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة ، وحقيقة هذا الفعل أن يجعل لشيء دهناً إما لتليينه وإما لتلوينه ، ومن هاذين المعنيين تفرعت معاني الإِدهان كما أشار إليه الراغب ، أي ودّوا منك أن تدهن لهم فيدهنوا لك ، أي لو تُواجههم بحسن المعاملة فيواجهونك بمثلها .
والفاء في { فيدهنون } للعطف ، والتسبب عن جملة { لو تدهن } جواباً لمعنى التمني المدلول عليه بفعل { ودُّوا } بل قصد بيان سبب ودادتهم ذلك ، فلذلك لم ينصب الفعل بعد الفاء بإضمار ( أنْ ) لأن فاء المتسبب كافية في إفادة ذلك ، فالكلام بتقدير مبتدأ محذوف تقديره : فهم يدهنون .
وسلك هذا الأسلوب ليكون الاسم المقدر مقدماً على الخبر الفعلي فيفيد معنى الاختصاص ، أي فالإِدهان منهم لا منك ، أي فاترك الإِدهان لهم ولا تتخلق أنت به ، وهذه طريقة في الاستعمال إذا أريد بالترتبات أنه ليس تعليق جواب كقوله تعالى : { فمن يؤمنْ بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } [ الجنّ : 13 ] ، أي فهو لا يخاف بخساً ولا رهقاً .
وحرف { لو } يحتمل أن يكون شرطياً ويكونَ فعل { تدهن } شرطاً ، وأن يكون جوابُ الشرط محذوفاً ويكون التقدير : لو تدهن لحصل لهم ما يودون . ويحتمل أن يكون { لو } حرفاً مصدرياً على رأي طائفة من علماء العربية أن { لو } يأتي حرفاً مصدرياً مثل ( أنْ ) فقد قال بذلك الفراء والفارسي والتبريزي وابن مالك فيكون التقدير : ودوا إدهانك .
ومفعول { وَدُّوا } محذوف دل عليه { لو تدهن } ، أو هو المصدر بناء على أن { لو } تقع حرفاً مصدرياً ، وتقدم في قوله تعالى : { يوَدُّ أحدهم لو يُعَمّر ألف سنة } في سورة البقرة ( 96 ) . وقد يفيد موقع الفاء تعليلاً لمودتهم منه أن يدهن ، أي ودوا ذلك منك لأنهم مدهنون ، وصاحب النية السيئة يود أن يكون الناس مثله .