اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَدُّواْ لَوۡ تُدۡهِنُ فَيُدۡهِنُونَ} (9)

قوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } .

المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم : «فَيُدهِنُونَ » بثبوت نون الرفع وفيه وجهان : أحدهما : أنه عطف على «تُدهِنُ » فيكون داخلاً في حيز «لَوْ » .

والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهم يدهنون .

وقال الزمخشريُّ{[57546]} : «فإن قلت : لم رفع " فَيُدْهنُونَ " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني ؟ .

قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون ، كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً }[ الجن : 13 ] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا إدهانك ، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك ، قال سيبويه{[57547]} : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودُّوا لو تُدهِنُ فيُدْهِنُوا » انتهى .

وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان :

أحدهما : أنه عطف على التوهم ، كأنه توهم أن نطق ب «أنْ » فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية «لَوْ » ، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في «البقرة »{[57548]} .

والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهوم من «ودّ » .

والظاهر أن «لَوْ » حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن جوابها محذوف ، ومفعول الودادة أيضاً محذوف ، تقديره : ودوا إدهانك ، فحذف إدهانك ، لدلالة «لَو » وما بعدها عليه ، وتقدير الجواب : لسروا بذلك .

فصل في معنى الآية :

قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديُّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم{[57549]} ، وعن ابن عباس أيضاً : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك{[57550]} .

وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك . والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين . قاله الفراء{[57551]} والليث .

وقال مجاهدٌ : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك{[57552]} .

وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب ، فيكذبون{[57553]} .

وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا{[57554]} .

وقال الحسنُ : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم ، وعنه أيضاً : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم{[57555]} .

وقال زيد بن أسلم : ودّوا لو تنافق وترائي ، فينافقون ويراءون{[57556]} .

وقيل : ودُّوا لو تضعف فيضعفون . قاله أبو جعفر{[57557]} {[57558]} .

وقال القتيبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ، وعنه : طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة .

وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى { لَوْ تَكْفُرُونَ }[ النساء : 89 ] ومعنى : لو تصانعهم وقال ابن العربي{[57559]} : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوالٍ ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى ، وأمثلها قولهم «ودُّوا لو تكذبُ فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون » .

وقال القرطبيُّ{[57560]} : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الإدهان اللين والمصانعة .

وقيل : مجاملة العدو وممايلته .

وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول ، وقال المفضل : النفاق وترك المناصحةِ ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة ، وكل شيء منها لم يكن .

وقال المبردُ : أدهن في دينه ، وداهن في أمره ، أي : خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر .

وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ، قاله الجوهري ، وقوله «فيُدْهِنُونَ » ساقه على العطف ، ولو جاء به جواباً للنهي لقال : «فيُدْهِنُوا » ، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك ، عطفاً لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير .


[57546]:ينظر: الكشاف 4/586.
[57547]:ينظر: الكتاب 1/422.
[57548]:آية (20).
[57549]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/182) عن ابن عباس والضحاك.
[57550]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/182) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/391) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
[57551]:ينظر: معاني القرآن للفراء 3/173.
[57552]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/182) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/391) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[57553]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/151).
[57554]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/182) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/391) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[57555]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/151).
[57556]:ينظر المصدر السابق.
[57557]:ينظر الطبري 12/182.
[57558]:ينظر القرطبي (18/151).
[57559]:ينظر أحكام القرآن (4/1855).
[57560]:ينظر الجامع لأحكام القرآن (18/151).