ثم بعد أن بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله على عباده ورحمته بهم ، أتبع ذلك بأمرهم بمداومة شكره ، وبالوفاء بعهده فقال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } .
أي : تنبهوا أيها المؤمنون - بعقولكم وقلوبكم لما أسبغه الله عليكم من منن فداوموه على شكرها { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } بدين الإِسلام الذي هديتم به إلى الصراط المستقيم ، واذكروا كذلك { وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم } أي : عهده الوثيق الذي أخذه عليكم ، وأمركم بالتزامه بكل قوة .
وقوله : { إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } ظرف لقوله { وَاثَقَكُم بِهِ } أي : إذ قلتم وقت أن أخذ عليكم العهد الموثق : سمعنا قولك وأطعنا أمرك .
فأنت ترى أن الآية الكريمة أوجبت على المؤمنين أمرين :
أولهما : التنبه إلى نعم الله وعلى رأس هذه النعم نعمة الهداية إلى دين الإسلام ، ومداومة شكره - سبحانه - على ذلك .
وثانيهما : الوفاء بعهوده التي أخذها عليهم ، وتقبلوها بالسمع والطاعة لأنهم متى شكروه على نعمه ، وكانوا أوفياء بعهودهم ، زادهم - سبحانه - من فضله وعطائه .
قال الفخر الرازي : وإنما قال : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } وهو يشعر بنسيانها مع أن مثلها في تواترها لا ينسى ، للإِشارة إلى أنه لكثرة هذه النعم وتعاقبها ، صارت كالأمر المعتاد الذي لكثرة وجوده قد يغفل عنه المرء .
والمراد بالميثاق الذي أخذه عليهم ما جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المؤمنين من عهود على أن يسمعوا له ويطيعوا في العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، كما حدث مع الأنصار ليلة العقبة ، وكما حدث مع المؤمنين جميعا في بيعة الرضوان .
وإنما أضيف الميثاق إلى الله تأكيداً لوجوب الوفاء به ؛ ولأنه - سبحانه - هو الذي شرعه وهو الذي سيحاسبهم على نقضه وعدم الوفاء به .
وقال مجاهد : المراد به الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم من ظهر آدم ، وضعف هذا القول بأن الخطاب هنا للمؤمنين وليس للبشر جميعاً .
قال ابن جرير ما ملخصه : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك : قول ابن عباس ، وهو أن معناه : واذكروا أيها المؤمنون - نعمة الله التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم إلى الإِسلام { وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ } يعني : وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم السمع والطاعة له في المنشط والمكره ، والعسر واليسر ، إذ قلتم سمعنا ما قلت لنا وأخذت علينا من المواثيق ، وأطعناك فيما أمرتنا ونهيتنا عنه . . فأوفوا - أيها المؤمنون - بميثاقه الذي واثقكم به ونعمته التي أنعم عليكم بها يوف لكم بما ضمن لكم الوفاء به ، من إتمام نعمته عليكم ، وبإدخالكم جنته ، وإنعامكم بالخلود في دار كرامته وإنقاذكم من عذابه .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال المراد بالميثاق ما أخذ عليهم في صلب آدم ، لأن الله بعد أن ذكر المؤمنين بميثاقه الذي واثقهم به ، ذكر بعد ذلك أهل التوراة بالميثاق الذي أخذه الله عليهم في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ } منبها بذلك المؤمنين على مواضع حظوظها من الوفاء لله بماعاهدهم عليه ، ويعرفهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضعيوا من ميثاقه .
وبعد أن ذكر الله - تعالى - المؤمنين بنعمته عليهم وبميثاقه الذي واثقهم به وأمرهم بالوفاء بما كلهم به ختم - سبحانه - الآية بأمرهم بخشيته والخوف منه قال : { واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .
أي : اشكروا الله - أيها المؤمنون - على نعمته ، وكونوا أوفياء بعهودكم واتقوا الله وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون ، وصونوا أنفسكم عن كل ما يكرهه لكم ، فإنه - سبحانه - عليم علما تاماً بخفيات الأمور الكامنة في الصدور . وبكل ما يظهره الإِنسان ويبطنه ، وسيحاسبكم يوم القيامة على أعمالكم ، فيجاري المسحن بإحسانه ، والمسيء بإساءته و { ذات الصدور } هي الأمور المستقرة في الصدور ، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه الذي يلازمه ولا يفارقه . ومثلوا لها بالنيات والاعتقادات وسائر الأمور القلبية .
والجملة الكريمة { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } تعليل لقوله { واتقوا } .
وكرر - سبحانه - اسمه الجليل لاشعار المؤمنين برقابته التامة عليهم . واطلاعه على أحوالهم المختلفة ، وأعمالهم المتنوعة وللإِشارة إلى أنه إذا كان - سبحانه - يعلم خفيات الأمور ، فمن باب أولى يعلم جلياتها .
ويعقب على أحكام الطهارة ، وعلى ما سبقها من الأحكام بتذكير الذين آمنوا بنعمة الله عليهم بالإيمان ، وبميثاق الله معهم على السمع والطاعة ، وهو الميثاق الذي دخلوا به في الإسلام - كما تقدم - كما يذكرهم تقوى الله ، وعلمه بما تنطوي عليه الصدور :
( واذكروا نعمة الله عليكم ، وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : سمعنا وأطعنا ، واتقوا الله ، إن الله عليم بذات الصدور ) . .
وكان المخاطبون بهذا القرآن أول مرة يعرفون - كما قدمنا - قيمة نعمة الله عليهم بهذا الدين . إذ كانوا يجدون حقيقتها في كيانهم ، وفي حياتهم ، وفي مجتمعهم ، وفي مكانهم من البشرية كلها من حولهم . ومن ثم كانت الإشارة - مجرد الإشارة - إلى هذه النعمة تكفي ، إذ كانت توجه القلب والنظر إلى حقيقة ضخمة قائمة في حياتهم ملموسة .
كذلك كانت الإشارة إلى ميثاق الله الذي واثقهم به على السمع والطاعة ، تستحضر لتوها حقيقة مباشرة يعرفونها . كما كانت تثير في مشاعرهم الاعتزاز حيث تقفهم من الله ذي الجلال موقف الطرف الآخر في تعاقد مع الله ، وهو أمر هائل جليل في حسن المؤمن ، حين يدرك حقيقته هذه ويتملاها . .
ومن ثم يكلهم الله في هذا إلى التقوى . إلى إحساس القلب بالله ، ومراقبته في خطراته الخافية :
( واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور ) . .
والتعبير( بذات الصدور ) تعبير مصور معبر موح ، نمر به كثيرا في القرآن الكريم . فيحسن أن ننبه إلى مافيه من دقة وجمال وإيحاء . وذات الصدور : أي صاحبة الصدور ، الملازمة لها ، الملاصقة بها . وهي كناية عن المشاعر الخافية ، والخواطر الكامنة ، والأسرار الدفينة . التي لها صفة الملازمة للصدور والمصاحبة . وهي على خفائها وكتمانها مكشوفة لعلم الله ، المطلع على ذات الصدور . .
الخطاب بقوله : { واذكروا } إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم و { نعمة الله } اسم جنس يجمع الإسلام ، وجمع الكلمة وعزة الحياة ، وغنى المال ، وحسن المآل ، هذه كلها نعم هذه الملة ، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعات العقبة وبيعة الرضوان ، وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا ، هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين . وقال مجاهد : الميثاق المذكور هو المأخوذ على الَّنسم حين استخرجوا من ظهر آدم ، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.