وقوله - سبحانه - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ . . . } نهى عن قتل الأولاد بعد بيان أن الأرزاق بيده - سبحانه - ، يبسطها لمن يشاء ، ويضيقها على من يشاء .
والإِملاق : الفقر . يقال : أملق الرجل إذا افتقر قال الشاعر : .
وإنى على الإِملاق يا قوم ماجد . . . أعد لأضيافى الشواء المصهبا
قال الآلوسى : وظاهر اللفظ النهى عن جميع أنواع قتل الأولاد ، ذكورا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة .
لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن ، فنهى فى الآية عن ذلك ، فيكون المراد بالأولاد البنات ، وبالقتل الوأد . . .
أى : ولا تقتلوا - أيها الآباء - أولادكم خشية فقر متوقع ، فنحن قد تكفلنا برزقهم ورزقكم ، وأرزاق غيركم من مخلوقاتنا التى لا تحصى .
قال - تعالى - : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا . . } ولا شك أن الحياة حق لهؤلاء الصغار كما أنها حق لكم ، فمن الظلم البين الاعتداء على حقوقهم ، والتخلص منهم خوفا من الفقر المتوقع فى المستقبل ، مع أن الله - تعالى - هو الرازق لهم ولكم فى كل زمان ومكان .
وقد ورد النهى عن قتل الاولاد هنا بهذه الصيغة ، وورد فى سورة الأنعام بصيغة أخرى ، هى قوله - تعالى - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } وليست أحدهما تكرارا للأخرى وإنما كل واحدة منهما تعالج حالة معينة .
فهنا يقول - سبحانه - : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } لأن النهى موجه بالأصالة إلى الموسرين الذين يقتلون أولادهم لا من أجل فقر كائن فيهم ، وإنما من أجل فقر هم يتوهمون حصوله فى المستقبل بسبب الأولاد ، لذا قال - سبحانه - { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فقدم رزق الأولاد لأنهم سبب توقع الفقر ، فى زعم آبائهم - لكى يمتنع الآباء عن هذا التوقع ولكى يضمن للأولاد رزقهم ابتداء مستقلا عن رزق الآباء .
وقال - سبحانه - هناك { من إملاق } لأن النهى متوجه أصالة إلى الآباء المعسرين : أى لا تقتلوهم بسبب الفقر الموجود فيكم - أيها الآباء - ، فقد يجعل الله بعد عسر يسرا ، ولذا قال - سبحانه - : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } فجعل الرزق للآباء ابتداء . لكى يطمئنهم - سبحانه - على أنه هو الكفيل برزقهم وبرزق أولادهم .
وفى كلتا الحالتين ، القرآن الكريم ينهى عن قتل الأولاد ، ويغرس فى نفوس الآباء الثقة بالله - تعالى - والاعتماد عليه .
وجملة { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } تعليل للنهى عن قتل الأولاد ، بإبطال موجبه - فى زعمهم - وهو الفقر .
أى : نحن نرزقهم لا أنتم ، ونرزقكم أنتم معهم ، وما دام الأمر كذلك فلا تقدموا على تلك الجريمة النكراء : وهى قتل الأولاد ، لأن الأولاد ، قطعة من أبيهم ، والشأن - حتى فى الحيوان الأعجم - أنه يضحى من أجل أولاده ويحميهم ، ويتحمل الصعاب فى سبيلهم .
وقوله { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } تعليل آخر للنهى عن قتل الأولاد جئ به على سبيل التأكيد .
والخِطْء : هو الإِثم - وزنا ومعنى - ، مصدر خَطِئَ خِطْئًا كأثم إثما من باب علم .
أى : أن قتل الأولاد كان عند الله - تعالى - إثما كبيرا فاحشا ، يؤدى إلى التعاسة والشقاء فى الدنيا والآخرة :
والحق أن المجتمع الذى يبيح قتل الأولاد ، خوفا من الفقر أو العار ، لا يمكن أن يصلح شأنه ، لأنه مجتمع نفعى تسوده الأثرة والأنانية والتشاؤم والأوهام ، لأن أفراده يظنون أن الله يخلق خلقا لا يدبر لهم رزقهم ، ويعتدون على روح بريئة طاهرة ، تخوفا من فقر أو عار مترقب ، وذلك هو الضلال المبين .
ورحم الله الإِمام الرازى فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : إن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر ، فهو سوء ظن بالله . وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعى فى تخريب العالم . فالأول : ضد التعظيم لأمر الله - تعالى - والثانى : ضد الشفقة على خلقه ، وكلاهما مذموم .
ولقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم برعاية الأبناء ، وحذر من الاعتداء عليهم فى أحاديث كثيرة ، ومن ذلك ما جاء فى الصحيحين عن عبدالله بن مسعود قال : " قلت يا رسول الله ، أى الذنب أعظم ؟ قال : أن تجعل لله ندا وهو خلقك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك . قلت : ثم أى ؟ قال : أن تزنى بحليلة جارك " .
وكان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق ؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق . فما دام الرزق بيد الله ، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل ؛ إنما الأمر كله إلى الله . ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس ، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة :
( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ، إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) . .
إن انحراف العقيدة وفسادها ينشيء آثاره في حياة الجماعة الواقعية ، ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية . وتصحيح العقيدة ينشيء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها ، وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها . وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الإنسانية . وشاهد على أن الحياة لا يمكن إلا أن تتأثر بالعقيدة ، وأن العقيدة لا يمكن أن تعيش في معزل عن الحياة .
ثم نقف هنا لحظة أمام مثل من دقائق التعبير القرآني العجيبة .
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء : نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء : ( نحن نرزقكم وإياهم ) . وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين . فهذا النص : ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم : والنص الآخر ( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) .
هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد . وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا . فقدم رزق الآباء . فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك .
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده ؛ لأنه ينهى [ تعالى ]{[17460]} عن قتل الأولاد ، كما أوصى بالأولاد في الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته ، فنهى الله [ تعالى ]{[17461]} عن ذلك فقال : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي : خوف أن تفتقروا في ثاني الحال ؛ ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } وفي الأنعام{[17462]} { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } أي : من فقر { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ{[17463]} } [ الأنعام : 151 ] .
وقوله : { إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا } أي : ذنبًا عظيمًا .
وقرأ بعضهم : " كان خَطَأً كبيرًا " وهو بمعناه .
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندًا وهو خلقك " . قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَمَ معك " . قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني بحليلة{[17464]} جارك " {[17465]} .
قرا الأعمش وابن وثاب «ولا تقتّلوا » بتضعيف الفعل ، وهذه الآية نهي عن الوأد الذي كانت العرب تفعله ، وهو قوله تعالى : { وإذا الموءودة سئلت }{[7539]} ، ويقال كان جهلهم يبلغ أن يغدو أحدهم كلبه ويقتل ولده ، و { خشية } نصب على المفعول من أجله ، و «الإملاق » الفقر وعدم الملك ، أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود ، وقرأ الجمهور «خِطْئاً » بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز والقصر ، وقرأ ابن عامر «خطئاً » بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة ، وهي قراءة أبي جعفر ، وهاتان قراءتان مأخوذتان من خطىء إذا أتى الذنب على عمد ، فهي كحذر وحذر ومثل ومثل وشبه وشبه اسم ومصدر ، ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
الخطء فاحشة والبر نافلة . . . كعجوة غرست في الأرض تؤتبر{[7540]}
قال الزجاج يقال خطىء الرجل يخطأ خطأً مثل أثم إثماً فهذا هو المصدر وخطأ اسم منه ، وقال بعض العلماء خطىء معناه واقع الذنب عامداً ، ومنه قوله تعالى : { لا يأكله إلا الخاطئون } [ الحاقة : 37 ] ، وأخطأ واقع الذنب عن غير تعمد ، ومنه قوله تعالى : { إن نسينا أو أخطأنا }{[7541]} ، وقال أبو علي الفارسي : وقد يقع هذا موضع هذا ، وهذا موضع هذا ، فأخطأ بمعنى تعمد في قول الشاعر : [ الوافر ]
عبادك يخطئون وأنت رب . . . كريم لا يليق بك الذموم{[7542]}
وخطىء بمعنى لم يتعمد في قول الآخر : [ الكامل ]
والناس يلحون الأمير إذا همُ . . . خطئوا الصواب ولا يلام المرشد{[7543]}
وقد روي عن ابن عامر «خَطأً » بفتح الخاء وسكون الطاء وهمزة ، وقرأ ابن كثير «خِطَاء » بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة ، وهي قراءة الأعرج بخلاف ، وطلحة وشبل والأعمش وعيسى وخالد بن إياس وقتادة والحسن بخلاف عنه ، قال النحاس ولا أعرف لهذه القراءة وجهاً ، وكذلك جعلها أبو حاتم غلطاً . قال أبو علي الفارسي : هي مصدر من خاطأ يخاطىء وإن كنا لم نجد خاطَأ ولا كنا وجدنا تخاطأ وهو مطاوع خاطأ ، فدلنا عليه ، فمنه قول الشاعر : [ المتقارب ]
تخاطأت النبْل أحشاءه . . . وخر يومي فلم أعجل{[7544]}
وقول الآخر في صفة كماة : [ الطويل ]
تَخَاطَأَه القنّاصُ حتى وجدته . . . وخرطومه في مَنْقَع الماء راسب{[7545]}
فكأن هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحق والعدل ، وقرأ الحسن فيما روي عنه «خَطَاء » بفتح الخاء والطاء والمد في الهمزة قال أبو حاتم : لا يعرف هذا في اللغة ، وهو غلط غير جائز وليس كما قال أبو حاتم ، قال أبو الفتح : الخطاء من أخْطَأت بمنزلة العطاء من أعطيت ، هو اسم يعني المصدر ، وقرأ الحسن بخلاف «خَطاً » بفتح الخاء والطاء منونة من غير همز ، وقرأ أبو رجاء والزهري «خِطاً » بكسر الخاء وفتح الطاء كالتي قبلها ، وهاتان مخففتان من خطأ وخطاء .
عطف جملة حكم على جملة حكم للنهي عن فعل ينشأ عن اليأس من رزق الله . وهذه الوصية السابعة من الأحكام المذكورة في آية { وقضى ربك } الآية [ الإسراء : 23 ] . وغُيّر أسلوب الإضمار من الإفراد إلى الجمع لأن المنهي عنه هنا من أحوال الجاهلية زجراً لهم عن هذه الخطيئة الذميمة ، وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في سورة الأنعام ؛ ولكن بين الآيتين فرقاً في النظم من وجهين :
الأول : أنه قيل هنا { خشية إملاق } وقيل في آية الأنعام { من إملاق } [ الأنعام : 151 ] . ويقتضي ذلك أن الذين كانوا يئدون بناتهم يئدونهن لغرضين :
إما لأنهم فقراء لا يستطيعون إنفاق البنت ولا يرجون منها إن كبرت إعانة على الكسب فهم يئدونها لذلك ، فذلك مورد قوله في الأنعام من إملاق } ، فإن ( من ) التعليلية تقتضي أن الإملاق سبب قتلهن فيقتضي أن الإملاق موجود حين القتل .
وإما أن يكون الحامل على ذلك ليس فقر الأب ولكن خشية عروض الفقر له أو عروض الفقر للبنت بموت أبيها ، إذ كانوا في جاهليتهم لا يورثون البنات ، فيكون الدافع للوأد هو توقع الإملاق ، كما قال إسحاق بن خلف ، شاعر إسلامي قديم :
إذا تذكرت بنتي حين تندبني *** فاضت لعبرة بنتي عبرتي بدم
أحاذر الفقر يوماً أن يلم بها *** فيَهتك السترَ عن لحم على وضم
تهوَى حياتي وأهوَى موتها شفقا *** والموتُ أكرم نزّال على الحُرم
أخشى فظاظة عمّ أو جفاء أخ *** وكنتُ أخشى عليها من أذى الكلم
فلتحذير المسلمين من آثار هذه الخواطر ذكروا بتحريم الوأد وما في معناه . وقد كان ذلك في جملة ما تؤخذ عليه بيعة النساء المؤمنات كما في آية سورة الممتحنة . ومن فقرات أهل الجاهلية : دفن البنات . من المكرمَات . وكلتا الحالتين من أسباب قتل الأولاد تستلزم الأخرى وإنما التوجيه للمنظور إليه بادىء ذي بدء .
الوجه الثاني : فمن أجل هذا الاعتبار في الفَرْق للوجه الأول قيل هنالك { نحن نرزقكم وإياهم } بتقديم ضمير الآباء على ضمير الأولاد ، لأن الإملاق الدافع للوأد المحكي به في آية الأنعام هو إملاق الآباء فقدم الإخبار بأن الله هو رازقهم وكمل بأنه رازق بناتهم .
وأما الإملاق المحكي في هذه الآية فهو الإملاق المخشي وقوعه . والأكثر أنه توقع إملاق البنات كما رأيت في الأبيات ، فلذلك قُدم الإعلام بأن الله رازق الأبناء وكُمل بأنه رازق آبائهم . وهذا من نكت القرآن .
والإملاق : الافتقار . وتقدم الكلام على الوأد عند قوله تعالى : { وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم } في سورةة [ الأنعام : 137 ] .
وجملة { نحن نرزقهم } معترضة بين المتعاطفات . وجملة { إن قتلهم كان خطأ كبيراً } تأكيد للنهي وتحذير من الوقوع في المنهي ، وفعل { كان } تأكيد للجملة .
والمراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأداً ، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها : ولد .
وجرى الضمير على اعتبار اللفظ في قوله { نرزقهم } .
و ( الخِطء ) بكسر الخاء وسكون الطاء مصدر خطىء بوزن فرح ، إذا أصاب إثماً ، ولا يكون الإثم إلا عن عمد ، قال تعالى : { إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } [ القصص : 8 ] وقال : { ناصية كاذبة خاطئة } [ العلق : 16 ] .
وأما الخَطَأ بفتح الخاء والطاء فهو ضد العمد . وفعله : أخطأ . واسم الفاعل مُخطىء ، قال تعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم } [ الأحزاب : 5 ] . وهذه التفرقة هي سر العربية وعليها المحققون من أيمتها .
وقرأ الجمهور { خطأ } بكسر الخاء وسكون الطاء بعدها همزة ، أي إثماً . وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وأبو جعفر { خَطَأ } بفتح الخاء وفتح الطاء . والخطأ ضد الصواب ، أي أن قتلهم محض خَطأ ليس فيه ما يعذر عليه فاعله .
وقرأه ابن كثير { خِطَاءً } بكسر الخاء وفتح الطاء وألف بعد الطاء بعده همزة ممدوداً . وهو فعال من خَطِىء إذا أجرم ، وهو لغة في خِطْء ، وكأن الفعال فيها للمبالغة . وأكد ب ( إن ) لتحقيقه رداً على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد ، ويقولون : دفن البنات من المَكرمات . وأكد أيضاً بفعل ( كان ) لإشعار ( كان ) بأن كونه إثماً أمراً استقر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تقتلوا أولادكم}، يعني: دفن البنات وهن أحياء،
{خشية إملاق}، يعني: مخافة للفقر،
{نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا}، يعني: إثما، {كبيرا}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: "وَقَضَى رَبّكَ يا محمد ألاّ تَعْبُدُوا إلاّ إيّاهُ وَبالوَالِدَيْنِ إحْسانا"...، طوَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ "فموضع تقتلوا نُصب عطفا على ألا تعبدوا.
ويعني بقوله: "خَشْيَةَ إمْلاقٍ": خوف إقتار وفقر... وإنما قال جلّ ثناؤه ذلك للعرب، لأنهم كانوا يقتلون الإناث من أولادهم خوف العيلة على أنفسهم بالإنفاق عليهن... عن قتادة، قوله: "ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَة إمْلاقٍ": أي خشية الفاقة، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة، فوعظهم الله في ذلك، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله، فقال: "نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وإيّاكُمْ إنّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبيرا"...
وأما قوله: "إنّ قَتْلَهُمْ كان خِطْأً كَبِيرا "فإن القراء اختلفت في قراءته فقرأته عامّة قراء أهل المدينة والعراق "إنّ قَتْلَهُمْ كان خِطْأً كَبِيرا" بكسر الخاء مِن الخطأ وسكون الطاء. وإذا قرىء ذلك كذلك، كان له وجهان من التأويل: أحدهما أن يكون اسما من قول القائل: خَطِئت فأنا أَخْطَأ، بمعنى: أذنبت وأثمت. ويُحكى عن العرب: خَطِئتَ: إذا أذنبتَ عمدا، وأخطأت: إذا وقع منك الذنب خَطَأ على غير عمد منك له. والثاني: أن يكون بمعنى خَطَأ بفتح الخاء والطاء، ثم كسرت الخاء وسكنت الطاء... والخِطْء بالكسر اسم، والخَطَأ بفتح الخاء والطاء مصدر من قولهم: خَطِىء... وقد قيل: خَطِئ، بمعنى أخطأ...
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل المدينة: «إنّ قَتْلَهُمْ كانَ خَطَأً» بفتح الخاء والطاء مقصورا على توجيهه إلى أنه اسم من قولهم: أخطأ فلان خطأ. وقرأه بعض قراء أهل مكة: «إنّ قَتْلهُمْ كان خَطاءً» بفتح الخَاء والطاء، ومدّ الخَطَاء بنحو معنى من قرأه خطأ بفتح الخاء والطاء، غير أنه يخالفه في مدّ الحرف.
وكان عامة أهل العلم بكلام العرب من أهل الكوفة وبعض البصريين منهم يرون أن الخِطْء والخَطَأ بمعنى واحد، إلاّ أن بعضهم زعم أن الخِطْء بكسر الخاء وسكون الطاء في القراءة أكثر، وأَن الخطأ بفتح الخاء والطاء في كلام الناس أفشى...
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب، القراءة التي عليها قراء أهل العراق، وعامة أهل الحجاز، لإجماع الحجة من القراء عليها، وشذوذ ما عداها. وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة، لا خَطَأ من الفعل، لأنهم إنما كانوا يقتلونهم عمدا لا خطأ، وعلى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم، وتقدم إليهم بالنهي عنه... عن مجاهد "خِطْأً كَبِيرا" قال: أي خطيئة.
وهي الموءودةُ التي ذكرها الله في قوله: {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت} [التكوير: 8 و 9] وفيه بيان أن الله تعالى سيرزق كل حيوان خلقه ما دامت حياته باقية وأنه إنما يقطع رزقه بالموت وبيّن الله تعالى ذلك لئلا يتعدَّى بعضهم على بعض ولا يتناول مال غيره إذ كان الله قد سبب له من الرزق ما يغنيه عن مال غيره.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
الخِطء: ما كان إثماً، والخَطأ: ما لا إثم فيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَنْ عَرَفَ أَنَّ الرازقَ هو الله خفَّ عن قلبه همُّ العيال -وإنْ كَثُروا، ومن خفي عليه أنه قَسَّمَ- قبل الخَلْقِ -أرزاقَهم تطوح في متاهات مغاليطه، فيقع فيها بالقلب والبَدَنِ ثم لا يكون غير ما سبق به التقدير...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والإملاق: الفقر وعدم الملك، أملق الرجل: لم يبق له إلا الملقات وهي الحجارة العظام الملس السود.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ (عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ؟ قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قَالَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك). وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَحَدِيثٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ؛ إذْ فِيهِ إذَايَةُ الْجِنْسِ، وَإِيثَارُ النَّفْسِ، وَتَعَاطِي الْوَحْدَةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْعَالَمِ بِهَا، وَتَخَلُّقُ الْجِنْسِيَّةِ بِأَخْلَاقِ السَّبُعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ فِي جَارٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَالْوَلَدُ أَلْصَقُ الْقَرَابَةِ، وَأَعْظَمُ الْحُرْمَةِ، فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ بِتَضَاعُفِ الْهَتْكِ لِلْحُرْمَةِ.
الوجه الأول: أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أنه هو المتكفل بأرزاق العباد حيث قال: {إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} أتبعه بقوله: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم}...
الوجه الثاني: أنه تعالى لما علم كيفية البر بالوالدين في الآية المتقدمة علم في هذه الآية كيفية البر بالأولاد، ولهذا قال بعضهم: إن الذين يسمون بالأبرار إنما سموا بذلك لأنهم بروا الآباء والأبناء وإنما وجب بر الآباء مكافأة على ما صدر منهما من أنواع البر بالأولاد. وإنما وجب البر بالأولاد لأنهم في غاية الضعف ولا كافل لهم غير الوالدين...
الوجه الثالث: أن امتناع الأولاد من البر بالآباء يوجب خراب العالم، لأن الآباء إذا علموا ذلك قلت رغبتهم في تربية الأولاد...
الوجه الرابع: أن قتل الأولاد إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله، وإن كان لأجل الغيرة على البنات فهو سعي في تخريب العالم، فالأول ضد التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني ضد الشفقة على خلق الله تعالى وكلاهما مذموم...
الوجه الخامس: أن قرابة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية، وهي من أعظم الموجبات للمحبة. فلو لم تحصل المحبة دل ذلك على غلظ شديد في الروح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغب الله في الإحسان إلى الأولاد إزالة لهذه الخصلة الذميمة... العرب كانوا يقتلون البنات لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه بسبب إقدامهم على النهب والغارة، وأيضا كانوا يخافون أن فقرها ينفر كفأها عن الرغبة فيها فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عار شديد...
{ولا تقتلوا أولادكم} وهذا لفظ عام للذكور والإناث، والمعنى: أن الموجب للرحمة والشفقة هو كونه ولدا، وهذا المعنى وصف مشترك بين الذكور وبين الإناث. وأما ما يخاف من الفقر من البنات فقد يخاف مثله في الذكور في حال الصغر، وقد يخاف أيضا في العاجزين من البنين...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
إن القتل الغالب عليه أن لا يقع في الأولاد إلا لتوقع ضرر كالإملاق الذي هو الفقر أو نحو ذلك من الفضيحة فلا تكون له دلالة على جواز القتل عند عدم خوف الإملاق. (الفروق: 3/138).
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا تقتلوا أولادكم} معبراً بلفظ الولد هو داعية إلى الحنو والعطف...
{خشية إملاق} أي فقر متوقع لم يقع بعد... ثم وصل بذلك استئنافاً قوله: {نحن نرزقهم وإياكم} مقدماً ضمير الأولاد لكون الإملاق مترقباً من الإنفاق عليهم غير حاصل في حال القتل، بخلاف آية الأنعام فإن سياقها يدل على أن الإملاق حاصل عند القتل، والقتل للعجز عن الإنفاق، ثم علل ذلك بما هو أعم منه فقال تعالى: {إن قتلهم} أي مطلقاً لهذا أو غيره {كان خطأً} أي إثماً {كبيراً}...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكروا كانوا أو إناثاً مخافة الفقر والفارقة لكن روى أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد، والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم، قال الراغب: وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وأخبر أن قتلهم كان خطأ كبيرا أي: من أعظم كبائر الذنوب لزوال الرحمة من القلب والعقوق العظيم والتجرؤ على قتل الأطفال الذين لم يجر منهم ذنب ولا معصية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كان بعض أهل الجاهلية يقتلون البنات خشية الفقر والإملاق؛ فلما قرر في الآية السابقة أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أتبعه بالنهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق في المكان المناسب من السياق. فما دام الرزق بيد الله، فلا علاقة إذن بين الإملاق وكثرة النسل أو نوع النسل؛ إنما الأمر كله إلى الله. ومتى انتفت العلاقة بين الفقر والنسل من تفكير الناس، وصححت عقيدتهم من هذه الناحية فقد انتفى الدافع إلى تلك الفعلة الوحشية المنافية لفطرة الأحياء وسنة الحياة: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطأ كبيرا)...
ففي هذا الموضع قدم رزق الأبناء على رزق الآباء: نحن نرزقهم وإياكم وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء: (نحن نرزقكم وإياهم). وذلك بسبب اختلاف آخر في مدلول النصين. فهذا النص: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم: والنص الآخر (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم). هنا قتل الأولاد خشية وقوع الفقر بسببهم فقدم رزق الأولاد. وفي الأنعام قتلهم بسبب فقر الآباء فعلا. فقدم رزق الآباء. فكان التقديم والتأخير وفق مقتضى الدلالات التعبيرية هنا وهناك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد بالأولاد خصوص البنات لأنهن اللاتي كانوا يقتلونهن وأداً، ولكن عبر عنهن بلفظ الأولاد في هذه الآية ونظائرها لأن البنت يقال لها: ولد... وأكد ب (إن) لتحقيقه رداً على أهل الجاهلية إذ كانوا يزعمون أن وأد البنات من السداد، ويقولون: دفن البنات من المَكرمات. وأكد أيضاً بفعل (كان) لإشعار (كان) بأن كونه إثماً أمراً استقر...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أشد أنواع الحرص والخوف من الفقر قتل الولد خشية الفقر... الإملاق هو الفاقة، وشدة الفقر، وأصلها اللغوي أملق الرجل إذا لم يبق له مما يملك إلا الملقات، وهي جمع ملقة، وهي الحجر الأملس الذي لا يقف الماء عليه، ولا ينبت زرعا، وذلك كناية عن أنه لا يملك ما يقوتهم به... و {خشية إملاق} تفيد أنهم الآن مالكون ما ينفقون منه، ولا يقتلونهم لذلك بل يقتلونهم خشية أن يتكاثروا فيكون الإملاق، ولذا قال تعالى: {نحن نرزقهم وإياكم} بتقديم رزقهم عليهم؛ لأنهم يخافون موتهم من جوع، فيسارعون بقتلهم، فالله تعالى أمنهم على رزق هؤلاء الأولاد، وفي تقديم رزق الأولاد إشارة إلى أمرين: أن رزقهم يتبع رزق الأولاد، فإن قتلوهم فقد حرموا هم أيضا الرزق ثم إن الأولاد ذاتهم رزق من الله... ووصفه سبحانه بالكبر منكرا، دليل أنه خطأ عظيم أشد ما يكون الإثم إذ إنه يؤدى إلى فناء الأمة أو ضعف نسلها، وفي ضعف النسل ذهاب ريحها وقوتها...