ثم بين - سبحانه - أنه لا يخفى عليه شئ من أحوال الناس وأعمالهم فقال : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } .
والتنوين فى قوله { كل } عوض عن المضاف إليه . أى : كل فرد .
وقوله : { شاكلته } : أى : طريقته ومذهبه الذى يشاكل ويناسب حاله فى الهداية أو الضلالة . مأخوذ من قولهم : طريق ذو شواكل ، وهى الطرق التى تتشعب منه وتتشابه معه فى الشكل ، فسميت عادة المرء بها ، لأنها تشاكل حاله .
قال القرطبى قوله { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس : على ناحيته . وقال مجاهد : على طبيعته .
وقال قتادة : على نيته وقال ابن زيد : على دينه . وقال الفراء : على طريقته ومذهبه الذى جبل عليه . .
وقيل : هو مأخوذ من الشكل . يقال : لست على شكلى ولا شاكلتى . فالشكل : هو المثل والنظير ، كقوله - تعالى - :
{ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ }
والشكل - بكسر الشين - الهيئة . يقال : جارية حسنة الشكل . أى الهيئة . وهذه الأقوال كلها متقاربة .
والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - للناس : كل واحد منكم - أيها الناس - يعمل على شاكلته وطريقته التى تشاكل حاله ، وتناسب اتجاهه ، وتتلاءم مع سلوكه وعقيدته ، فربكم الذى خلقكم وتعهدكم بالرعاية ، أعلم بمن هو أهدى سبيلا ، وأقوم طريقاً ، وسيجازى - سبحانه - الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .
فالآية الكريمة تبشر أصحاب النفوس الطاهرة والأعمال الصالحة ، بالعاقبة الحميدة ، وتهدد المنحرفين عن طريق الحق ، المتبعين لخطوات الشيطان ، بسوء المصير ، لأن الله - تعالى - لا تخفى عليه خافية ، وسيجازى كل إنسان بما يستحقه
{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }
ثم ذكر - سبحانه - بعد ذلك جانباً من الأسئلة التى كانت توجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما ذكر الإِجابة عليها لكى يجابه النبى صلى الله عليه وسلم بها السائلين ، فقال - تعالى - : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } .
وقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس : على ناحيته . وقال مجاهد : على حدته وطبيعته . وقال قتادة : على نِيَّته . وقال ابن زيد : دينه .
وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى . وهذه الآية - والله أعلم - تهديد للمشركين ووعيد لهم ، كقوله تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [ هود : 121 ، 122 ] ولهذا قال : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا } أي : منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله ، فإنه لا تخفى عليه خافية .
ثم قال عز وجل { قل } يا محمد { كل يعمل على شاكلته } أي على طريقته وبحسب نيته ومذهبه الذي يشبهه وهو شكله ومثل له ، وهذه الآية تدل دلالة ما على أن { الإنسان } أولاً لم يرد به العموم ، أي إن الكفار بهذه الصفات ، والمؤمنون بخلافها ، وكل منهم يعمل على ما يليق به ، والرب تعالى أعلم بالمهتدي ، وقال مجاهد : { على شاكلته } معناه على طبيعته ، وقال أيضاً معناه على حدته ، وقال ابن عباس : معناه على ناحيته ، وقال قتادة : معناه على ناحيته وعلى ما ينوي ، وقال ابن زيد : معناه على دينه ، وأرجح هذه العبارات قول ابن عباس وقتادة وفي قوله { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً } توعد بين
هذا تذييل ، وهو تنهية للغرض الذي ابتدىء من قوله : { ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله } [ الإسراء : 66 ] الراجع إلى التذكير بنعم الله تعالى على الناس في خلال الاستدلال على أنه المتصرف الوحيد ، وإلى التحذير من عواقب كفران النعم . وإذ قد ذكر في خلال ذلك فريقان في قوله : { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } الآية [ الإسراء : 71 ] ، وقوله : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] .
ولما في كلمة ( كل ) من العموم كانت الجملة تذييلاً .
وتنوين { كل } تنوين عوض عن المضاف إليه ، أي كل أحد مما شمله عموم قوله : { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى } [ الإسراء : 72 ] وقوله : { ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً } [ الإسراء : 82 ] وقوله : { وإذا أنعمنا على الإنسان } [ الإسراء : 83 ] .
والشاكلة : الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها . وأصلها شاكلة الطريق ، وهي الشعبة التي تتشعب منه . قال النابغة يذكر ثوباً يشبه به بُنيات الطريق :
له خُلج تهوي فُرادَى وترعوي *** إلى كل ذي نيرَين بادي الشواكل
وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا . وهذه الجملة في الآية تجري مجرى المثل .
وفرع عليه قوله : { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله ، والترغيب للمؤمنين ، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون ، كقوله : { وإنا أو إياكم لعلى هدى } الآية [ سبأ : 24 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل كل يعمل على شاكلته}، المحسن والمسيء "على شاكلته": على جديلته التي هو عليها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول عزّ وجلّ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: كلكم يعمل "على شاكلته": على ناحيته وطريقته، "فَرَبّكُمْ أعْلَمُ بِمَنْ هو "منكم "أهْدَى سَبِيلاً" يقول: ربكم أعلم بمن هو منكم أهدى طريقا إلى الحقّ من غيره... وقال آخرون: الشاكلة: الدّين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يشبه أن يكون قال هذا على الإياس من إيمانهم لما لم يزدهم دعاؤه إياهم وكثرة تلاوة آياته عليهم وإقامة حججه عليهم إلا عنادا وإنكارا...
ثم قال: {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} أي ربكم أعلم بمن منا على الهدى ومن ليس، أو من منا أهدى سبيلا نحن أو أنتم؟... وقال القتبي: {شاكلته} أي على خليقته...
وقال بعضهم: على نيته... ويشبه أن يكون: أي كل يعمل بما هو الشبيه به وما هو يشبهه، لأن الشكل هو ما يشبه الشيء؛ يقال: هذا شكل هذا...
وفيه تحذير من إلْفِ الفساد والمساكنة إليه فيستمر عليه... قال أبو بكر: شاكلته ما يشاكله ويليق به ويشبهه، فالذي يشاكل الخَيِّرَ من الناس الخير والصلاح، والذي يشاكل الشرير الشرّ والفساد...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كُلٌّ يترشح بمُودَع باطنه، فالأَسِرَّةُ تدل على السريرة، وما تُكِنُّه الضمائرُ يلوح على السرائر، فَمَنْ صفا مِنَ الكدورة جوهرهُ لا يفوح منه إلا نَشْرُ مناقبه، ومنْ طبِعَتْ على الكدورِة طينتُه فلا يشمُّ مَنْ يحوم حوله إلا ريحَ مثالبه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قُلْ كُلٌّ} أحد {يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، من قولهم «طريق ذو شواكل» وهي الطرق التي تتشعب منه، والدليل عليه قوله: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} أي أسدّ مذهباً وطريقة...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
والمعنى: أن كل أحد يعمل على ما يشاكل أصله وأخلاقه التي ألفها، وهذا ذم للكافر ومدح للمؤمن...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذه الآية -والله أعلم- تهديد للمشركين ووعيد لهم، كقوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود: 121، 122] ولهذا قال: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلا} أي: منا ومنكم، وسيجزي كل عامل بعمله، فإنه لا تخفى عليه خافية...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وفي هذا التقرير تهديد خفي، بعاقبة العمل والاتجاه، ليأخذ كل حذره، ويحاول أن يسلك سبيل الهدى ويجد طريقه إلى الله...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما في كلمة (كل) من العموم كانت الجملة تذييلاً... وتنوين {كل} تنوين عوض عن المضاف إليه، أي كل أحد مما شمله عموم قوله: {ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى} [الإسراء: 72] وقوله: {ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} [الإسراء: 82] وقوله: {وإذا أنعمنا على الإنسان} [الإسراء: 83]... والشاكلة: الطريقة والسيرة التي اعتادها صاحبها ونشأ عليها. وأصلها شاكلة الطريق، وهي الشعبة التي تتشعب منه... وهذا أحسن ما فسر به الشاكلة هنا... {فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا} وهو كلام جامع لتعليم الناس بعموم علم الله، والترغيب للمؤمنين، والإنذار للمشركين مع تشكيكهم في حقية دينهم لعلهم ينظرون...
فالناس مختلفون وليسوا على طبع واحد، فلا تحاول إذن أن تجعل الناس على طبع واحد. ومادام الأمر كذلك، فليعمل كل واحد على شاكلته، وحسب طبيعته، فإن أساء إليك إنسان سيئ الطبع فلا تقابله بسوء مثله، ولتعمل أنت على شاكلتك، ولتقابله بطبع طيب؛ لذلك يقولون: لا تكافئ من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله فيه. وبذلك يستقيم الميزان في المجتمع، ولا تتفاقم فيه أسباب الخلاف...
والرب: المتولي للتربية، والمتولي للتربية لاشك يعلم خبايا المربى، ويعلم أسراره ونواياه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكن قد يتساءل البعض، إذا كان العمل تابعاً للشخصية في مكوّناتها الذاتية، وفي عناصرها الخاضعة للمؤثرات الداخلية من حيث المزاج، أو للمؤثرات الخارجية من حيث الظروف والأوضاع، فأين يكون موقع الاختيار وحرية الإرادة في تصرفات الإنسان، ما دام خاضعاً لمزاجه الانفعالي أو العقلاني، أو لشخصيته العالمة أو الجاهلة، وما إلى ذلك؟!... لأن هناك مساحةً واسعةً بين مفهوم الشخصية في الداخل من خلال المزاج، أو في الخارج من خلال الظروف، وبين مفهوم العنصر العقلي، الذي يدقّق ويحاسب ويحاكم ويصحّح ويؤكد الموقف، فقد جعل الله للعقل قوّةً مهيمنةً على المؤثرات السلبية في حياة الإنسان، وأردفه بالوحي الذي يفصّل له الأمور وينظِّم له الخطوط، وبذلك يبقى هناك مجالٌ للتغيير، وساحةٌ للإرادة الحرّة التي تضغط على المزاج بعقلٍ مفتوحٍ... وبهذا يبطل السؤال الذي يقول: ما جدوى الرسالات التي توجَّه إلى الناس، إذا كان كل إنسان يعمل على شاكلته التي خلق عليها، أو التي اكتسبها من خلال ظروفه الموضوعية؟!...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(قل كلّ يعمل على شاكلته). فالمؤمنون يطلبون الرحمة والشفاء مِن آيات القرآن الكريم، والظالمون لا يستفيدون مِن القرآن سوى مزيد مِن الخسران، أمّا الأفراد الضعفاء فيصابون بالغرور في حالِ النعمة. ويصابون باليأس في حالِ ظهور المشاكل... هؤلاء جميعاً يتصرفون وفق أمزجتهم، هذه الأمزجة التي تتغيّر وفق التربية والتعليم والأعمال المتكررة للإِنسان نفسه. وفي هذه الأحوال جميعاً فإِنَّ هناك علم الله الشاهد والمحيط بالجميع وخاصّة بالأشخاص المهتدين: (فربّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا)... «شاكلة» في الأصل مُشتقة مِن (شكل) وهي تعني وضع الزمام والرباط للحيوان. و (شكال) تُقال لنفس الزمام؛ وبما أنَّ طبائع وعادات كل إِنسان تقيِّدهُ بصفات معينة لذا يقال لذلك «شاكلة»... وخلاصة القول هنا: إنَّ الشاكلة لا تعني أبداً الطبيعة الذاتية، بل هي تُطلق على كلّ عادة وطريقة ومذهب وأسلوب يعطي للإِنسان اتجاهاً معيناً... لذا فإِنَّ العادات والصفات التي يكتسبها الإِنسان بتكرار الأعمال اختيارياً وإِرادياً، وكذلك الاعتقادات التي يقتنع بها ويعتمدها بسبب الاستدلال أو التعصب لرأي معين يُطلق عليها كُلّها كلمة «شاكلة»... وعادةً ما تكون الملكات الإِنسانية لها صفة اختيارية، لأنَّ الإِنسان عندما يُكرِّر عملا ما ففي البداية يُقالُ لهُ (حالة) ثمّ تتحوَّل الحالة إلى (عادة) والعادة إلى (مَلَكَة) وهذه الملكات نفسها تعطي شكلا معيناً لأعمال الإِنسان وتحدِّد خطَّهُ في الحياة، وهي عادةً ما تظهر بفعل العوامل الاختيارية والإِرادية...