ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله يعقوب لابنه يوسف بعد أن قص عليه رؤياه فقال : { قَالَ يابني لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } .
وقوله { يابني } تصغير ابن . والتصغير هنا سببه صغر سنه مع الشفقة عليه ، والتلطيف معه .
وقوله { رُؤْيَاكَ } من الرؤيا التي هي مصدر رأى العلمية الدالة على ما وقع للإِنسان في نومه ، أما رأى البصرية فيقال في مصدرها الرؤية .
وقوله " فيكيدوا لك . . " من الكيد وهو الاحتيال الخفى بقصد الإِضرار والفعل كاد يتعدى بنفسه ، فيقال : كاده يكيده كيدا ، إذا احتال لإِهلاكه . ولتضمنه معنى احتال عدى باللام .
والمعنى : قال يعقوب لابنه يوسف - عليهما السلام - بشفقة ورحمة ، بعد أن سمع منه ما رآه في منامه : " يا بنى " لا تخبر إخوتك بما رأيته في منامك فإنك إن أخبرتهم بذلك احتالوا لإِهلاكك احتيالا خفيا ، لا قدرة لك على مقاومته أو دفعه . .
وإنما قال له ذلك ، لأن هذه الرؤيا تدل على أن الله - تعالى - سيعطى يوسف من فضله عطاء عظيما . ويهبه منصبا جليلا ، ومن شأن صاحب النعمة أن يكون محسودا من كثير من الناس ، فخاف يعقوب من حسد إخوة يوسف له ، إذا ما قص عليهم رؤياه ، ومن عدوانهم عليه .
والتنوين في قوله " كيدا " للتعظيم والتهويل ، زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم .
وجملة " إن الشيطان للإِنسان عدو مبين " واقعة موقع التعليل للنهى عن قص الرؤيا على إخوته ، وفيها إشارة إلى أن الشيطان هو الذي يغريهم بالكيد له إذا ما قص عليهم ما رآه ، وهو بذلك لا يثير في نفسه الكراهة لإِخوته .
أى : لا تخبر إخوتك بما رأيته في منامك ، فيحتالوا للإِضرار بك حسدا منهم لك ، وهذا الحسد يغرسه الشيطان في نفوس الناس ، لتتولد بينهم العداوة والبغضاء ، فيفرح هو بذلك ، إذ كل قبيح يقوله أو يفعله الناس يفرح له الشيطان .
هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاما منها :
أنه يجوز للإنسان في بعض الأوقات أن يخفى بعض النعم التي أنعم الله بها عليه ، خشية حسد الحاسدين ، أو عدوان المعتدين .
وأن الرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض عباده الذني زكت نفوسهم فيكشف لهم عما يريد أن يطلعهم عليه قبل وقوعه . ومن الأحاديث التي وردت في فضل الرؤيا الصالحة ما رواه البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - أنها قالت : " أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحى الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . . " .
وفى حديث آخر : " الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح ، جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " .
وفى حديث ثالث : " لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، وهى الرؤيا الصالحة للرجل الصالح ، يراها أو ترى له " .
كذلك أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء .
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : " والظاهر أن القوم - أى إخوة يوسف - كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل ، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء .
وهذا ما عليه الأكثرون سلفا وخلفا . أما السلف فإنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أو التابعين أنه قال بنبوتهم .
وأما الخلف فكثير منهم نفى عنهم أن يكونوا أنبياء ، وعلى رأى من قال بذلك الإِمام ابن تيمية ، في مؤلف له خاص بهذه المسألة ، وقد قال فيه :
الذى يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار ، أن إخوة يوسف ليسوا بأنبياء ، وليس في القرآن ولا في السنة ما يشير إلى أنهم كانوا أنبياء . . .
لهذا أدرك أبوه يعقوب بحسه وبصيرته أن وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام . لم يفصح هو عنه ، ولم يفصح عنه سياق القصة كذلك . ولا تظهر بوادره إلا بعد حلقتين منها . أما تمامه فلا يظهر إلا في نهاية القصة بعد انكشاف الغيب المحجوب . ولهذا نصحه بألا يقص رؤياه على إخوته ، خشية أن يستشعروا ما وراءها لأخيهم الصغير - غير الشقيق - فيجد الشيطان من هذا ثغرة في نفوسهم ، فتمتليء نفوسهم بالحقد ، فيدبروا له أمرا يسوؤه :
( قال : يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) . .
( إن الشيطان للإنسان عدو مبين ) . .
ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ، ويزين لهم الخطيئة والشر .
يقول تعالى مخبرًا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قَصّ عليه ما رأى من هذه الرؤيا ، التي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيما زائدًا ، بحيث يخرون له ساجدين إجلالا وإكراما واحتراما{[15062]} فخشي يعقوب ، عليه السلام ، أن يحدث بهذا المنام أحدا من إخوته فيحسدوه{[15063]} على ذلك ، فيبغوا له الغوائل ، حسدا منهم له ؛ ولهذا قال له : { لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا } أي : يحتالوا لك حيلةً يُرْدُونَك فيها . ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحوَّل إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحدًا ، فإنها لن تضره " {[15064]} . وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد ، وبعض أهل السنن ، من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعَبر ، فإذا عُبرت وقعت " {[15065]} ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث : " استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود " {[15066]}
{ قال يا بنيّ } تصغير ابن صغره للشفقة أو الصغر السن لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة . وقرأ حفص هنا وفي " الصافات " بفتح الياء . { لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا } فيحتالوا لإهلاكك حيلة ، فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته وفوقه على إخوته ، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، فرق بينهما بحر في التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك ، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه ، وإنما عدي كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به أكيدا ولذلك أكد بالمصدر وعله بقوله : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألو جهدا في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد .
تقتضي هذه الآية أن يعقوب عليه السلام كان يحس من بنيه حسد يوسف وبغضته ، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن يشعل بذلك غل صدورهم ، فيعملوا الحيلة على هلاكه ، ومن هنا ومن فعلهم بيوسف - الذي يأتي ذكره - يظهر أنهم لم يكونوا أنبياء في ذلك الوقت . ووقع في كتاب الطبري لابن زيد : أنهم كانوا أنبياء ؛ وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنياوي وعن عقوق الآباء وتعريض مؤمن للهلاك والتوافر في قتله .
ثم أعلمه : { إن الشيطان للإنسان عدو مبين } أي هو يدخلهم في ذلك ويحضهم عليه .
وأمال الكسائي { رؤياك } ، والرؤيا حيث وقعت وروي عنه : أنه لم يمل : { رؤياك } في هذه السورة وأمال الرؤيا حيث وقعت ، وقرأ «روياك » بغير همز - وهي لغة أهل الحجاز - ولم يملها الباقون حيث وقعت .
و «الرؤيا » مصدر كثر وقوعه على هذا المتخيل في النوم حتى جرى مجرى الأسماء كما فعلوا في الدر في قولهم : لله درك فخرجا من حكم عمل المصادر وكسروها رؤى بمنزلة ظلم ، والمصادر في أكثر الأمر لا تكسر{[6562]} .