ثم شرع - سبحانه - فى تفصيل موارد الاتقاء ومظانه ، فابتدأ بأحق الناس بالرحمة والمودة ، وهم اليتامى فقال - تعالى - : { وَآتُواْ . . . أَلاَّ تَعُولُواْ }
وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ( 2 ) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ( 3 )
والأمر فى قوله { وَآتُواْ } يتناول كل من له ولاية أو وصاية أو صله باليتيم ، كما يتناول الجماعة الإِسلامية بصفة عامة ، لكى تتكاتف وتتعاون على تمكين اليتيم من وصول حقه إليه بدون بخس أو مماطلة .
و { اليتامى } جمع يتيم وهو الصغير الذى مات أبوه ، مأخوذ من اليتم بمعنى الانفراد . ومنه الدرة اليتيمية .
قال صاحب الكشاف وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء ، إلا أنه قد غلب ان يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال ، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم ، وانتصبوا كفاة يكفلون غيرهم ويقومون عليهم ، زال عنهم هذا الاسم . وكانت قريش تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يتيم أبى طالب ؛ إما على القياس ، وإما حكاية للحال التى كان عليها صغيرا في حجر عمه . وأما قوله صلى الله عليه وسلم " لا يتم بعد الحلم " فهو تعليم شريعة لا لغة . أى أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار " .
والمراد باليتامى هنا الصغار ، والمراد بإيتائهم أموالهم حفظها لهم وعدم الطمع فى شىء منها لا من قبل الورثة ولا من قبل الأوصياء ولا من قبل غيرهم وعلى هذا المعنى يكون لفظ الإِيتاء قد أول بلازم معناه وهو الحفظ والرعاية لمال اليتامى ، لا تسليم المال إليهم لأنه من المعروف شرعا ألا يسلم المال إليهم إلا بعد البلوغ ، إذ هم فى حال الصغر لا يصلحون للتصرف .
ويكون هذا التعبير من باب الكناية بإطلاق اللازم - وهو الإِيتاء ، وإرادة الملزوم وهو الحفظ ، أو من باب المجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإِيتاء .
ويرى بعضهم أن المراد باليتامى هنا الكبار الذين أونس منهم الرشد وأن المراد بالإِيتاء دفع أموالهم إليهم على سبيل الحقيقة .
ويكون التعبير عنهم باليتامى - مع أنهم كبار - باعتبار ان اسم اليتيم يتناول لغة كل من فقد أباه ، أو باعتبار قرب عهدهم بالصغر ، أو باعتبار ما كان أى الذين كانوا يتامى . قالوا : وفى التعبير عنهم باليتامى مع أنهم كبار ، إشارة إلى وجوب المسارعة فى تسليم أموالهم إليهم متى أونس منهم الرشد ، حتى لكأن اسم اليتيم ما زال باقيا عليهم ، غير منفصل عنهم :
ويبدو لنا أن الرأى الأول أولى ، لأن الأمر بدفع أموال اليتامى إليهم . بعد بلوغهم قد جاء صريحا فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } فكان حمل الآية التى معنا على أن المراد باليتامى : الصغار ، وبإيتاء أموالهم حفظها لهم ، أولى وأقرب إلى المنطق ، لأنه على الرأى الأول يكون الأمر وما يذكر به تأسيسات أحكام ، وعلى الرأى الثانى يكون ما فى الآية الثانية مؤكدا لما فى الآية التى معنا .
ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك فى الآية التى معنا { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } - إنما هو تحذير للأوصياء والأولياء من الطمع فى مال اليتيم أو إضاعته ما دام المال فى أيديهم واليتيم فى حجرهم ، وهذا يؤيد هذا الرأى الأول القائل بن المراد باليتامى : الصغار ، وبإيتاء أموالهم : حفظها ورعايتها حتى تسلم إليهم عند بلوغهم كاملة غير منقوصة .
وقوله { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } معناه : لا تجعلوا ردىء المال لهم بدل الجيد ، بأن تأخذوا لأنفسكم كرائم الأموال ونفائسها ، وتتركوا لهم الخسيس منها .
قال القرطبى : وكانوا فى الجاهلية لعدم الدين لا يتحرجون عن أموال اليتامى فكانوا يأخذون الطيب من أموال اليتامى ويبدلونه بالردىء من أموالهم ويقولون اسم باسم ، ورأس برأس ، فنهاهم الله عن ذلك . وهذا قول سعيد بن المسيب والزهرى والسدى والضحاك وهو ظاهر الآية ، إذ التبديل جعل شىء بدل شىء " .
ويرى صاحب الكشاف أن المراد بالخبث : الحرام ، وبالطيب : الحلال فقد قالوا : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } أى : ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم وما ابيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث فى الأرض فتأكلوه مكانه ، أو لا تستبدلوا الأمر الخبث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها " .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } نهى آخر عن الاعتداء على أموال اليتامى عن طريق خلط أموال اليتامى بأموال الأوصياء ، و المراد من الأكل : مطلق الانتفاع والتصرف وخص الأكل بالذكر ، لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف .
والمعنى : ولا تضموا أيها الأوصياء أموال اليتامى إلى أموالكم في الإِنفاق فتأكلوها مع أموالكم ، وتسووا بينهما فى الانتفاع ، لأن أموالكم احل الله لكم أكلها ، أما أموال اليامى فقد جرم الله عليكم أكلها .
فالآية الكريمة صريحة فى النهى عن خلط مال اليتيم القاصر بمال الوصى عليه بقصد أكله ، لأن هذا لون من ألوان الاستيلاء المحرم على أموال اليتامى ، كما أنها تتضمن النهى عن خلط مال اليتيم بمال الوصى عليه ولو لم يقصد أكله ، لأن هذا الخلط قد يؤدى إلى ضياعه وعدم تميزه فقد يموت الوصى فلا يعرف مال اليتيم من ماله ، فيؤدى الأمر إلى أكله وإن لم يكن مقصودا ، ولذا قال الفقهاء : إذا مات الوصى على اليتيم مجهلاً مال اليتيم اعتبر مستهلكا له .
والخلاصة أن الآية الكريمة تحرم على الأولياء والأوصياء وغيرهم أن تصرفوا في أموال اليتامى أى تصرف يؤدى إلى الإِضرار بها ، بل عليهم أن يحفظوها لهم حتى يدفعوها إليهم سالمة عند البلوغ .
هذا ، وليس قيد " إلى أموالكم " محط النهى ، بل النهى واقع على أكل أموال اليتامى مطلقا ، سواء أكان للآكل مال يضم إليه مال اليتيم أم لم يكن .
ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء ، وأنهم يريدون من أكل أموال اليتامى التكثير أو توفير أموالهم ، جىء بهذا القيد رعاية لهذا الغالب ، وليكون ذمهم على جشعهم وضعف دينهم أشد وأشنع حيث أكلوا حقوق اليتامى مع أنهم فى غنى عنها بما رزهم الله من أموال .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم فلم ورد النهى عن أكله معها ؟ قلت : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال - وهم مع ذلك يطمعون فيها - كان القبح أبلغ والذم أحق ، ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } .
والحوب : اسم مصدر من حاب يحوب حوبا : إذا اكتسب إثما . يقال : فلان يتحوب أى يتأثم . والحوباء : النفس المرتكبة للإِثم . ويقال فى الدعاء : اللهم اغفر حوبتى ، أى إثمى ، وأصله الزجر للإبل ، فسمى الإِثم حوبا لأنه يزجر عنه وبه .
والضمير فى قوله { إِنَّهُ } يعود إلى أكل مال اليتيم بأى طريق محرم .
والمعنى : إن أكل مال اليتيم بأى طريقة من الطرق المحرمة كان إثما كبيراً ، وذنبا عظيما ، لأن هذا الأكل اعتداء على نفس ضعيفة فقدت من يعولها ومن يدافع عنها ، ومن اعتدى على نفس ضعيفة ، وضيع حقها ، وخان الأمانة كان مرتكبا لذنب عظيم يؤدى به إلى العقوبة والعذاب الأليم .
والجملة بمنزلة التعليل للنهى عن أكل مال اليتيم ، وعن الطمع بدون وجه حق فيها .
من هذا الافتتاح القوي المؤثر ، ومن هذه الحقائق الفطرية البسيطة ، ومن هذا الأصل الأساسي الكبير ، يأخذ في إقامة الأسس التي ينهض عليها نظام المجتمع وحياته : من التكافل في الأسرة والجماعة ، والرعاية لحقوق الضعاف فيها ، والصيانة لحق المرأة وكرامتها ، والمحافظة على أموال الجماعة في عمومها ، وتوزيع الميراث على الورثة بنظام يكفل العدل للأفراد والصلاح للمجتمع . .
ويبدأ فيأمر الأوصياء على اليتامى أن يردوا لهم أموالهم كاملة سالمة متى بلغوا سن الرشد . وألا ينكحوا القاصرات اللواتي تحت وصايتهم طمعا في أموالهن . أما السفهاء الذي يخشى من اتلافهم للمال ، إذا هم تسلموه ، فلا يعطى لهم المال ، لأنه في حقيقته مال الجماعة ، ولها فيه قيام ومصلحة ، فلا يجوز أن تسلمه لمن يفسد فيه ، وأن يراعوا العدل والمعروف في عشرتهم للنساء عامة .
وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم . إنه كان حوبا كبيرا . وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم ، ذلك أدنى ألا تعولوا . وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ، فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا . ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ، وارزقوهم فيها واكسوهم ، وقولوا لهم قولا معروفا . وابتلوا اليتامى ، حتى إذا بلغوا النكاح ، فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ، ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا . ومن كان غنيا فليستعفف ، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف . فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ، وكفى بالله حسيبا . .
وتشي هذه التوصيات المشددة - كما قلنا - بما كان واقعا في الجاهلية العربية من تضييع لحقوق الضعاف بصفة عامة . والأيتام والنساء بصفة خاصة . . هذه الرواسب التي ظلت باقية في المجتمع المسلم - المقتطع أصلا من المجتمع الجاهلي - حتى جاء القرآن يذيبها ويزيلها ، وينشىء في الجماعة المسلمة تصورات جديدة ، ومشاعر جديدة ، وعرفا جديدا ، وملامح جديدة .
( وآتوا اليتامى أموالهم ، ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ، إنه كان حوبا كبيرا ) . .
أعطوا اليتامى أموالهم التي تحت أيديكم ، ولا تعطوهم الرديء في مقابل الجيد . كأن تأخذوا أرضهم الجيدة ، وتبدلوهم منها من أرضكم الرديئة ، أو ماشيتهم ، أو أسهمهم ، أو نقودهم - وفي النقد الجيد ذو القيمة العالية والرديء ذو القيمة الهابطة - أو أي نوع من أنواع المال ، فيه الجيد وفيه الرديء . . وكذلك لا تأكلوا أموالهم بضمها إلى أموالكم ، كلها أو بعضها . . إن ذلك كله كان ذنبا كبيرا . والله يحذركم من هذا الذنب الكبير . .
فلقد كان هذا كله يقع إذن في البيئة التي خوطبت بهذه الآية أول مرة . فالخطاب يشي بأنه كان موجها إلى مخاطبين فيهم من تقع منه هذه الأمور . وهي أثر مصاحب من آثار الجاهلية . . وفي كل جاهلية يقع مثل هذا . ونحن نرى أمثاله في جاهليتنا الحاضرة في المدن والقرى . وما تزال أموال اليتامى تؤكل بشتى الطرق ،
وشتى الحيل ، من أكثر الأوصياء ، على الرغم من كل الاحتياطات القانونية ، ومن رقابة الهيئات الحكومية المخصصة للإشراف على أموال القصر . فهذه المسألة لا تفلح فيها التشريعات القانوينة ، ولا الرقابة الظاهرية . . كلا لا يفلح فيها إلا أمر واحد . . التقوى . . فهي التي تكفل الرقابة الداخلية على الضمائر ، فتصبح للتشريع قيمته وأثره . كما وقع بعد نزول هذه الآية ، إذ بلغ التحرج من الأوصياء أن يعزلوا مال اليتيم عن مالهم ، ويعزلوا طعامه عن طعامهم ، مبالغة في التحرج والتوقي من الوقوع في الذنب العظيم ، الذي حذرهم الله منه وهو يقول : ( إنه كان حوبا كبيرا ) . .
إن هذه الأرض لا تصلح بالتشريعات والتنظيمات . ما لم يكن هناك رقابة من التقوى في الضمير لتنفيذ التشريعات والتنظيمات . . وهذه التقوى لا تجيش - تجاه التشريعات والتنظيمات - إلا حين تكون صادرة من الجهة المطلعة على السرائر ، الرقيبة على الضمائر . . عندئذ يحس الفرد - وهو يهم بانتهاك حرمة القانون - أنه يخون الله ، ويعصي أمره ، ويصادم إرادته ؛ وأن الله مطلع على نيته هذه وعلى فعله . . وعندئذ تتزلزل أقدامه ، وترتجف مفاصله ، وتجيش تقواه . .
إن الله أعلم بعباده ، وأعرف بفطرتهم ، وأخبر بتكوينهم النفسي والعصبي - وهو خلقهم - ومن ثم جعل التشريع تشريعه ، والقانون قانونه ، والنظام نظامه ، والمنهج منهجه ، ليكون له في القلوب وزنه وأثره ومخافته ومهابته . . وقد علم - سبحانه - أنه لا يطاع أبدا شرع لا يرتكن إلى هذه الجهة التي تخشاها وترجوها القلوب ، وتعرف أنها مطلعة على خفايا السرائر وخبايا القلوب . وأنه مهما أطاع العبيد تشريع العبيد ، تحت تأثير البطش والإرهاب ، والرقابة الظاهرية التي لا تطلع على الأفئدة ، فإنهم لا بد متفلتون منها كلما غافلوا الرقابة ، وكلما واتتهم الحيلة . مع شعورهم دائما بالقهر والكبت والتهيؤ للانتقاض . .
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } قال سفيان الثوري ، عن أبي صالح : لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك .
وقال سعيد بن جبير : لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام .
وقال سعيد بن المسيّب والزهري : لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا .
وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك : لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا .
وقال السُّدِّي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم ، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة ، ويقول{[6531]} شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف ، ويقول : درهم بدرهم .
وقوله : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبَيْر ، ومقاتل بن حَيَّان ، والسّدي ، وسفيان بن حُسَين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا .
وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } قال ابن عباس : أي إثمًا كبيرًا عظيما .
وقد رواه ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة قال : سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { حُوبًا كَبِيرًا } قال : " إثما كبيرًا " . ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف{[6532]} وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس .
وفي الحديث المروي في سنن أبي داود : " اغفر لنا حوبنا وخطايانا " .
وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل ، مولى أبي عيينة ، عن محمد بن سِيرِين ، عن ابن عباس : أن أبا أيوب طَلَّق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا أيوب ، إن طلاق أم أيوب كان حوبا " قال{[6533]} ابن سيرين : الحوب الإثم{[6534]} .
ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا بشر بن موسى ، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة ، أخبرنا عَوْف ، عن أنس : أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها " {[6535]} ثم رواه{[6536]} ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم ، عن حُمَيد الطويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن طلاق أم سليم لحوب " فكف{[6537]} .
والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه .
وآتوا اليتامى أموالهم أي إذا بلغوا ، واليتامى جمع يتيم وهو الذي مات أبوه ، من اليتم وهو الانفراد . ومنه الدرة اليتيمة ، إما على أنه لما جرى مجرى الأسماء كفارس وصاحب جمع على يتائم ، ثم قلب فقيل يتامى أو على أنه جمع على يتمي كأسرى لأنه من باب الآفات . ثم جمع يتمي على يتامى كأسري وأسارى ، والاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار والكبار ، لكن العرف خصصه بمن لم يبلغ . وروده في الآية إما للبلغ على الأصل أو الاتساع لقرب عهدهم بالصغر ، حثا على أن يدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم قبل أن يزول نهم هذا الاسم إن أونس منهم الرشد ، ولذلك أمر بابتلائهم صغارا أو لغير البلغ والحكم مقيد فكأنه قال ؛ وآتوهم إذا بلغوا . ويؤيد الأول ما روي : أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال منه فمنعه فنزلت . فلما سمعها العم قال : أطعنا الله ورسوله نعوذ بالله من الحوب الكبير . { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } ولا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث وهو اختزال أموالهم بالأمر الطيب الذي هو حفظها . وقيل ولا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها ، وهذا تبديل وليس بتبدل . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ، أي لا تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما ، وهذا حلال وذاك حرام وهو فيما زاد على قدر أجره لقوله تعالى : { فليأكل بالمعروف } { إنه } الضمير للأكل . { كان حوبا كبيرا } ذنبا عظيما . وقرئ حوبا وهو مصدر حاب { حوبا } وحابا كقال قولا وقالا .