ثم بين - سبحانه - بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } .
وقوله : { كُلَّ } منصوب بفعل يفسره ما بعده ، والقدر : ما قدره الله - تعالى - على عباده ، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته .
أى : إنا خلقنا كل شىء فى هذا الكون ، بتقدير حكيم ، وبعلم شامل ، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب ، كما قال - تعالى - : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } وكما قال - سبحانه - : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } وكما قال - عز وجل - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة ، على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه بالأشياء قبل كونها . وردوا بهذه الآية وبما شاكلها ، وبما ورد فى معناها من أحاديث على الفرقة القدرية ، الذين ظهروا فى أواخر عصر الصحابة .
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذى وابن ماجه عن ابى هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
والباء فى قوله { بِقَدَرٍ } للملابسة . أى : خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم ، اقتضته سنتنا ومشيئتنا فى وقت لا يعلمه أحد سوانا .
وفي ظل هذا المشهد المروع المزلزل يتجه بالبيان إلى الناس كافة ، وإلى القوم خاصة . ليقر في قلوبهم حقيقة قدر الله وحكمته وتدبيره . .
إن ذلك الأخذ في الدنيا ، وهذا العذاب في الآخرة . وما كان قبلهما من رسالات ونذر ، ومن قرآن وزبر . وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود . .
إن ذلك كله ، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر ، مصرفة بقصد ، مدبرة بحكمة . لا شيء جزاف . لا شيء عبث . لا شيء مصادفة . لا شيء ارتجال :
كل شيء . . كل صغير وكل كبير . كل ناطق وكل صامت . كل متحرك وكل ساكن . كل ماض وكل حاضر . كل معلوم وكل مجهول . كل شيء . . خلقناه بقدر . .
قدر يحدد حقيقته . ويحدد صفته . ويحدد مقداره . ويحدد زمانه . ويحدد مكانه . ويحدد ارتباطه بسائر ما حوله من أشياء . وتأثيره في كيان هذا الوجود .
وإن هذا النص القرآني القصير اليسير ليشير إلى حقيقة ضخمة هائلة شاملة ، مصداقها هذا الوجود كله . حقيقة يدركها القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود ، ويتجاوب معه ، ويتلقى عنه ، ويحس أنه خليقة متناسقة تناسقا دقيقا . كل شيء فيه بقدر يحقق هذا التناسق المطلق ، الذي ينطبع ظله في القلب جملة وهو يواجه هذا الوجود .
ثم يبلغ البحث والرؤية والتجربة من إدراك هذه الحقيقة القدر الذي تهيئه هذه الوسائل ، ويطيقه العقل البشري ، ويملك معرفته عن هذا الطريق . ووراء هذا القدر يبقى دائما ما هو أعظم وأكمل ، تدركه الفطرة وينطبع فيها بتأثير الإيقاع الكوني المتناسق فيها ، وهي ذاتها بعض هذا الكون المتناسق المخلوق كل شيء فيه بقدر .
ولقد وصل العلم الحديث إلى أطراف من هذه الحقيقة ، فيما يملك أن يدركه منها بوسائله المهيئة له . . وصل في إدراك التناسق بين أبعاد النجوم والكواكب وأحجامها وكتلها وجاذبيتها بعضها لبعض إلى حد أن يحدد العلماء مواقع كواكب لم يروها بعد ؛ لأن التناسق يقتضي وجودها في المواضع التي حددوها . فوجودها في هذه المواقع هو الذي يفسر ظواهر معينة في حركة الكواكب التي رصدوها . . ثم يتحقق هذا الذي فرضوه . ويدل تحقيقه على الدقة المتناهية في توزيع هذه الأجرام ، في هذا الفضاء الهائل ، بهذه النسب المقدرة ، التي لا يتناولها خلل أو اضطراب !
ووصل في إدراك التناسق في وضع هذه الأرض التي نعيش عليها ، لتكون صالحة لنوع الحياة التي قدر الله أن تكون فيها إلى حد أن افتراض أي اختلال في أية نسبة من نسبها يودي بهذه الحياة كلها ، أو لا يسمح أصلا بقيامها . فحجم هذه الأرض ، وكتلتها ، وبعدها عن الشمس . وكتلة هذه الشمس ، ودرجة حرارتها . وميل الأرض على محورها بهذا القدر ، وسرعتها في دورتها حول نفسها وحول الشمس . وبعد القمر عن الأرض . وحجمه وكتلته . وتوزيع الماء واليابس في هذه الأرض . . . إلى آلاف من هذه النسب المقدرة تقديرا ، لو وقع الاختلال في أي منها لتبدل كل شيء ؛ ولكانت هي النهاية المقدرة لعمر هذه الحياة على هذه الأرض !
ووصل في إدراك التناسق بين عدد كبير من الضوابط التي تضبط الحياة ؛ وتنسق بين الأحياء والظروف المحيطة بها ؛ وبين بعضها وبعض . . إلى حد يعطي فكرة عن تلك الحقيقة العميقة الكبيرة التي تشير إليها الآية . فالنسبة بين عوامل الحياة والبقاء وعوامل الموت والفناء في البيئة وفي طبيعة الأحياء محفوظة دائما بالقدر الذي يسمح بنشأة الحياة وبقائها وامتدادها . وفي الوقت ذاته يحد من انتشارها إلى الحد الذي لا تكفي الظروف المهيأة للأحياء ، في وقت ما ، لإعالتهم وإعاشتهم !
ولعله من المفيد أن نشير إشارة سريعة إلى شيء من هذا التوازن في علاقات بعض الأحياء ببعض . إذ كنا قد أشرنا بشيء من التفصيل في سور أخرى إلى التناسق في بناء الكون ، وفي ظروف الأرض . .
" إن الجوارح التي تتغذى بصغار الطيور قليلة العدد ، لأنها قليلة البيض ، قليلة التفريخ ، فضلا على أنها لا تعيش إلا في مواطن خاصة محدودة . وهي في مقابل هذا طويلة الأعمار . ولو كانت مع عمرها الطويل ، كثيرة الفراخ مستطيعة الحياة في كل موطن ، لقضت على صغار الطيور وأفنتها على كثرتها وكثرة تفريخها . أو قللت من أعدادها الكبيرة اللازمة بدورها لطعام هذه الجوارح وسواها من بني الإنسان ، وللقيام بأدوارها الأخرى ، ووظائفها الكثيرة في هذه الأرض !
بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مقلات نزور
وذلك للحكمة التي قدرها الله كما رأينا ، كي تتعادل عوامل البقاء وعوامل الفناء بين الجوارح والبغاث !
والذبابة تبيض ملايين البويضات . ولكنها لا تعيش إلا أسبوعين . ولو كانت تعيش بضعة أعوام ، تبيض فيها بهذه النسبة لغطى الذباب وجه الأرض بنتاجه ؛ ولغدت حياة كثير من الأجناس - وأولها الإنسان - مستحيلة على وجه هذه الأرض . ولكن عجلة التوازن التي لا تختل ، في يد القدرة التي تدبر هذا الكون ، وازنت بين كثرة النسل وقصر العمر فكان هذا الذي نراه !
والميكروبات - وهي أكثر الأحياء عددا ، وأسرعها تكاثرا ، وأشدها فتكا - هي كذلك أضعف الأحياء مقاومة وأقصرها عمرا . تموت بملايين الملايين من البرد ، ومن الحر ، ومن الضوء ، ومن أحماض المعدات ، ومن أمصال الدم ، ومن عوامل أخرى كثيرة . ولا تتغلب إلا على عدد محدود من الحيوان والإنسان . ولو كانت قوية المقاومة أو طويلة العمر لدمرت الحياة والأحياء !
وكل حي من الأحياء مزود بسلاح يتقي به هجمات أعدائه ويغالب به خطر الفناء . وتختلف هذه الأسلحة وتتنوع . فكثرة العدد سلاح . وقوة البطش سلاح . وبينهما ألوان وأنواع . .
الحيات الصغيرة مزودة بالسم أو بالسرعة للهرب من أعدائها . والثعابين الكبيرة مزودة بقوة العضل ، ومن ثم يندر فيها السام !
والخنفساء - وهي قليلة الحيلة - مزودة بمادة كاوية ذات رائحة كريهة ، تصبها على كل من يلمسها ، وقاية من الأعداء !
والظباء مزودة بسرعة الجري والقفز ، والأسود مزودة بقوة البأس والافتراس !
وهكذا كل حي من الأحياء الصغار والكبار على السواء .
وكل حي مزود كذلك بالخصائص والوسائل التي يحصل بها على طعامه ، والتي ينتفع معها بهذا اللون من الطعام . . الإنسان والحيوان والطير وأدنأ أنواع الأحياء سواء . .
البويضة بعد تلقيحها بالحيوان المنوي تلصق بالرحم . وهي مزودة بخاصية أكالة ، تمزق جدار الرحم حولها وتحوله إلى بركة من الدم المناسب لامتصاصها ونموها ! والحبل السري الذي يربط الجنين بأمه ليتغذى منها حتى يتم وضعه ، روعي في تكوينه ما يحقق الغرض الذي تكون من أجله ، دون إطالة قد تسبب تخمر الغذاء فيه ، أو قصر قد يؤدي إلى اندفاع الغذاء اليه بما قد يؤذيه " .
" والثدي يفرز في نهاية الحمل وبدء الوضع سائلا أبيض مائلا إلى الاصفرار . ومن عجيب صنع الله أن هذا السائل عبارة عن مواد كيماوية ذائبة تقي الطفل من عدوى الأمراض . وفي اليوم التالي للميلاد يبدأ اللبن في التكوين . ومن تدبير المدبر الأعظم أن يزداد مقدار اللبن الذي يفرزه الثدي يوما بعد يوم ، حتى يصل إلى حوالي ليتر ونصف في اليوم بعد سنة ، بينما لا تزيد كميته في الأيام الأولى على بضع أوقيات . ولا يقف الإعجاز عند كمية اللبن التي تزيد على حسب زيادة الطفل ؛ بل إن تركيب اللبن كذلك تتغير مكوناته ، وتتركز مواده ، فهو يكاد يكون ماء به القليل من النشويات والسكريات في أول الأمر ، ثم تتركز مكوناته فتزيد نسبته النشوية والسكرية والدهنية فترة بعد أخرى ، بل يوما بعد يوم بما يوافق أنسجة وأجهزة الطفل المستمر النمو " .
وتتبع الأجهزة المختلفة في تكوين الإنسان ، ووظائفها ، وطريقة عملها ، ودور كل منها في المحافظة على حياته وصحته . . يكشف عن العجب العجاب في دقة التقدير وكمال التدبير . ويرينا يد الله وهي تدبر أمر كل فرد . بل كل عضو . بل كل خلية من خلاياه . وعين الله عليه تكلؤه وترعاه . ولن نستطيع هنا أن نفصل هذه العجائب فنكتفي بإشارة سريعة إلى التقدير الدقيق في جهاز واحد من هذه الأجهزة . جهاز الغدد الصم " تلك المعامل الكيماوية الصغيرة التي تمد الجسم بالتركيبات الكيماوية الضرورية ، والتي يبلغ من قوتها أن جزءا من ألف بليون جزء منها تحدث آثارا خطيرة في جسم الإنسان . وهي مرتبة بحيث أن إفراز كل غدة يكمل إفراز الغدة الأخرى . وكل ما كان يعرف عن هذه الإفرازات أنها معقدة التركيب تعقيدا مدهشا ، وأن أي اختلال في إفرازها يسبب تلفا عاما في الجسم ، يبلغ حد الخطورة . إذا دام هذا الاختلال وقتا قصيرا .
أما الحيوان فتختلف أجهزته باختلاف أنواعه وبيئاته وملابسات حياته . .
" زودت أفواه الآساد والنمور والذئاب والضباع ، وكل الحيوانات الكاسرة التي تعيش في الفلاة ، ولا غذاء لها إلا ما تفترسه من كائنات لا بد من مهاجمتها ، والتغلب عليها ، بأنياب قاطعة ، وأسنان حادة ، وأضراس صلبة . ولما كانت في هجومها لا بد أن تستعمل عضلاتها ، فلأرجلها عضلات قوية ، سلحت بأظافر ومخالب حادة ، وحوت معدتها الأحماض والأنزيمات الهاضمة للحوم والعظام .
فأما الحيوانات المجترة المستأنسة التي تعيش على المراعي ، فهي تختلف فيما زودت به .
" وقد صممت أجهزتها الهاضمة بما يتناسب مع البيئة ، فأفواهها واسعة نسبيا ؛ وقد تجردت من الأنياب القوية والأضراس الصلبة . وبدلا منها توجد الأسنان التي تتميز بأنها قاصمة قاطعة ؛ فهي تأكل الحشائش والنباتات بسرعة ، وتبتلعها كذلك دفعة واحدة ، حتى يمكنها أن تؤدي للإنسان ما خلقت لأجله من خدمات . وقد أوجدت العناية الخالقة لهذا الصنف أعجب أجهزة للهضم ، فالطعام الذي تأكله ينزل إلى الكرش ، وهو مخزن له ، فإذا ما انتهى عمل الحيوان اليومي وجلس للراحة ، يذهب الطعام إلى تجويف يسمى [ القلنسوة ] . ثم يرجع إلى الفم ، فيمضغ ثانية مضغا جيدا ، حيث يذهب إلى تجويف ثالث يسمى [ أم التلافيف ] ، ثم إلى رابع يسمى [ الإنفحة ] وكل هذه العملية الطويلة أعدت لحماية الحيوان ، إذ كثيرا ما يكون هدفا لهجوم حيوانات كاسرة في المراعي ، فوجب عليه أن يحصل على غذائه بسرعة ويختفي . ويقول العلم إن عملية الاجترار ضرورية بل وحيوية ، إذ أن العشب من النباتات العسرة الهضم ، لما يحتويه من السليلوز الذي يغلف جميع الخلايا النباتية ، ولهضمه يحتاج الحيوان إلى وقت طويل جدا ، فلو لم يكن مجترا ، وبمعدته مخزن خاص ، لضاع وقت طويل في الرعي ، يكاد يكون يوما بأكمله ، دون أن يحصل الحيوان على كفايته من الغذاء ، ولأجهد العضلات في عمليات التناول والمضغ . إنما سرعة الأكل ، ثم تخزينه وإعادته بعد أن يصيب شيئا من التخمر ، ليبدأ المضغ والطحن والبلع ، تحقق كافة أغراض الحيوان من عمل وغذاء وحسن هضم . فسبحان المدبر .
والطيور الجارحة كالبوم والحدأة ذات منقار مقوس حاد على شكل خطاف لتمزيق اللحوم . بينما للإوز والبط مناقير عريضة منبسطة مفلطحة كالمغرفة ، توائم البحث عن الغذاء في الطين والماء . وعلى جانب المنقارزوائد صغيرة كالأسنان لتساعد على قطع الحشائش .
أما الدجاج والحمام وباقي الطيور التي تلتقط الحب من الأرض فمناقيرها قصيرة مدببة لتؤدي هذا الغرض . بينما منقار البجعة مثلا طويل طولا ملحوظا ، ويمتد من أسفله كيس يشبه الجراب ليكون كشبكة الصياد . إذ أن السمك هو غذاء البجعة الأساسي .
ومنقار الهدهد وأبو قردان طويل مدبب ، أعد بإتقان للبحث عن الحشرات والديدان ، التي غالبا ما تكون تحت سطح الأرض . ويقول العلم : إنه يمكن للإنسان أن يعرف غذاء أي طير من النظرة العابرة إلى منقاره .
أما باقي الجهاز الهضمي للطير فهو غريب عجيب . فلما لم يعط أسنانا فقد خلقت له حوصلة وقانصة تهضم الطعام . ويلتقط الطير مواد صلبة وحصى لتساعد القانصة على هضم الطعام .
ويطول بنا الاستعراض ، ونخرج على منهج هذه الظلال ، لو رحنا نتتبع الأنواع والأجناس الحية على هذا النحو ، فنسرع الخطى إلى [ الإميبا ] وهي ذات الخلية الواحدة ، لنرى يد الله معها ، وعينه عليها ، وهو يقدر لها أمرها تقديرا .
[ والإميبا كائن حي دقيق الحجم . يعيش في البرك والمستنقعات ، أو على الأحجار الراسبة في القاع . ولا يرى بالعين إطلاقا . وهو يرى بالمجاهر ، كتلة هلامية ، يتغير شكلها بتغير الظروف والحاجات . فعندما تتحرك تدفع بأجزاء من جسمها تكون به زوائد ، تستعملها كالأقدام ، للسير بها إلى المكان المرغوب . ولذا تسمى هذه الزوائد بالأقدام الكاذبة . وإذا وجدت غذاء لها أمسكت به بزائدة أو زائدتين ، وتفرز عليه عصارة هاضمة ، فتتغذى بالمفيد منها ، أما الباقي فتطرده من جسمها ! وهي تتنفس من كل جسمها بأخذ الأكسوجين من الماء . . فتصور هذا الكائن الذي لا يرى إطلاقا بالعين ، يعيش ويتحرك ، ويتغذى ويتنفس ، ويخرج فضلاته ! فإذا ما تم نموه انقسم إلى قسمين ، ليكون كل قسم حيوانا جديدا ] . .
وعجائب الحياة في النبات لا تقل في إثارة العجب والدهشة عن عجائبها في الإنسان والحيوان والطير والتقدير فيها لا يقل ظهورا وبروزا عنه في تلك الأحياء . ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) . .
على أن الأمر أعظم من هذا كله وأشمل في التقدير والتدبير . إن حركة هذا الكون كله بأحداثها ووقائعها وتياراتها مقدرة مدبرة صغيرها وكبيرها . كل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس فرد ، ككل نفس يخرج من صدر ! إن هذا النفس مقدر في وقته ، مقدر في مكانه ، مقدر في ظروفه كلها ، مرتبط بنظام الوجود وحركة الكون ، محسوب حسابه في التناسق الكوني ، كالأحداث العظام الضخام !
وهذا العود البري النابت وحده هناك في الصحراء . . إنه هو الآخر قائم هناك بقدر . وهو يؤدي وظيفة ترتبط بالوجود كله منذ كان ! وهذه النملة الساربة وهذه الهباءة الطائرة . وهذه الخلية السابحة في الماء . كالأفلاك والأجرام الهائلة سواء !
تقدير في الزمان ، وتقدير في المكان ، وتقدير في المقدار ، وتقدير في الصورة . وتناسق مطلق بين جميع الملابسات والأحوال .
من ذا الذي يذكر مثلا أن زواج يعقوب من امرأة أخرى هي أم يوسف وبنيامين أخيه ، لم يكن حادثا شخصيا فرديا . . إنما كان قدرا مقدورا ليحقد إخوة يوسف من غير أمه عليه ، فيأخذوه فيلقوه في الجب - ولا يقتلوه - لتلتقطه السيارة . لتبيعه . في مصر . لينشأ في قصر العزيز . لتراوده امرأة العزيز عن نفسه . ليستعلي على الإغراء . ليلقى في السجن . . لماذا ? ليتلاقى في السجن مع خادمي الملك . ليفسر لهما الرؤيا . . لماذا ? إلى تلك اللحظة لا يوجد جواب ! ويقف ناس من الناس يسألون : لماذا ? لماذا يا رب يتعذب يوسف ? لماذا يا رب يتعذب يعقوب ? لماذا يفقد هذا النبي بصره من الحزن ? ولماذا يسام يوسف الطيب الزكي كل هذا الألم ، المنوع الأشكال ? لماذا ? . . ولأول مرة تجيء أول إجابة بعد أكثر من ربع قرن في العذاب ، لأن القدر يعده ليتولى أمر مصر وشعبها والشعوب المجاورة في سني القحط السبعة ! ثم ماذا ? ثم ليستقدم أبويه وإخوته . ليكون من نسلهم شعب بني إسرائيل . ليضطهدهم فرعون . لينشأ من بينهم موسى - وما صاحب حياته من تقدير وتدبير - لتنشأ من وراء ذلك كله قضايا وأحداث وتيارات يعيش العالم فيها اليوم بكليته ! وتؤثر في مجرى حياة العالم جميعه !
ومن ذا الذي يذكر مثلا أن زواج إبراهيم جد يعقوب من هاجر المصرية لم يكن حادثا شخصيا فرديا . إنما كان وما سبقه في حياة إبراهيم من أحداث أدت إلى مغادرته موطنه في العراق ومروره بمصر ، ليأخذ منها هاجر ، لتلد له إسماعيل . ليسكن إسماعيل وأمه عند البيت المحرم . لينشأ محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من نسل إبراهيم - عليه السلام - في هذه الجزيرة . أصلح مكان على وجه الأرض لرسالة الإسلام . . ليكون من ذلك كله ذلك الحدث الأكبر في تاريخ البشرية العام !
إنه قدر الله وراء طرف الخيط البعيد . لكل حادث . ولكل نشأة . ولكل مصير . ووراء كل نقطة ، وكل خطوة ، وكل تبديل أو تغيير .
إنه قدر الله النافذ ، الشامل ، الدقيق ، العميق .
وأحيانا يرى البشر طرف الخيط القريب ولا يرون طرفه البعيد . وأحيانا يتطاول الزمن بين المبدأ والمصير في عمرهم القصير ، فتخفى عليهم حكمة التدبير . فيستعجلون ويقترحون . وقد يسخطون . أو يتطاولون !
والله يعلمهم في هذا القرآن أن كل شيء بقدر ليسلموا الأمر لصاحب الأمر ، وتطمئن قلوبهم وتستريح ويسيروا مع قدر الله في توافق وفي تناسق ، وفي أنس بصحبة القدر في خطوه المطمئن الثابت الوثيق . .
وقوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [ الفرقان : 2 ] وكقوله : { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 1 - 3 ] أي : قدر قدرا ، وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قَدَر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها وكتابته لها قبل برئها ، وردّوا بهذه الآية وبما {[27800]} شاكلها من الآيات ، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات على الفرْقة القَدرية الذين نبغوا {[27801]} في أواخر عصر الصحابة . وقد تكلمنا على هذا المقام مفصلا وما ورد فيه من الأحاديث في شرح " كتاب الإيمان " من " صحيح البخاري " رحمه الله ، ولنذكر هاهنا الأحاديث المتعلقة بهذه الآية الكريمة :
قال أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان الثوري ، عن زياد بن إسماعيل السهمي ، عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن أبي هُرَيرَة قال : جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } .
وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه ، من حديث وكيع ، عن سفيان الثوري ، به {[27802]} .
وقال البزار : حدثنا عمرو بن على ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا يونس بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : ما نزلت هذه الآيات : { إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، إلا في أهل القدر{[27803]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سهل{[27804]} بن صالح الأنطاكي ، حدثني قُرَّة بن حبيب ، عن كنانة حدثنا جرير بن حازم ، عن سعيد بن عمرو بن جَعْدَةَ ، عن ابن زُرَارة ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلا هذه الآية : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، قال : " نزلت في أناس من أمتي يكونون في آخر الزمان يكذبون بقدر الله " {[27805]} .
وحدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا مَرْوان بن شجاع الجزَري ، عن عبد الملك بن جُرَيْج ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، قال : أتيت ابن عباس وهو يَنزع من زمزم ، وقد ابتلّت أسافل ثيابه ، فقلت له : قد تُكُلّم في القدر . فقال : أو [ قد ] {[27806]} فعلوها ؟ قلت : نعم . قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلا فيهم : { ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ . إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تُصَلّوا على موتاهم ، إن رأيت أحدا منهم فقأت عينيه بأصبعيّ هاتين .
وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر ، وفيه مرفوع ، فقال :
حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا الأوزاعي ، عن بعض إخوته ، عن محمد بن عُبَيد المكي ، عن عبد الله بن عباس ، قال : قيل له : إن رجلا قدم علينا يُكَذّب بالقدر فقال : دلوني عليه - وهو أعمى - قالوا : وما تصنع به يا أبا عباس قال : والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه لأعضَّنّ أنفه حتى أقطعه ، ولئن وقعت رقبته في يدي لأدقنها ، فإني{[27807]} سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كأني بنساء بني فِهْر يَطُفْنَ بالخزرج ، تصطفق ألياتهن مشركات ، هذا أول شرك هذه الأمة ، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قَدّر خيرا ، كما أخرجوه من أن يكون قدر شرا " {[27808]} .
ثم رواه أحمد عن أبي المغيرة ، عن الأوزاعي ، عن العلاء بن الحجاج ، عن محمد بن عبيد ، فذكر مثله{[27809]} . لم يخرجوه .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، حدثنا سعيد بن أبي أيوب ، حدثني أبو صخر ، عن نافع قال : كان لابن عمر صديق من أهل الشام يكاتبه{[27810]} ، فكتب إليه عبد الله بن عمر : إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر ، فإياك أن تكتب إليّ ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر " .
رواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، به{[27811]} .
وقال أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة ، عن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذين يقولون : لا قدر . إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " {[27812]} .
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه .
وقال أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا رِشْدِين ، عن أبي صخر حُمَيد بن زياد ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سيكون في هذه الأمة مسخ ، ألا وذاك في المكذبين بالقدر والزنديقية " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث أبي صخر حميد بن زياد ، به {[27813]} . وقال الترمذي : حسن صحيح غريب .
وقال أحمد : حدثنا إسحاق بن الطباع ، أخبرني مالك ، عن زياد بن سعد ، عن عمرو بن مسلم ، عن طاوس اليماني قال : سمعت ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل شيء بقدرن حتى العجز والكيس " .
ورواه مسلم منفردا به ، من حديث مالك {[27814]} {[27815]} .
وفي الحديث الصحيح : " استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قَدَّرُ الله وما شاء فعل ، ولا تقل : لو أني فعلت لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " {[27816]} .
وفي حديث ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء ، لم يكتبه الله لك ، لم ينفعوك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يكتبه الله عليك ، لم يضروك . جفّت الأقلام وطويت الصحف " {[27817]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار ، حدثنا الليث{[27818]} ، عن معاوية ، عن أيوب بن زياد ، حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة ، حدثني أبي قال : دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه ، أوصني واجتهد لي . فقال : أجلسوني . فلما أجلسوه قال : يا بني ، إنك لما تطعم طعم الإيمان ، ولم تبلغ حق حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره . قلت : يا أبتاه ، وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك . يا بني ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم . ثم قال له : اكتب . فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " يا بني ، إن متَّ ولستَ على ذلك دخلت النار{[27819]} .
ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى البَلْخِي ، عن أبي داود الطيالسي ، عن عبد الواحد بن سليم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به . وقال : حسن صحيح غريب{[27820]} .
وقال سفيان الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعِي بن خِرَاش ، عن رجل ، عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، بعثني بالحق ، ويؤمن بالموت ، ويؤمن بالبعث بعد الموت ، ويؤمن بالقدر خيره وشره " .
وكذا رواه الترمذي من حديث النضر بن شُمَيْل ، عن شعبة ، عن منصور ، به {[27821]} . ورواه من حديث أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن {[27822]} منصور ، عن ربعي ، عن علي ، فذكره وقال : " هذا عندي أصح " . وكذا رواه ابن ماجه من حديث شريك ، عن منصور ، عن ربعي ، عن علي ، به {[27823]} .
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره ، عن أبي{[27824]} هانئ الخولاني ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " زاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [ هود : 7 ] . ورواه الترمذي وقال : حسن صحيح غريب{[27825]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} يقول: قدر الله لهم العذاب ودخول سقر...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ "يقول تعالى ذكره: إنا خلقنا كل شيء بمقدار قدّرناه وقضيناه، وفي هذا بيان، أن الله جلّ ثناؤه، توعّد هؤلاء المجرمين على تكذيبهم في القدر مع كفرهم به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقَدَر} يحتمل وجوها:
أحدها: على التقديم والتأخير، أي إنا قدّرنا كل شيء خلقناه. فيكون كقوله تعالى: {خالق كل شيء} [لأنعام: 102 و...]...
والثالث: على ظاهر ما جرى به الخطاب: {إنا كل شيء خلقناه بقَدَر} أي إنا كل شيء نُقدّره...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} قال الحسن: قدر الله لكل شيء من خلقه قدره الذي ينبغي له، وقال الربيع: هو كقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3] أي أجلا لا يتقدم ولا يتأخر، وقال ابن عباس: إنّا كل شيء جعلنا له شكلا يوافقه ويصلح له...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ويقال: خلقناه بقدر ما عَلِمْنا وأردْنا وأخبرْنا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: خلقنا كل شيء مقدّراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة. أو مقدّراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه، قد علمنا حاله وزمانه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{خلقناه بقدر} أي قضاء وحكم وقياس مضبوط وقسمة محدودة...
وتدبير محكم في وقت معلوم ومكان محدود مكتوب في ذلك اللوح قبل وقوعه تقيسه الملائكة بالزمان وغيره من العد وجميع أنواع الأقيسة -فلا يخرم عنه مثقال ذرة لأنه لا منازع لنا مع ما لنا من القدرة الكاملة والعلم التام، فهذا العذاب بقدرتنا ومشيئتنا فاصبروا عليه وارضوا به كما كنتم ترضون أعمالكم السيئة ثم تحتجون على عبادنا بأنها مشيئتنا بنحو {ولو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148]
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{إنا كل شيء خلقناه بقدر} أي بمقدار استوفى فيه مقتضى الحكمة، وترتب الأسباب على مسبباتها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن ذلك الأخذ في الدنيا، وهذا العذاب في الآخرة. وما كان قبلهما من رسالات ونذر، ومن قرآن وزبر. وما حول ذلك كله من خلق ووجود وتصريف لهذا الوجود.. إن ذلك كله، وكل صغيرة وكبيرة مخلوقة بقدر، مصرفة بقصد، مدبرة بحكمة. لا شيء جزاف. لا شيء عبث. لا شيء مصادفة. لا شيء ارتجال: (إنا كل شيء خلقناه بقدر).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كلّ ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلالتها وسلّطنَاه على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإِصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة. والخَلْق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازاً على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى: {وتخلقون إفكاً} [العنكبوت: 17]. فإطلاقه في قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. والقدَر: بتحريك الدال مرادف القدْر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها. والمراد: أن خلْق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يشمله عموم كل شيء خلق جهنم للعذاب. وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فترى هذه الآيات وأشباهها تُعقّب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإِنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} بعد قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] وسيقول: {ولقد أهلكنا أشياعكم} [القمر: 51]. فالباء في {بقدر} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خلقناه} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإِعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإِعلام به بَلْه تأكيده، بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد (8) {وكل شيء عنده بمقدار} ومما يستلزمه معنى القَدر أن كل شيء مخلوق هو جارٍ على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعلُ القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولَّداتُها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدَر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإِيمان: وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال عياض في « الإِكمال» « ظاهره أن المراد بالقدر هنا مرادُ الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية» اه. وقال الباجي في « المنتقَى»: « يحتمل من جهة اللغة معاني: أحدها: أن يكون القَدَر ههنا بمعنى مقدر لا يُزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدراً} [الطلاق: 3].
والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4].
والثالث: بقَدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدّر له وقتاً نخلقه فيه» اه.
قلت: وإذ كان لفظ (قدر) جنساً، ووقع معلّقاً بفعل متعلق بضمير {كل شيء} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاماً للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فَخَلْقُه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقعَ هذا التذييل على أن السلف كانوا يطلقون سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عَدُّوه من السبب.