وقوله - تعالى - : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } استئناف مؤكد لما قبله من أن جميع الخلوقات خاصعة لقدرته - تعالى - .
أى : وله وحده - سبحانه - جميع من فى السموات والأرض ، خلقا ، وملكا ، وتدبيرا ، وتصرفا وإحياء ، وإماتة ، لا يخرج منهم أحد عن علمه وقدرته - عز وجل - .
ثم بين - سبحانه - نماذج من عباده الطائعين له ، بعد أن حكى أقوال أولئك الضالين ، فقال : { نْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } .
والاستحسار : الكلل والتعب . يقال : حسر البصر يحسُر حسورا - من باب قعد - إذا تعب من طول النظر ، ومنه قوله - تعالى - : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أى : كليل متعب .
أى : ومن عنده من مخلوقاته وعلى رأسهم الملائكة المقربون ، لا يستكبرون عن عبادته - سبحانه - بل يخضعون له خضوعا تاما { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أى : ولا يكلون ولا يتعبون .
بل هم { يُسَبِّحُونَ } الله - تعالى - ويحمدونه ويكبرونه . طول الليل والنهار بدون فتور أو تراخ أو تقصير . يقال : فتَر فلان عن الشىء يفتُر فتورا ، إذا سكن بعد حدة ، ولان بعد شدة ، ويقال : فتر الماء - من باب قعد - إذا سكن حره فهو فاتر .
قالوا : وذلك لأن تسبيح الملائكة لله - تعالى - يجرى منهم مجرى التنفس منا ، فهو سجية وطبيعة فيهم وكما أن اشتغالنا لا يمنعنا من الكلام ، فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سار الأعمال .
هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين ، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء . وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل ، فإذا هو زاهق . . ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون : ( ولكم الويل مما تصفون ) . .
ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم . نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله . ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته ، لا يفترون ولا يقصرون :
( وله من في السماوات والأرض . ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) . .
ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله ، ولا يحصيهم إلا الله . والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر . والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن . ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم . وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي ، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب . وعلم ذلك عند الله .
فإذا نحن قرأنا : ( وله من في السماوات والأرض )عرفنا منهم من نعرف ، وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن .
( ومن عنده )المفهوم القريب أنهم الملائكة . ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم . والمفهوم من التعبير أنهم هم الأقرب إلى الله . فكلمة " عند " بالقياس إلى الله لا تعني مكانا ، ولا تحدد وصفا .
( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته )كما يستكبر هؤلاء المشركون ( ولا يستحسرون )- أي يقصرون - في العبادة .
ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ، ودأبهم في طاعته ليلا ونهارًا ، فقال : { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ }
يعني : الملائكة ، { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } أي : لا يستنكفون عنها ، كما قال : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172 ] .
وقوله : { وَلا يَسْتَحْسِرُونَ } أي : لا يتعبون ولا يَملُّون .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا ، وله مُلك جميع من في السموات والأرض ، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له ، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته ، وكل من في السموات والأرض عبيده ، فأنى يكون له صاحبة وولد يقول : أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يرجعون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يحسَرون .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يُعيون .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، قوله : وَلا يَسْتَحْسِرُونَ قال : لا يعيون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لا يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُون قال : لا يستحسرون ، لا يملّون ذلك الاستحسار ، قال : ولا يفترون ، ولا يسأَمون .
هذا كله معناه واحد والكلام مختلف ، وهو من قولهم : بعير حَسِير : إذا أعيا وقام ومنه قول علقمة بن عبدة :
بِها جِيَفُ الحَسْرَى فأمّا عِظامُها *** فَبِيضٌ ، وأمّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
{ وله من في السموات والأرض } خلقا وملكا . { ومن عنده } يعني الملائكة المنزلين منه لكرامتهم عليه منزلة المقربين عند الملوك ، وهو معطوف على { من في السموات } وأفرده للتعظيم أو لأنه أعم منه من وجه ، أو المراد به نوع من الملائكة متعال عن التبوؤ في السماء والأرض أو مبتدأ خبره : { لا يستكبرون عن عبادته } لا يتعظمون عنها . { ولا يستحسرون } ولا يعيون منها ، وإنما جيء بالاستحسار الذي هو أبلغ من الحسور تنبيها على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ولا يستحسرون .
قوله تعالى : { وله } يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلاً لقوله { ولكم الويل } [ الأنبياء : 18 ] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى { من في السموات والأرض } واللام في { له } لام الملك ، وقوله تعالى : { من في السماوات } يعم الملائكة والنبيين وغيرهم ، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى : { ومن عنده } لأن «عند » هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم { لا يستكبرون } عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها . والحسير من الإبل المعيي ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
لهن الوجى لم يكن عوناً على النوى . . . ولا كان منها طالع وحسير{[8202]}
وحسر واستحسر بمعنى واحد ، وهذا موجود في كثير من الأفعال وإن كان الباب في استفعل أن يكون لطلب الشيء .
عطف على جملة { لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدّنا } [ الأنبياء : 17 ] مبيِّنةٌ أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقياممِ بما خلقوا لأجله ، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن .
فاللام في { وله } للملك ، والمجرور باللام خبر مقدم . و { من في السموات } مبتدأ ، وتقديم المجرور للاختصاص ، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد رداً على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية .
و { من في السماوات والأرض } يعم العقلاء وغيرهم وغُلِّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول .
وقوله تعالى { ومن عنده } يجوز أن يكون معطوفاً على { من في السماوات والأرض } فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به . ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة { لا يستكبرون عن عبادته } حالاً من المعطوف عليه .
ويجوز أن يكون { مَنْ عنده } مبتدأ وجملة { لا يستكبرون عن عبادته } خبراً .
وما صدَق ( مَن ) جماعة كما دل عليه قوله تعالى { لا يستكبرون } بصيغة الجمع .
{ ومن عنده } هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة .
وعلى كلا الوجهين في موقع جملة { لا يستكبرون عن عبادته } يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون .
والاستحسار : مصدر كالحُسور وهو التعب ، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار والاسيخار ، أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم ، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقلَ ذلك العمل ، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد ، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرجَ مخرج الغالب في أمثاله . فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسوراً ضعيفاً . وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وله من في السماوات والأرض} عبيده وفي ملكه وعيسى بن مريم، وعزير، والملائكة وغيرهم، ثم قال سبحانه: {ومن عنده} من الملائكة {لا يستكبرون} يعني: لا يتكبرون {عن عبادته ولا يستحسرون}، يعني: ولا يعيون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكيف يجوز أن يتخذ الله لهوا، وله مُلك جميع من في السموات والأرض، والذين عنده من خلقه لا يستنكفون عن عبادتهم إياه ولا يَعْيَون من طول خدمتهم له، وقد علمتم أنه لا يستعبد والد ولده ولا صاحبته، وكل من في السموات والأرض عبيده، فأنى يكون له صاحبة وولد، يقول: أولا تتفكرون فيما تفترون من الكذب على ربكم؟...
عن ابن عباس، قوله: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ لا يرجعون...
قال ابن زيد... قال:"لا يستحسرون": لا يملّون ذلك الاستحسار، قال: ولا يفترون، ولا يسأَمون.
هذا كله معناه واحد والكلام مختلف، وهو من قولهم: بعير حَسِير: إذا أعيا وقام...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وله من في السماوات والأرض} كأنه ذكر جوابا لقولهم وردا على وصفهم إياه بالذي وصفوه، فقال: {وله من في السماوات والأرض} كلهم عبيده وإماؤه، ولا أحد في الشاهد يتخذ لنفسه ولدا من عبيده وإمائه. فإذا لم تروا هذا في الخلق أنفا من ذلك واستنكافا فكيف قلتم ذلك في الله سبحانه؟ وأضفتم إليه؟
أو يخبر غناه عن الخلق بأن له من في السماوات والأرض، والولد في الشاهد إنما يطلب لحاجة تسبق. فإذا كان الله سبحانه وتعالى غنيا بذاته بما ذكر بأنه له كذا فلا حاجة تقع له إلى الولد، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وقوله تعالى: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون} يشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم: الملائكة بنات الله، فأخبر أنهم ليسوا كما وصفتموهم، ولكنهم عبيد لي، وهن لا يستريحون عن عبادتي، ولا يفترون، ولم يدعوا هم ألوهية لأنفسهم. فكيف نسبتم الألوهية إليهم، وعبدتموهم دوني؟ أو أن يكون قال ذلك: إنكم إن استكبرتم عن عبادتي فلم يستكبر عنها من هو أرفع منزلة وأعظم قدرا منكم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والاستحسار: الانقطاع من الاعياء، مأخوذ من قولهم حسر عن ذراعه إذا كشف عنه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَنْ عِندَهُ} هم الملائكة. والمراد أنهم مكرمون، منزلون -لكرامتهم عليه- منزلة المقرّبين عند الملوك على طريق التمثيل والبيان؛ لشرفهم وفضلهم على جميع خلقه.
فإن قلت: الاستحسار مبالغة في الحسور، فكان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور. قلت: في الاستحسار بيان أنّ ما هم فيه يوجب غاية لحسور وأقصاه، وأنهم أحقاء لتلك العبادات الباهظة بأن يستحسروا فيما يفعلون.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وله} يحتمل أن يكون ابتداء كلام يحتمل أن يكون معادلاً لقوله {ولكم الويل} [الأنبياء: 18] كأنه تقسيم الأمر في نفسه أي للمختلقين هذه المقالة الويل ولله تعالى {من في السموات والأرض} واللام في {له} لام الملك، وقوله تعالى: {من في السماوات} يعم الملائكة والنبيين وغيرهم، ثم خصص من هذا العموم من أراد تشريفه من الملائكة بقوله تعالى: {ومن عنده} لأن «عند» هنا ليست في المسافات إنما هي تشريف في المنزلة فوصفهم تعالى بأنهم {لا يستكبرون} عن عبادة الله ولا يسأمونها ولا يكلون فيها.
المسألة الأولى: في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان:
الأول: أنه تعالى لما نفى اللعب عن نفسه، ونفي اللعب لا يصح إلا بنفي الحاجة ونفي الحاجة لا يصح إلا بالقدرة التامة، لا جرم عقب تلك الآية بقوله: {وله من في السماوات والأرض} لدلالة ذلك على كمال الملك والقدرة.
الثاني: وهو الأقرب أنه تعالى لما حكى كلام الطاعنين في النبوات وأجاب عنها وبين أن غرضهم من تلك المطاعن التمرد وعدم الانقياد، بين في هذه الآية أنه تعالى منزه عن طاعتهم؛ لأنه هو المالك لجميع المحدثات والمخلوقات، ولأجل أن الملائكة مع جلالتهم مطيعون له خائفون منه فالبشر مع نهاية الضعف أولى أن يطيعوه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هكذا يقرر القرآن الكريم تلك الحقيقة للمشركين، الذين يتقولون على القرآن وعلى الرسول [صلى الله عليه وسلم] ويصفونه بالسحر والشعر والافتراء. وهو الحق الغالب الذي يدمغ الباطل، فإذا هو زاهق.. ثم يعقب على ذلك التقرير بإنذارهم عاقبة ما يتقولون: (ولكم الويل مما تصفون)..
ثم يعرض لهم نموذجا من نماذج الطاعة والعبادة في مقابل عصيانهم وإعراضهم. نموذجا ممن هم أقرب منهم إلى الله. ومع هذا فهم دائبون على طاعته وعبادته، لا يفترون ولا يقصرون:
(وله من في السماوات والأرض. ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون)..
ومن في السماوات والأرض لا يعلمهم إلا الله، ولا يحصيهم إلا الله. والعلم البشري لا يستيقن إلا من وجود البشر. والمؤمنون يستيقنون من وجود الملائكة والجن كذلك لذكرهما في القرآن. ولكننا لا نعرف عنهم إلا ما أخبرنا به خالقهم. وقد يكون هناك غيرهم من العقلاء في غير هذا الكوكب الأرضي، بطبائع وأشكال تناسب طبيعة تلك الكواكب. وعلم ذلك عند الله.
فإذا نحن قرأنا: (وله من في السماوات والأرض) عرفنا منهم من نعرف، وتركنا علم من لا نعلم لخالق السماوات والأرض ومن فيهن.
(ومن عنده) المفهوم القريب أنهم الملائكة. ولكننا لا نحدد ولا نقيد ما دام النص عاما يشمل الملائكة وغيرهم. والمفهوم من التعبير أنهم هم الأقرب إلى الله. فكلمة "عند "بالقياس إلى الله لا تعني مكانا، ولا تحدد وصفا.
(ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) كما يستكبر هؤلاء المشركون (ولا يستحسرون) -أي يقصرون- في العبادة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدّنا} [الأنبياء: 17] مبيِّنةٌ أن كل من في السماوات والأرض عباد لله تعالى مخلوقون لقبول تكليفه والقيامِ بما خلقوا لأجله، وهو تخلص إلى إبطال الشرك بالحجة الدامغة بعد الإفاضة في إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحجية القرآن.
فاللام في {وله} للملك، والمجرور باللام خبر مقدم. و {من في السموات} مبتدأ، وتقديم المجرور للاختصاص، أي له من في السماوات والأرض لا لغيره وهو قصر إفراد رداً على المشركين الذين جعلوا لله شركاء في الإلهية.
و {من في السماوات والأرض} يعم العقلاء وغيرهم وغُلِّب اسم الموصول الغالب في العقلاء لأنهم المقصود الأول.
وقوله تعالى {ومن عنده} يجوز أن يكون معطوفاً على {من في السماوات والأرض} فيكون من عطف الخاص على العام للاهتمام به. ووجه الاهتمام ظاهر وتكون جملة {لا يستكبرون عن عبادته} حالاً من المعطوف عليه.
ويجوز أن يكون {مَنْ عنده} مبتدأ وجملة {لا يستكبرون عن عبادته} خبراً.
وما صدَق (مَن) جماعة كما دل عليه قوله تعالى {لا يستكبرون} بصيغة الجمع.
{ومن عنده} هم المقربون في العوالم المفضلة وهم الملائكة.
وعلى كلا الوجهين في موقع جملة {لا يستكبرون عن عبادته} يكون المقصود منها التعريض بالذين يستكبرون عن عبادة الله ويعبدون الأصنام وهم المشركون.
والاستحسار: مصدر كالحُسور وهو التعب، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالاستكبار والاستنكار... أي لا يصدر منهم الاستحسار الذي هو التعب الشديد الذي يقتضيه عملهم العظيم، أي لا يقع منهم ما لو قام بعملهم غيرهم لاستحسر ثقلَ ذلك العمل، فعبر بالاستحسار هنا الذي هو الحسور القوي لأنه المناسب للعمل الشديد، ونفيه من قبيل نفي المقيد بقيد خرجَ مخرج الغالب في أمثاله. فلا يفهم من نفي الحسور القوي أنهم قد يحسرون حسوراً ضعيفاً. وهذا المعنى قد يعبر عنه أهل المعاني بأن المبالغة في النفي لا في المنفي.