ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة ، لأن قلوبهم خالية من الإيمن . ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله ، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً . . . وَهُمْ كَافِرُونَ } .
روى أن بعض المنافقين قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - عندما دعاهم إلى الخروج معه إلى تبوك : ائذن لى في القعود وهذا مالى أعينك به ، فنزل قوله - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ . . } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء ؛ أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين ، أى : من غير إجبار أحد لكم ، أو كارهين ، أى بأن تجبروا على هذا الإِنفاق إجباراً ، فلن يقبل منكم ذلك الإِنفاق .
والكلام وإن كان قد جاء في صورة الأمر ، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله .
فإن قلت : كيف أمرهم بالإِنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟
قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله - تعالى - { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم أنفتم طوعاً أو كرها ، ونحوه قوله - تعالى - : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقول الشاعر :
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة . . . لدينا ولا مقلية إن تقلت
أى : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم . . أم لم تستغفر لهم . ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم وجاء الكلام في صورة الأمر ، للمبالغة في تساوى الأمرين ، وعدم الاعتداء بنفقتهم سواء أقدموها عن طواعية أم عن كراهية .
وقوله . { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } بيان لثمرة إنفاقهم . أى : لن يتقبل منكم ما أنفقتموه ، ولن تنالوا عليه ثواباً .
وقوله : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } تعليل لعدم قبول نفقاتهم .
أى : لن تقبل منم نفاقتكم بسبب عتوكم في الكفر ، وتمردكم على تعاليم الإِسلام وخروجكم عن الطاعة والاستقامة .
قال القرطبى ما ملخصه . وفى الآية دليل على أن أفعاله الكافر إذا كانت برأ كصلة القرابة ، وجبر الكسير ، وإغاثة الملهوف ، ولا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا .
دليله ما رواه مسلم " عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟
قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " .
وروى عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " .
وقال الجمل : وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين ، فهى عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله ، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه .
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين ، قد عرض ماله ، وهو يعتذر عن الجهاد ، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان . فرد اللّه عليهم مناورتهم ، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اللّه ، لأنهم إنما ينفقون عن رياء وخوف ، لا عن إيمان وثقة ، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم ، فهو في الحالتين مردود ، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند اللّه :
( قل : أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم ، إنكم كنتم قوماً فاسقين . وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه ورسوله ، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ، ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) .
إنها صورة المنافقين في كل آن . خوف ومداراة ، وقلب منحرف وضمير مدخول . ومظاهر خالية من الروح ، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لّن يُتَقَبّلَ مِنكُمْ إِنّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد لهؤلاء المنافقين : أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره ، وعلى أيّ حال شئتم من حال الطوع والكره ، فإنكم إن تنفقوها لَن يَتَقَبّل الله مِنْكُم نفقاتكم ، وأنتم في شكّ من دينكم وجهل منكم بنبوة نبيكم وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه . إنّكُمْ كُنْتُمْ قَوْما فاسِقِينَ يقول : خارجين عن الإيمان بربكم . وخرج قوله : أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها مخرج الأمر ومعناه الخبر ، والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها «إن » التي تأتي بمعنى الجزاء ، كما قال جلّ ثناؤه : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر ، ومنه قول الشاعر :
أسِيِئي بِنا أوْ أحْسِني لا مَلُومَة *** لَدَيْنا وَلا مَقْلِيّةً إنْ تَقَلّتِ
فكذلك قوله : أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها إنما معناه : إن تنفقوا طوعا أو كرها ، لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ . وقيل : إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم : هذا مالي أعينك به .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : قال الجدّ بن قيس : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتّن ، ولكن أعينك بمالي قال : ففيه نزلت أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ قال : لقوله : أعينك بمالي .
{ قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يُتقبّل منكم } أمر في معنى الخبر ، أي لن يتقبل منكم نفقاتكم أنفقتم طوعا أو كرها . وفائدته المبالغة في تساوي الانفاقين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا فينفقوا وينظروا هل يتقبل منهم . وهو جواب قول جد بن قيس وأعينك بمالي . ونفي التقبل يحتمل أمرين أن لا يؤخذ منهم وان لا يثابوا عليه وقوله : { إنكم كنتم قوما فاسقين } تعليل له على سبيل الاستئناف وما بعده بيان وتقرير له .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.