البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

{ قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوماً فاسقين } : قرأ الأعمش وابن وثاب : كرهاً بضم الكاف ، ويعني : في سبيل الله ووجوه البر .

قيل : وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ .

وقال الزمخشري : هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً } ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً .

ونحوه قوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وقوله : أسيىء بنا أو أحسنى لا ملومة .

أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم ، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى .

وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي : إنْ تتفقوا طوعاً أو كرهاً لم يتقبل منك ، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى .

قال ابن عطية : أنفقوا أمر في ضمنه جزاء ، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء ، والتقدير : إنْ تنفقوا لن نتقبل منكم .

وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى .

ويقدح في هذا التخريج أنّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط ، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء ، لأنّ لن لا تقع جواباً للشرط إلا بالفاء ، فكذلك ما ضمن معناه .

ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيداً يحسن إليك ، وانتصب طوعاً أو كرهاً على الحال ، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله ، والكره إلزام ذلك .

وسمَّى الإلزام كراهاً لأنهم منافقون ، فصار الإلزام شاقاً عليهم كالإكراه .

أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم ، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة .

والجمهور على أنّ هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال : هذا مالي أعينك به .

وقال ابن عباس : فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله .

فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلاً ، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون ، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده ، وإما كون الله لا يثيب عليه ، وعلل انتفاء التقبل بالفسق .

قال الزمخشري : وهو التمرد والعتو ، والأولى أن يحمل على الكفر .

قال أبو عبد الله الرازي : هذه إشارة إلى أنّ عدم القبول معلل بكونهم فاسقين ، فدلَّ على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى .

وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة ، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين ، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين ، والجمع بينهما محال .

فكان الجمعُ بين استحقاقهما محالاً ، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله : { وما منعهم } الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر .

ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات ، فنفى تعالى أنّ عدم القبول ليس معللاً بعموم كونه فسقاً ، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفراً ، فثبت أنّ استدلال الجبائي باطل انتهى .

وفيه بعض تلخيص .