محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُلۡ أَنفِقُواْ طَوۡعًا أَوۡ كَرۡهٗا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمۡ إِنَّكُمۡ كُنتُمۡ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ} (53)

وقوله تعالى :

53 { قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين } .

{ قل أنفقوا } يعني أموالكم في سبيل الله ووجوه البر { طوعا أو كرها } مصدران وقعا موقع الفاعل ، أي طائعين من قبل أنفسكم ، أو كارهين مخافة القتل ، { لن يتقبل منكم } أي ذلك الإنفاق ، ثم بين سبب ذلك قوله : { إنكم كنتم قوما فاسقين } أي عاتين متمردين .

لطائف

قال الزمخشري : فإن قلت : كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال : { لن يتقبل منكم } قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله تبارك وتعالى{[4547]} : { قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا } ومعناه : لن يتقبل منكم ، أنفقتم طوعا أو كرها ، ونحوه قوله تعالى{[4548]} : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } وقوله {[4549]} *أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة* أي لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم . ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت .

/ فإن قلت : متى يجوز هذا ؟ قلت : إذا دل الكلام عليه ، كما جاز عكسه في قولك : رحم الله زيدا وغفر له . فإن قلت : لم فعل ذلك ؟ قلت : لنكتة فيه ، وهي أن كُثَيّراً كأنه يقول لعزة : امتحني لطف محلك عندي ، وقوة محبتي لك ، وعامليني بالإساءة والإحسان ، وانظري : هل يتفاوت حالي معك ، مسيئة كنت أو محسنة وفي معناه قول القائل{[4550]} :

أخوك الذي إن قمت بالسيف عامدا*** لتضربه لم يستغشك في الود

وكذلك المعنى : أنفقوا وانظروا ، هل يتقبل منكم ؟ واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ، وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه ؟

فإن قلت : ما الغرض في نفي التقبل ، أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تقبله منهم ، ورده عليهم ما يبذلون منه ، أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ، ذاهبا هباء لا ثواب له ؟ قلت : يحتمل الأمرين جميعا ، وقد روي أن الآية من تتمة جواب الجد بن قيس حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " هذا مالي أعينك به ، فاتركني ولا تفتني " والله أعلم .


[4547]:19 / مريم / 75.
[4548]:9 / التوبة / 80.
[4549]:قائله كثير عزة : وعجز البيت *لدينا ولا مَقْلِيّةٍ إِنْ تَقَلَّتِ* ومطلع القصيدة : خليلي هذا ريعُ عَزَّةَ فَاعْفِلاَ*** قَلُوصَيْكُمَا ثمّ ابْكِيَا حيث حلَّتِ انظر الأمالي ج 2 ص 107 (طبعة الدار) وقال في اللسان : تقلَّى الشيءُ تَبَغَّضَ.
[4550]:استشهد به في (الكشاف) وفيه : يستغثك. قال الشارح : يقول : أخوك الذي إن أسات إليه أحسن إليك، حتى لو قمت تضربه بالسيف لا يجدك غثا في اللمودة (وبرواية : لا يستغثك من الغش والخيانة) ولو جثته تطلب أن تقطع يده، لبادر إليك فرقا من الرد عليك. ومع هذا الوفاء والجهد في حفظ أسباب المودة يرى أنه مقصر في الود وإن فيه وهو من أبيات ثلاثة وباقيها : ولو جئت تبغي كفه لتبينها*** لبادر إشفاقا عليك من الرد يرى أنه في الود وأن مقصر *** على أنه قد زاد فيه عن الجهد