بدأت السورة بالقسم على صدق البعث ووقوع الجزاء ، ثم أردفت بقسم آخر على اضطراب المنكرين فيما يقولونه عن رسول الله ، وعن القرآن الكريم ، ثم انتقلت إلى إنذار المنكرين بسوء مآلهم في الآخرة ، وإلى تصوير ما أعد للمتقين فيها من جزاء ما قدموا من أعمال صالحة في الدنيا . ثم نبهت إلى تأمل آيات الله في الكون وفي الأنفس ، وما أودع فيهما من عجائب الصنع ولطائف الخلق .
وتحدثت عن قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة ثم عرضت لأحوال بعض الأمم ، وما أصابهم من الهلاك بتكذيبهم لأنبيائهم ثم أشارت بإجمال إلى بعض الآيات الكونية ، وحثت على الرجوع إلى الله ، وإفراده بالعبادة التي هي الغاية من خلق الجن والإنس وختمت بإنذار من كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذاب مثل العذاب الذي أصاب الأمم قبلهم .
1 - أقسم بالرياح المثيرات للسحاب ، تدفعها دفعاً ، فالحاملات منها ثقلاً عظيماً من الماء ، فالجاريات به مُيَسرة بتسخير الله ، فالمقسمات رزقاً يسوقه الله إلى من يشاء .
1- سورة [ الذاريات ] من السور المكية الخالصة ، وعدد آياتها ستون آية . وكان نزولها بعد سورة " الأحقاف " .
2- وقد افتتحت هذه السورة بقسم من الله –تعالى- ، ببعض مخلوقاته ، على أن البعث حق ، وعلى أن الجزاء حق .
قال –تعالى- : [ والذاريات ذروا . فالحاملات وقرا . فالجاريات يسرا . فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع ] .
3- ثم بينت السورة الكريمة بعد ذلك ، ما أعده –سبحانه- لعباده المتقين ، فقال –تعالى- : [ إن المتقين في جنات وعيون ، آخذين ما آتاهم ربهم ، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ] .
4- ثم ساق –سبحانه- بعد ذلك طرفا من قصة إبراهيم ولوط وهود وصالح وموسى ونوح –عليهم السلام- مع أقوامهم ، ليكون في هذا البيان ما يدعو كل عاقل إلى الاتعاظ والاعتبار ، بحسن عاقبة الأخيار ، وسوء عاقبة الأشرار .
5- ثم ختم –سبحانه- السورة الكريمة ببيان ما يدل على كمال قدرته ، وعلى سعة رحمته ، ودعا الناس جميعا إلى إخلاص العبادة والطاعة له ، لأنه –سبحانه- ما خلقهم إلا لعبادته .
قال –تعالى- : [ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين . فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون . فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون ] .
6- هذا ، والمتدبر في هذه السورة الكريمة ، يراها –كغيرها من السور المكية- قد ركزت حديثها على إقامة الأدلة على أن العبادة لا تكون إلا لله الواحد القهار ، وعلى أن البعث حق ، والجزاء حق ، وعلى أن سنة الله –تعالى- قد اقتضت أن يجعل العاقبة الطيبة لأنبيائه وأتباعهم ، والعاقبة السيئة للمكذبين لرسلهم ، وعلى أن الوظيفة التي من أجلها خلق الله –تعالى- أن يهدينا جميعا إلى صراطه المستقيم . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
المراد بالذاريات : الرياح التى تذرو الشىء ، أى تسوقه وتحركه وتنقله من مكانه .
فهذا اللفظ اسم فاعل من ذرا المعتل ، بمعنى فرَّق وبدّد . يقال : ذّرّت الرياح التراب تذروه ذَرْواً ، وتَذْرِيه ذَرْياً - من بابى عدا ورمى - إذا طيرته وفرقته .
ومنه قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح . . . } أى : تنقله وتحركه من مكان إلى آخر .
والمفعول محذوف ، و " ذروا " مصدر مؤكد ، وناصبه لفظ الذاريات ، أى : وحق الرياح التى تذروا التراب وغيره ذروا ، وتحركه تحريكا شديدا .
والمراد بالحاملات : السحب التى تحمل الأمطار الثقيلة ، فتسير بها من مكان إلى آخر .
والوقر - بكسر الواو - كالحمل وزنا ومعنى ، وهو مفعول به .
أى : فالسحب الحاملات للأمطار الثقيلة ، وللمياه الغزيرة ، التى تنزل على الأرض اليابسة ، فتحولها - بقدرة الله - تعالى - إلى أرض خضراء .
وهذا الوصف للسحاب بأنه يحمل الأمطار الثقيلة ، قد جاء ما يؤيده من الآيات القرآنية ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ . . . } وقوله - سبحانه - : { هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال }
والمراد بالجاريات : السفن التى تجرى فى البحر ، فتنقل الناس وأمتعتهم من بلد إلى بلد .
وقوله : { يُسْراً } صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف ، أى : فالجاريات بقدرة الله - تعالى - فى البحر جريا ذات يسر وسهولة ، إلى حيث يسيرها ربانها .
ويصح أن يكون قوله { يُسْراً } حال . أى : فالجاريات فى حال كونها ميسرة مسخرا لها البحر .
ومن الآيات التى تشبه فى معناها هذه الآية قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام }
والمراد بالمقسمات فى قوله - سبحانه - { فالمقسمات أَمْراً } الملائكة ، فإنهم يقسمون أرزاق العباد وأمورهم وشئونهم . . . على حسب ما يكلفهم الله - تعالى - به من شئون مختلفة .
و { أَمْراً } مفعول به ، للوصف الذى هو المقسمات ، وهو مفرد أريد به الجمع ، أى : المقسمات لأمور العباد بأمر الله - تعالى - وإرادته .
وهذا التفسير لتلك الألفاظ ، قد ورد عن بعض الصحابة ، فعن أبى الطفيل أنه سمع عليا - رضى الله عنه - يقول - وهو على منبر الكوفة - : لا تسألونى عن آية فى كتاب الله ، ولا عن سنة رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك ، فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين . ما معنى قوله - تعالى - : { والذاريات ذَرْواً } قال : الريح . { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن ، { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .
وروى مثل هذا التفسير عن عمر بن الخطاب ، وعن ابن عباس .
ومن العلماء من يرى أن هذه الألفاظ جميعها صفات للرياح .
قال الإمام الرازى : هذه صفات أربع للرياح ، فالذاريات : هى الرياح التى تنشىء السحاب أولا . والحاملات : هى الرياح التى تحمل السحب التى هى بخار الماء . . . والجاريات : هى الرياح التى تجرى بالسحب بعد حملها . والمقسمات : هى الرياح التى تفرق الأمطار على الأقطار .
ومع وجاهة رأى الإمام الرازى فى هذه المسألة ، إلا أننا نؤثر عليه الرأى السابق ، لأنه ثابت عن بعض الصحابة ، ولأن كون هذه الألفاظ الأربعة لها معان مختلفة ، أدل على قدرة الله - تعالى - وعلى فضله على عباده .
وقد تركنا أقوالا ظاهرة الضعف والسقوط . كقول بعضهم : الذاريات هن النساء ، فإنهن يذرين الأولاد ، بمعنى أنهن يأتين بالأولاد بعضهم فى إثر بعض ، كما تنقل الرياح الشىء من مكان إلى مكان .
قال الآلوسى : ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات - كما هو الرأى المعول عليه - فالفاء للترتيب فى الأقسام ذكرا ورتبة ، باعتبار تفاوت مراتبها فى الدلالة على كمال قدرته - عز وجل - وهذا التفاوت إما على الترقى أو التنزل ، لما فى كل منها من الصفات التى تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر .
وإن حملت على واحد وهو الرياح ، فهى لترتيب الأفعال والصفات ، إذ الريح تذرو الأبخرة إلى الجو أولا ، حتى تنعقد سحابا ، فتحمله ثانيا ، وتجرى به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله - تعالى - ثم تقسم أمطاره .
سورة الذاريات مكية وآياتها ستون
هذه السورة ذات جو خاص . فهي تبدأ بذكر قوى أربعة . . من أمر الله . . في لفظ مبهم الدلالة ، يوقع في الحس لأول وهلة أنه أمام أمور ذات سر . يقسم الله - تعالى - على أمر : والذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع . .
والذاريات . والحاملات . والجاريات . والمقسمات . . مدلولاتها ليست متعارفة ، وهي غامضة تحتاج إلى السؤال والاستفسار ، كما أنها بذاتها تلقي في الحس ذلك الظل . ولعله هو المقصود الأول منها في جو هذه السورة .
وما يكاد القسم الأول ينتهي حتى يعقبه قسم آخر بالسماء : ( والسماء ذات الحبك ) . . يقسم بها الله تعالى . على أمر : ( إنكم لفي قول مختلف ) . . لا استقرار له ولا تناسق فيه ، قائم على التخرصات والظنون ، لا على العلم واليقين . .
هذه السورة : بافتتاحها على هذا النحو ، ثم بسياقها كله ، تستهدف أمرا واضحا في سياقها كله . . ربط القلب البشري بالسماء ؛ وتعليقه بغيب الله المكنون ؛ وتخليصه من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من كل عائق يحول بينه وبين التجرد لعبادة الله ، والانطلاق إليه جملة ، والفرار إليه كلية ، استجابة لقوله في السورة : ( ففروا إلى الله ) . . وتحقيقا لإرادته في عباده : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . .
ولما كان الانشغال بالرزق وما يخبئه القدر عنه هو أكثف تلك العوائق وأشدها فقد عني في هذه السورة بإطلاق الحس من إساره ، وتطمين النفس من جهته ، وتعليق القلب بالسماء في شأنه ، لا بالأرض وأسبابها القريبة . وتكررت الإشارة إلى هذا الأمر في السورة في مواضع متفرقة منها . إما مباشرة كقوله تعالى : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . . ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . . وإما تعريضا كقوله يصور حال عباده المتقين مع المال : ( وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . ووصفه لجود إبراهيم وسخائه وهو يقري ضيوفه القلائل - أو من حسبهم ضيوفه من الملائكة - بعجل سمين ، يسارع به إليهم عقب وفودهم إليه ، وبمجرد إلقاء السلام عليه ، وهو لم يعرفهم إلا منذ لحظة !
فتخليص القلب من أوهاق الأرض ، وإطلاقه من إسار الرزق ، وتعليقه بالسماء ، ترف أشواقه حولها ، ويتطلع إلى خالقها في علاه ، بلا عائق يحول بينه وبين الانطلاق ، ويعوقه عن الفرار إلى الله . هو محور السورة بكل موضوعاتها وقضاياها التي تطرقها . ومن ثم كان هذا الاقتتاح ، وكان ذلك الإيقاع الغامض في أولها ، وكان القسم بعده بالسماء ، وكان تكرار الإشارة إلى السماء أيضا . .
وفي هذا كانت صورة المتقين التي يرسمها في مطلع السورة : ( إن المتقين في جنات وعيون . آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين . كانوا قليلا من الليل ما يهجعون . وبالأسحار هم يستغفرون . وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ) . . فهي صورة التطلع إلى الله ، والتجرد له ، والقيام في عبادته بالليل ، والتوجه إليه في الأسحار . مع إرخاص المال ، والتخلص من ضغطه ، وجعل نصيب السائل والمحروم حقا فيه .
وفي هذا كان التوجيه إلى آيات الله في الأرض وفي الأنفس مع تعليق القلوب بالسماء في شأن الرزق ، لا بالأرض وما فيها من أسبابه القريبة : ( وفي الأرض آيات للموقنين . وفي أنفسكم أفلا تبصرون . وفي السماء رزقكم وما توعدون ) . .
وفي هذا كانت الإشارة إلى بناء الله للسماء على سعة ، وتمهيده للأرض في يسر ، وخلقه ما فيها من أزواج ، والتعقيب على هذا كله بالفرار إلى الله : ( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون . والأرض فرشناها فنعم الماهدون . ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون . ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) . .
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة ، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس ، ووظيفتهما الرئيسية الأولى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) . .
فهو إيقاع واحد مطرد . ذو نغمات متعددة . ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع ، وتطلق ذلك الحداء . الحداء بالقلب البشري إلى السماء !
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط ، وقصة موسى ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم نوح . وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم ، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار . وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة : ( إنما توعدون لصادق )والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين : ( فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون ) . . بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب : ( كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا : ساحر أو مجنون . أتواصوا به ? بل هم قوم طاغون ! ) . .
فالقصص في السورة - على هذا النحو - مرتبط بموضوعها الأصيل . وهو تجريد القلب لعبادة الله ، وتخليصه من جميع العوائق ، ووصله بالسماء . بالإيمان أولا واليقين . ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم .
( الذاريات ذروا ، فالحاملات وقرا ، فالجاريات يسرا ، فالمقسمات أمرا . . إن ما توعدون لصادق ، وإن الدين لواقع . . )
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة ، بتلك العبارات الغامضة الدلالة ، تلقي في الحس - كما تقدم - إيحاء خاصا ، وتلقي ظلا معينا ، يعلق القلب بأمر ذي بال ، وشأن يستحق الانتباه . وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات ، والحاملات ، والجاريات ، والمقسمات . .
قال ابن كثير في التفسير : قال شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا - رضي الله عنه - وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلا أنبأتكم بذلك . فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : ( والذاريات ذروا )? قال علي - رضي الله عنه : الريح . قال : ( فالحاملات وقرا )? قال - رضي الله عنه - : السحاب . قال : ( فالجاريات يسرا )? قال - رضي الله عنه - : السفن . قال : ( فالمقسمات أمرا )? قال - رضي الله عنه - : الملائكة .
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقد أحس عمر - رضي الله عنه - أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة : ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . . وهذه الرواية تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها !
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك [ كما قال ابن كثير .
أقسم الله - سبحانه - بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل . وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء . وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير . ثم بالملائكة المقسمات أمرا ، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته ، فتفصل في الشؤون المختصة بها ، وتقسم الأمور في الكون بحسبها .
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله ، يتخذها أداة لقدرته ، وستارا لمشيئته ، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده . وهو يقسم بها - سبحانه - للتعظيم من شأنها ، وتوجيه القلوب إليها ، لتدبر ما وراءها من دلالة ؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم . وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي .
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق ، الذي يعني سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه ، وإعفائه من أثقاله . فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه . أما الملائكة وتقسيمها للأمر ، فإن الرزق أحد هذه القسم . ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى .
قال شعبة{[27391]} بن الحجاج ، عن سِمَاك ، عن خالد بن عَرْعَرَة أنه سمع عليا وشعبة أيضًا ، عن القاسم بن أبي بزَّة ، عن أبي الطُّفَيْل ، سمع عليًا . وثبت أيضًا من غير وجه ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله ، ولا عن سنة عن رسول الله ، إلا أنبأتكم بذلك . فقام إليه ابن الكواء فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ قال : الريح [ قال ] {[27392]} : { فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا } ؟ قال : السحاب . [ قال ]{[27393]} : { فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا } ؟ قال : السفن . [ قال ] {[27394]} : { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } ؟ قال : الملائكة {[27395]} .
وقد روي في ذلك حديث مرفوع ، فقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن هانئ ، حدثنا سعيد بن سلام العطار ، حدثنا أبو بكر بن أبي سَبْرَة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : جاء صَبِيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني عن { الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا } ؟ فقال : هي الرياح ، ولولا أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } قال : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . قال : فأخبرني عن { الْجَارِيَاتِ يُسْرًا } قال : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . ثم أمر به فضرب مائة ، وجعل في بيت ، فلما برأ {[27396]} [ دعا به و ] {[27397]} ضربه مائة أخرى ، وحمله على قَتَب ، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : امنع الناس من مجالسته . فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف بالأيمان الغليظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا . فكتب في ذلك إلى عمر ، فكتب عمر : ما إخاله إلا صدق ، فخل بينه وبين مجالسة الناس .
قال أبو بكر البزار : فأبو بكر بن أبي سبرة لين ، وسعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث {[27398]} .
قلت : فهذا الحديث ضعيف رفعه ، وأقرب ما فيه أنه موقوف على عمر ، فإن قصة صَبِيغ بن عسل مشهورة مع عمر {[27399]} ، وإنما ضربه لأنه ظهر له من أمره فيما يسأل تعنتا وعنادا ، والله أعلم .
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القصة في ترجمة صبيغ مطولة {[27400]} . وهكذا فسرها ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد . ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك .
وقد قيل : إن المراد بالذاريات : الريح كما تقدم وبالحاملات وقرًا : السحاب كما تقدم ؛ لأنها تحمل الماء ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل :
وَأسْلَمْتُ نَفْسي لمَنْ أسْلَمَتْ *** لَهُ المزْنُ تَحْمِلُ عَذْبا زُلالا {[27401]}
فأما الجاريات يسرًا ، فالمشهور عن الجمهور - كما تقدم - : أنها السفن ، تجري ميسرة في الماء جريا سهلا . وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسرا{[27402]} في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، إلى ما هو أعلى منه ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمرا الملائكة فوق ذلك ، تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية . وهذا قسم من الله عز جل على وقوع المعاد ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ }