والهمزة في قوله { أَوَ كُلَّمَا } للإِنكار ، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام : أي أكفروا بالآيات البينات ، وكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ، أي : طرحوه ونقضوه من النبذ وهو إلقاء الشئ وطرحه لقلة الاعتداد به ومنه سمي النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء وهو حقيقة في الأجرام وإسناده إلى العهد مجاز .
والضمير في قوله : { مِّنْهُم } يعود لليهود الذين اشتهروا بنقض العهود وقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يفيد الترقي إلى الأغلظ فالأغلظ ، أي أن فريقاً منهم عرف بنقضه للعهد ، وأكثرهم عرف بكفره وجحده للحق .
قال صاحب الكشاف ، واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود ، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدوا رسول الله فلم يفوا { الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } وقال الرازي : " والمقصود من هذا الاستفهام الإِنكار وإعظام ما يقدمون عليه لأن مثل ذلك إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التوبيخ والتبكيت . ودل بقوله : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } على عهد بعد عهد نبذوه ونقضوه ، بل يد على أن ذلك كالعادة منهم ، فكأنه - تعالى - أراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عند كفرم بما أنزل عليه من الآيات ، بأن بين له أن ذلك ليس ببدع منهم ، بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم . . . "
ثم يلتفت إلى المسلمين - وإلى الناس عامة - منددا بهؤلاء اليهود ، كاشفا عن سمة من سماتهم الوبيئة . . إنهم جماعة مفككة الأهواء - رغم تعصبها الذميم - فهم لا يجتمعون على رأي ، ولا يثبتون على عهد ، ولا يستمسكون بعروة . ومع أنهم متعصبون لأنفسهم وجنسهم ، يكرهون أن يمنح الله شيئا من فضله لسواهم ، إلا أنهم - مع هذا - لا يستمسكون بوحدة ، ولا يحفظ بعضهم عهد بعض ، وما من عهد يقطعونه على أنفسهم حتى تند منهم فرقة فتنقض ما أبرموا ، وتخرج على ما أجمعوا :
( أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ؟ بل أكثرهم لا يؤمنون ) . .
وقد أخلفوا ميثاقهم مع الله تحت الجبل ، ونبذوا عهودهم مع أنبيائهم من بعد ، وأخيرا نبذ فريق منهم عهدهم الذي أبرموه مع النبي [ ص ] أول مقدمه إلى المدينة ؛ وهو العهد الذي وادعهم فيه بشروط معينة ، بينما كانوا هم أول من أعان عليه أعداءه ؛ وأول من عاب دينة ، وحاول بث الفرقة والفتنة في الصف المسلم ، مخالفين ما عاهدوا المسلمين عليه . .
وبئس هي من خلة في اليهود ! تقابلها في المسلمين خلة أخرى على النقيض ، يعلنها رسول الله [ ص ] في قوله " المسلمون تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم " . . يسعى بذمتهم أدناهم ، فلا يخيس أحد بعهده إذا عاهد ، ولا ينقض أحد عقده إذا أبرم ، ولقد كتب أبو عبيدة - رضي الله عنه - وهو قائد لجيش عمر - رضي الله عنه - وهو الخليفة يقول : إن عبدا أمن أهل بلد بالعراق . وسأله رأيه . فكتب إليه عمر : إن الله عظم الوفاء ، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا . . فوفوا لهم وانصرفوا عنهم . . وهذه سمة الجماعة الكريمة المتماسكة المستقيمة . وذلك فرق ما بين أخلاق اليهود الفاسقين وأخلاق المسلمين الصادقين .
{ أَوَكُلّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }
اختلف أهل العربية في حكم «الواو » التي في قوله : { أوَ كُلّما عاهَدُوا عَهْدا }فقال بعض نحويي البصريين : هي واو تجعل مع حروف الاستفهام ، وهي مثل «الفاء » في قوله : { أفَكُلّما جاءَكُمْ رَسُول بِمَا لاَ تَهْوَى أنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ } قال : وهما زائدتان في هذا الوجه ، وهي مثل «الفاء » التي في قوله : فالله لتصنعنّ كذا وكذا ، وكقولك للرجل : أفلا تقوم وإن شئت جعلت الفاء والواو ههنا حرف عطف . وقال بعض نحويي الكوفيين : هي حرف عطف أدخل عليها حرف الاستفهام . والصواب في ذلك عندي من القول أنها واو عطف أدخلت عليها ألف الاستفهام ، كأنه قال جل ثناؤه : { وَإِذْ أخَذْنَا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُورَ خُذُوا ما آتَيْنَاكُمْ بِقُوّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، أو كُلّما عاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، } ثم أدخل ألف الاستفهام على «وكلما » ، فقال : قالوا سمعنا وعصينا أَوَكُلّمَا عَاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فريقٌ مِنْهُمْ ، وقد بينا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله حرف لا معنى له ، فأغنى ذلك عن إعادة البيان على فساد قول من زعم أن الواو والفاء من قوله : أوَكُلّما و أفَكُلّما زائداتان لا معنى لهما .
وأما العهد : فإنه الميثاق الذي أعطته بنو إسرائيل ربهم ليعملن بها في التوراة مرة بعد أخرى ، ثم نقض بعضهم ذلك مرة بعد أخرى . فوبخهم جل ذكره بما كان منهم من ذلك وعَيّر به أبناءهم إذ سلكوا منهاجهم في بعض ما كان جل ذكره أخذ عليهم بالإيمان به من أمر محمد صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق فكفروا وجحدوا ما في التوراة من نعته وصفته ، فقال تعالى ذكره : أَوَكُلّما عاهد اليهود من بني إسرائيل ربهم عهدا وأوثقوه ميثاقا نبذه فريق منهم فتركه ونقضه ؟ كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، قال : حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر لهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد الله إليهم فيه : والله ما عهد إلينا في محمد صلى الله عليه وسلم وما أخذ له علينا ميثاقا فأنزل الله جل ثناؤه : { أوَكُلّما عاهَدُوا عَهْدا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثنا محمد بن إسحاق ، قال : حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس مثله .
قال أبو جعفر : وأما النبْذُ فإن أصله في كلام العرب الطرح ، ولذلك قيل للملقوط المنبوذ لأنه مطروح . مرمى به ، ومنه سُمي النبيذ نبيذا ، لأنه زبيب أو تمر يطرح في وعاء ثم يعالج بالماء . وأصله مفعول صرف إلى فعيل ، أعني أن النبيذ أصله منبوذ ثم صرف إلى فعيل ، فقيل نبيذ كما قيل كفّ خضيب ولحية دهين ، يعني مخضوبة ومدهونة يقال منه : نبذته أنبذه نبذا ، كما قال أبو الأسود الدؤلي :
نَظَرْتَ إلى عُنْوَانِهِ فَنَبذْتَهُ *** كَنَبْذِكَ نَعْلاً أخْلَقَتْ من نِعالِكا
فمعنى قوله جل ذكره : نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طرحه فريق منهم فتركه ورفضه ونقضه . كما :
حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يقول : نقضه فريق منهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ قال : لم يكن في الأرض عهد يعاهَدُون عليه إلا نقضوه ، ويعاهدون اليوم وينقضون غدا . قال : وفي قراءة عبد الله : «نقضَهُ فريق منهم » . والهاء التي في قوله : نَبَذَهُ من ذكر العهد ، فمعناه : أَوَكلما عاهدوا عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم . والفريق الجماعة لا واحد له من لفظه بمنزلة الجيش والرهط الذي لا واحد له من لفظه . والهاء والميم اللتان في قوله : فَرِيقٌ مِنْهُمْ من ذكر اليهود من بني إسرائيل .
وأما قوله : بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنْونَ فإنه يعني جل ثناؤه : بل أكثر هؤلاء الذين كلما عاهدوا الله عهدا وواثقوه موثقا نقضه فريق منهم لا يؤمنون . ولذلك وجهان من التأويل :
أحدهما : أن يكون الكلام دلالة على الزيادة والتكثير في عدد المكذّبين الناقضين عهد الله على عدد الفريق ، فيكون الكلام حينئذٍ معناه : أَوَكلما عاهدت اليهود من بني إسرائيل ربها عهدا نقض فريق منهم ذلك العهد ؟ لا ما ينقض ذلك فريق منهم ، ولكن الذي ينقض ذلك فيكفر بالله أكثرهم لا القليل منهم . فهذا أحد وجهيه . والوجه الاَخر : أن يكون معناه : أَوَكلما عاهدت اليهود ربها عهدا نبذ ذلك العهد فريق منهم ؟ لا ما ينبذ ذلك العهد فريق منهم فينقضه على الإيمان منهم بأن ذلك غير جائز لهم ، ولكن أكثرهم لا يصدّقون بالله ورسله ، ولا وعده ووعيده . وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى الإيمان وأنه التصديق .
قوله : { أو كلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم } استفهام مستعمل في التوبيخ معطوف على جملة القسم لا على خصوص الجواب وقدمت الهمزة محافظة على صدارتها كما هو شأنها مع حروف العطف . والقول بأن الهمزة للاستفهام عن مقدر محذوف والواوعاطفة ما بعدها على المحذوف علمتم إبطاله عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول } . وتقديم { كلما } تبع لتقديم حرف الاستفهام وقد تقدم توجيهه عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } [ البقرة : 87 ] .
والنبذ إلقاء الشيء من اليد وهو هنا استعارة لنقض العهد شبه إبطال العهد وعدم الوفاء به بطرح شيء كان ممسوكاً باليد كما سموا المحافظة على العهد والوفاء به تمسكاً قال كعب : *ولا تمسك بالوعد الذي وعدت * . والمراد بالعهد عهد التوراة أي ما اشتملت عليه من أخذ العهد على بني إسرائيل بالعمل بما أمروا به أخذاً مكرراً حتى سميت التوراة بالعهد ، وقد تكرر منهم نقض العهد مع أنبيائهم . ومن جملة العهد الذي أخذ عليهم أن يؤموا بالرسول المصدق للتوراة . وأسند النبذ إلى فريق إما باعتبار العصور التي نقضوا فيها العهود كما تؤذن به { كلما } أو احتراساً من شمول الذم للذين آمنوا منهم . وليس المراد أن ذلك الفريق قليل منهم فنبه على أنه أكثرهم بقوله : { بل أكثرهم لا يؤمنون } وهذا من أفانين البلاغة وهو أن يظهر المتكلم أنه يوفي حق خصمه في الجدال فلا ينسب له المذمة إلا بتدرج وتدبر قبل الإبطال .
ولك أن تجعلها للانتقال من شيء إلى ما هو أقوى منه في ذلك الغرض لأن النبذ قد يكون بمعنى عدم العمل دون الكفر والأول أظهر .