الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{أَوَكُلَّمَا عَٰهَدُواْ عَهۡدٗا نَّبَذَهُۥ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (100)

قوله تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } : الجمهورُ على تحريك واو " أَوَ كلما " واختلف النحْويون في ذلك على ثلاثةِ أقوال ، فقال الأخفش : إنّ الهمزةَ للاستفهام والواوُ زائدةٌ ، وهذا على رأيِه في جوازِ زيادتِها . وقال الكسائي : هي " أَوْ " العاطفةُ التي بمعنى بل ، وإنما حُرّكَتِ الواوُ ، ويؤيِّدهُ قراءةُ مَنْ قرأَها ساكنةً . وقال البصريون : هي واوُ العطفُ قُدَّمَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ على ما عُرِفَ ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشري يُقَدِّرُ بينَ الهمزةِ وحرفِ العطف شيئاً يَعْطِفُ عليه ما بعده ، لذلك قَدَّره هنا : أكفروا بالآياتِ البيِّناتِ وكُلَّما عاهدوا .

وقرأ أبو السَّمَّال العَدَوي : " أَوْ كلَّما " ساكنةَ الواو ، وفيها أيضاً ثلاثةُ أقوال ، فقالَ الزمخشري : " إنها عاطفةٌ على " الفاسقين " ، وقدَّره بمعنى إلاَّ الذين فَسَقُوا أو نَقَضُوا يعني به أنه عَطَفَ الفعلَ على الاسم لأنه في تأويلهِ كقولِه : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] أي : الذين اصَّدَّقوا وأَقْرضوا . وفي هذا كلامٌ يأتي في سورتِه إنْ شاء الله تعالى ، وقال المهدوي : " أَوْ " لانقطاعِ الكلامِ بمنزلة أَمْ المنقطعةِ ، يعني أنَّها بمعنى بل ، وهذا رأيُ الكوفيين وقد تقدَّم تحريرُ هذا القولِ وما استدلُّوا به من قوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . أو أَنْتَ في العَيْنِ أَمْلَحُ

في أولِ السورةِ ، وقالَ بعضُهم : هي بمعنى الواوِ فتتفقُ القراءتان ، وقد ثَبَتَ ورودُ " أو " بمنزلةِ الواوِ كقوله :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ما بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِه أو سافِعِ

{ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً } [ النساء : 112 ] { آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] فلْتَكُنْ هذه القراءةُ كذلك ، وهذا أيضاً رأيُ الكوفيين كما تقدَّم . والناصبُ لكُلَّما بعدَه ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيها . وانتصابُ " عَهْداً " على أحدِ وَجْهين : إمَّا على المصدرِ الجاري على غيرِ الصَّدْر وكان الأصلُ : " معاهدةً " ، أو على المفعولِ به على أَنْ يُضَمَّن عاهدوا معنى أَعْطَوا ، ويكونُ المفعولُ الأولُ محذوفاً ، والتقديرُ : عاهدوا الله عَهْدَاً .

وقُرِىءَ : " عَهِدُوا " فيكونُ " عهْداً " مصدراً/ جارياً على صَدْرِه ، وقُرىء أيضاً : " عُوْهِدُوا " مبنياً للمفعولِ "

قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } هذا فيه قولان ، أحدُهما : أنه من بابِ عطفِ الجملِ وهو الظاهرُ ، وتكونُ " بل " لإِضرابِ الانتقالِ لا الإِبطالِ وقد عَرَفَتْ أنَّ " بل " لا تُسَمَّى عاطفةً حقيقةً إلا في المفرداتِ . والثاني : أنه يكونُ من عطفِ المفرداتِ ويكونُ " أكثرُهم " معطوفاً على " فريقٍ " ، و " لا يؤمنون " جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من " أكثرُهم " . وقال ابن عطية " من الضمير في " أكثرُهم " ، وهذا الذي قاله جائزٌ ، لا يُقال : إنها حالٌ من المضافِ إليه لأنَّ المضافَ جزءٌ من المضافِ إليه وذلك جائزٌ : وفائدةُ هذا الإِضرابِ على هذا القولِ أنه لمَّا كان الفريقُ ينطلِقُ على القليلِ والكثيرِ وأَسْنَدَ النَّبْذَ إليه ، وكان فيما يتبادَرُ إليه الذهنُ أنَّه يُحْتمل أَنَّ النابذين للعَهْد قليلٌ بَيَّن أنَّ النابذين هم الأكثرُ دَفْعاً للاحتمال المذكورِ ، والنَّبْذُ : الطَّرحُ وهو حقيقةٌ في الأجْرام وإسنادُه إلى العَهْدِ مجازٌ .