ثم شرع - سبحانه - فى بيان أحكام المواريث بعد أن بين الأحكام التى تتعلق بأموال اليتامى فساق - قاعدة عامة لأصل التوريث فى الإسلام هى أن الرجال لا يختصون بالميراث ، بل للنساء معهم حظ مقسوم ، ونصيب مفروض ، سواء أكان الشئ الموروث قليلا أم كثيرا فقال تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ . . . } .
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ( 7 )
قال القرطبى ما ملخصه : نزلت هذه الآية فى أوس بن ثابت الأنصارى . توفى وترك امرأة يقال لها : أم كُجّة وثلاث بنات له منها ؛ فقام رجلان هما أبنا عم الميت ووصياه يقال لهما : سويد وعرفجة ؛ فأخذا ماله ولم يعطيا أمرأته وبناته شيئا . وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا ويقولون : لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل ، وطاعن بالرمح ، وضارب بالسيف ، وحاز الغنيمة . فذكرت أم كجة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فدعاهما فقالا : يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرسا ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكأ عدوا . فقال صلى الله عليه وسلم : " انصرفا حتى أنظر ما يحدث الله لى فيهن ، فأنزل الله هذه الآية .
ثم قال : قال علماؤنا : فى هذه الآية فوائد ثلاث :
إحداها : بيان علة الميراث وهى القرابة .
الثانية : عموم القرابة كيفما تصرفت من قريب أو بعيد .
الثالثة : إجمال النصيب المفروض . وذلك مبين فى آية المواريث ؛ فكأن هذه الآية توطئة للحكم ، وإبطال لذلك الرأى الفاسد حتى وقع البيان الشافى " .
هذا ، ومن العلماء من أبقى هذه الآية الكريمة على ظاهرها ، فجعل المراد من الرجال : الذكور البالغين . والمراد من الوالدين : الأب والأم بلا واسطة المراد من الأقربين : الأقارب الأموات الذين يرثهم أقاربهم المستحقون لذلك والمراد من النساء الإِناث البالغات .
والمعنى على هذا الرأى : للذكور البالغين نصيب أى حظ مما ترك آباؤهم وأمهاتهم وأقاربهم كإخوتهم وأخواتهم وأعمالهم وعماتهم وللاناث البالغات كذلك نصيب مما ترك آباؤهن وأمهاتهن وأقاربهن . . . ألخ .
وبهذا تكون الآية الكريمة قد اقتصرت على بيان أن الإِرث غير مختص بالرجال كما كان الجاهليون يفعلون ، بل هو أمر مشترك بين الرجال والنساء ، ثم جاءت آيات المواريث بعد ذلك فبينت نصيب كل وارث .
قال الإِمام الرازى : ذكر الله - تعالى - فى هذه الآية هذا القدر ، وهو أن الإِرث مشترك بين الرجال والنساء - ثم ذكر التفصيل بعد ذلك - فى آيات المواريث - ، لأنه - سبحانه - أراد أن ينقلهم عن العادة شاق ثقيل على الطبع . فإذا كان فجعلة عظم وقعه على القلب ، وإذا كان على التدريج سهل . فهلذا المعنى ذكر الله - تعالى - هذا المجمل أولا ثم أردفه بالتفصيل ومن العلماء من يرى أن المراد بالرجال الصغار من الذكور ومن النساء الصغار من الإِناث ، وعلل مراده هذا بأن فيه عناية بشأن اليتامى ، وفيه رد صريح على ما تعوده أهل الجاهلية من توريث الكبار من الرجال دون الصغار سواء أكانوا ذكورا أم إناثا . ومنهم من عمهم فى الرجال والنساء فجعل المراد من الرجال الذكور مطلقا سواء أكانوا كبارا أم صغارا .
وجعل المراد من النساء الإِناث مطلقا سواء كان كباراً أم صغاراً .
ويكون المعنى : للذكور نصيب مما تركه الوالدان والأقربون من متاع ، وللإِناث كذلك نصيب مما تركه الوالدان والأقربون .
وعليه يكون المقصود من الآية الكريمة التسوية بين الذكور والإِناث فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثالث أولى ، لأنه أعم من غيره ، وأشمل فى الرد على ما كان يفعله أهل الجاهلية من عدم توريثهم للنساء مطلقا ولا للصغار وإن كانوا ذكوراً ، ولأنه يشمل سبب نزول الآية نصا ، فقد ذكرنا فى سبب النزول أنها نزلت فى شأن بنات أوس بن ثابت وزوجته .
وقد أكد - سبحانه - حق النساء في الميراث بأن اختار هذا الأسلوب التفصيلى فقال : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } مع أنه كان يكفى أن يقول : للرجال والنساء نصيب ، مما ترك الوالدان والأقربون ، وذلك للإِيذان بأصالتهن فى استحقاق الارث ، وللإِشعار بأنه حق مستقل عن حق الرجال ، وأن هذا الحق قد ثبت لهن استقلالا بالقرابة كما ثبت للرجال ، حتى لا يتوهم أحد أن حقهن تابع لحقهم بأى نوع من أنواع التبعية .
ثم أكد - سبحانه هذا الحق مرة أخرى بقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } أى أن حق النساء ثبات فيما تكره المتوفى من مال لسواء أكان هذا المتروك قليلاً أم كثيراً ، لأن الذكور والإِناث يتساويان فى أن لكل منهما حقا فيما ترك الوالدان والأقربون حتى ولو كان هذا المتروك شيئاً قليلا .
فقوله { مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ } عطف بيان من قوله { مِّمَّا تَرَكَ الوالدان } لقصد التعميم والتنصيص على أن حق النساء متعلق بكل جزء من المال الذى تركه الوالدان والأقربون ثم أكد - سبحانه - حق النساء فى الميراث مرة ثالثة بقوله { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } لأن قوله { نَصِيباً } منصوب على الاختصاص والاختصاص يفيد العناية .
أى أن لكل من الرجال والنساء نصيبا فيما تركه الوالدان والأقربون ، وهذا النصيب قد فرضه الله - تعالى - فلا سبيل إلى التهاون فيه ، بل لا بد من إعطائه لمن يستحقه كاملا غير منقوص ؛ لأن الله هو الذى شرعه ، ومن خالف شرع الله كان أهلا للعقوبة منه - سبحانه - .
قال صاحب الكشاف : وقوله : { نَصِيباً مَّفْرُوضاً } نصب على الاختصاص بمعنى : أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا لا بد لهم من أن يجوزوه ولا يستأثر به بعضهم دون بعض ، ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد كقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } كأنه قيل : قسمة مفروضة .
هذا ، وقد استدل الأحناف بهذه الآية على توريث ذوى الأرحام ؛ لأن العمات والخالات وأولاد البنات ونحوهن من الأقربين ، فوجب دخولهم تحت قوله تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } الآية . وثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بهذه الآية ، وأما المقدار فمستفاد من آيات أخرى كما هو الشأن فى غيرهم .
أما المخالفون للأحناف فيما ذهبوا إليه فيرون أن المراد من الأقربين الوالدان والأولاد ونحوهم وحينئذ لا يدخل فيهم ذوو الأرحام . وعلى رأى هؤلاء المخالفين يكون عطف الأقربين على الوالدين من باب عطف العام على الخاص .
كذلك استدل الأحناف بهذه الآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه - قبل استحقاقه - لم يسقط حقه .
ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية - في الغالب - إلا التافه القليل . لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرسا ، ولا يردون عاديا ! فإذا شريعة الله تجعل الميراث - في أصله - حقا لذوي القربى جميعا - حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد - وذلك تمشيا مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة ، وفي التكافل الإنساني العام . وحسب قاعدة : الغنم بالغرم . . فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج ، والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح ، فعدل إذن أن يرثه - إن ترك مالا - بحسب درجة قرابته وتكليفه به . والإسلام نظام متكامل متناسق . ويبدو تكامله وتناسقه واضحا في توزيع الحقوق والواجبات . .
هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة . . وقد نسمع هنا وهناك لغطا حول مبدأ الإرث ، لا يثيره إلا التطاول على الله - سبحانه - مع الجهل بطبيعة الإنسان ، وملابسات حياته الواقعية !
إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي ، يضع حدا لهذا اللغط على الإطلاق . .
إن قاعدة هذا النظام هي التكافل . . ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية . هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثا في الفطرة ، إنما خلقها لتؤدي دورا أساسيا في حياة الإنسان .
ولما كانت روابط الأسرة - القريبة والبعيدة - روابط فطرية حقيقية ؛ لم يصطنعها جيل من الأجيال ؛ ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال ! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام . . لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام . وجعل الإرث مظهرا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة . فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام .
فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة ، لتكملها وتقويها . فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة ، جهود الأسرة ، وجهود الجماعة المحلية المحدودة . . وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة . . أولا لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة ، تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نموا طبيعيا غير مصطنع - فضلا على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث - أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشىء آثارا طبيعية تلائم الفطرة . . فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته - وبخاصة ذريته - يحفزه إلى مضاعفة الجهد ، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر . لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة . فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج . .
وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهدا - كما يقال ! - فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة ، ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجا وذاك ذا مال . ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج . تمشيا مع قاعدة التكافل العام .
ثم إن العلاقة بين المورث والوارث - وبخاصة الذرية - ليست مقصورة على المال . فإذا نحن قطعنا وراثة المال ، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى ، والوراثات الأخرى بينهما .
إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة ، لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده . إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة ، والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة ، والانحراف والاستقامة ، والحسن والقبح ، والذكاء والغباء . . إلخ . وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم ، ولا تتركهم من عقابيلها أبدا . فمن العدل إذن أن يورثوهم المال . وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء ، ولا تملك الدولة - بكل وسائلها - أن تعفيهم من هذه الوراثات .
من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية - ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى - شرع الله قاعدة الإرث :
( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) . .
هذا هو المبدأ العام ، الذي أعطى الإسلام به " النساء " منذ أربعة عشر قرنا ، حق الإرث كالرجال - من ناحية المبدأ - كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم . لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج . أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني ، ينظر إلى " الإنسان " - أولا - حسب قيمته الإنسانية . وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال ! ثم ينظر إليه - بعد ذلك - حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة .
{ لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنّسَآءِ نَصِيبٌ مّمّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مّفْرُوضاً } .
يعني بذلك تعالى ذكره : للذكور من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه وللإناث منهم حصة منه ، من قليل ما خلف بعده وكثيره حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقتة . وذكر أن هذه الاَية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كانوا لايورثون النساء ، فنزلت : { وَللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عكرمة ، قال : نزلت في أم كُحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد ، وهم من الأنصار ، كان أحدهم زوجها ، والاَخر عمّ ولدها ، فقالت : يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته ، فلم نورّث ، فقال عمّ ولدها : يا رسول الله لا تركب فرسا ، ولا تحمل كلاّ ، ولا تنكأ عدوّا يكسب عليها ، ولا تكتسب . فنزلت : { للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ وللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبا مَفُرُوضا } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { للرِجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ } قال : كان النساء لا يرثن في الجاهلية من الاَباء ، وكان الكبير يرث ولا يرث الصغير وإن كان ذكرا ، فقال الله تبارك وتعالى : { للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ } إلى قوله : { نَصِيبا مَفرُوضا } .
قال أبو جعفر : ونصب قوله : { نَصِيبا مَفْرُوضا } وهو نعت للنكرة لخروجه مخرج المصدر ، كقول القائل : لك عليّ حقّ واجبا ، ولو كان مكان قوله : { نَصِيبا مَفْرُوضا } اسم صحيح لم يجز نصبه ، لا يقال : لك عندي حقّ درهما ، فقوله : { نَصِيبا مَفُرُوضا } كقوله : نصيبا فريضة وفرضا ، كما يقال : عندي درهم هبة مقبوضة .
استئناف ابتدائي ، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى ، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] .
ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها : أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال ، وحرمان الضعفاء ، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم ، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم ، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان ، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم ، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم ، فصاروا عالة على الناس .
وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ ، ويخشين عار الضيعة ، ويتّقين انحراف الأزواج ، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر ، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم ، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون .
فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون ، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون ، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث ، وقد تأيّد ذلك بقوله : { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى } [ النساء : 8 ] فإنّ ذلك يناسب الميراث ، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى .
ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث ، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة ، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور ، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ ، ولا تعطى بناته شيئاً ، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات .
وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً ، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح ، وضرب بالسيف . فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة : الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا ، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة .
ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا ، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها ، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث : بالهجرة ، فالمهاجر يرث المهاجر ، وبالحلف ، وبالمعاقدة ، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار ، ونزل في ذلك قوله تعالى : { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 33 ] الآية من هاته السورة . s وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة ، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين ، فشرع الله الميراث بالقرابة ، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة ، وأسبغ النعمة ، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها .
وقد كان قوله تعالى : { وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب .
ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله ، لقصد تهيئة النفوس ، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج .
روى الواحدي ، في أسباب النزول ، والطبري ، عن عكرمة ، وأحَدُهما يزيد على الآخر ما حاصله : إنّ أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كُحَّة فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : « إنّ زوجي قُتِل معك يوم أُحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمّهما مالَهما فما ترى يا رسول الله ؟ فواللَّهِ ما تَنْكحان أبداً إلاّ ولهما مال » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقضي الله في ذلك " . فنزلت سورة النساء وفيها : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] . قال جابر بن عبد الله : فقال رسول الله " ادع لي المرأة وصاحبَها " فقال لعمهما " أعطهما الثلثين وأعط أمّهما الثمن وما بقي فلَك " . ويروى : أنّ ابني عمّه سويد وعرفطة ، وروى أنّهما قتادة وعرفجة ، وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا دعا العَمّ أو ابني العمّ قال ، أو قالا له « يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرساً ولا يحمل كَلا ولا يَنكي عدوّا » فقال " انصرف أوْ انصرفا ، حتّى أنظرَ ما يحدث الله فيهنّ " فنزلت آية { للرجال نصيب } الآية . وروي أنّه لمّا نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى وليّ البنتين فقال : " لا تفرّق من مال أبيهما شيئاً فإنّ الله قد جعل لهنّ نصيباً " والنصيب تقدّم عند قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } في سورة آل عمران ( 23 ) .
وقوله : بيان لمما ترك } لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال ، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء ، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن مَعِّد بن عدنان لأبنائه : مضر ، وربيعة ، وإياد ، وأنْمارِ ، فجعل لمضر الحمراء كلّها ، وجعل لربيعة الفرسَ ، وجعل لإياد الخادم ، وجعل لأنمار الحمار ، ووكَلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجُرْهُمي في نَجْران ، فانصرفوا إليه ، فقسم بينهم ، وهو الذي أرسل المثَل : إنّ العَصَا من العُصَيَّة .
وقوله : { نصيباً مفروضاً } حال من ( نصيب ) في قوله : { للرجال نصيب } { وللنساء نصيب } وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه مفرداً ولم يراع تعدّده ، فلم يُقَل : نصيبين مفروضين ، على اعتبار كون المذكور نصيبين ، ولا قيل : أنصباء مفروضة ، على اعتبار كون المذكور موزّعا للرجال وللنساء ، بل روعي الجنس فجيء بالحال مفرداً و { مفروضا } وصف ، ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء ، كما قال تعالى في الآية الآتية { فريضة من الله } [ النساء : 11 ] . وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث .