الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{لِّلرِّجَالِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٞ مِّمَّا تَرَكَ ٱلۡوَٰلِدَانِ وَٱلۡأَقۡرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنۡهُ أَوۡ كَثُرَۚ نَصِيبٗا مَّفۡرُوضٗا} (7)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون}، نزلت في أوس بن مالك الأنصاري، وذلك أن أوس بن مالك الأنصاري توفي وترك امرأته أم كحة الأنصارية، وترك ابنتين إحداهن صفية، وترك ابني عمه عرفطة وسويد ابني الحارث، فلم يعطياها ولا ولديها شيئا من الميراث، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء ولا الولدان الصغار شيئا، ويجعلون الميراث لذوي الأسنان منهم، فانطلقت أم كحة وبناتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أباهن توفي، وإن سويد بن الحارث وعرفطة منعاهن حقهن من الميراث، فأنزل الله عز وجل في أم كحة وبناتها: {للرجال نصيب}: يعني حظا، {وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون}: يعني حظا، {مما قل منه}: من الميراث، {أو كثر نصيبا مفروضا}: حظا مفروضا، يعني معلوما، فأخذت أم كحة الثُّمُن وبناتها الثلثين، وبقيته لسويد وعرفطة.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

للذكور من أولاد الرجل الميت حصة من ميراثه، وللإناث منهم حصة منه، من قليل ما خلف بعده وكثيره، حصة مفروضة واجبة معلومة مؤقتة. وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث... عن عكرمة، قال: نزلت في أم كُحة وابنة كحة وثعلبة وأوس بن سويد، وهم من الأنصار، كان أحدهم زوجها، والآخر عمّ ولدها، فقالت: يا رسول الله توفي زوجي وتركني وابنته، فلم نورّث، فقال عمّ ولدها: يا رسول الله لا تركب فرسا، ولا تحمل كلاّ، ولا تنكأ عدوّا يكسب عليها، ولا تكتسب. فنزلت: {للرّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ وللنّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْرَبُونَ مِمّا قَلّ مِنْهُ أوْ كَثُرَ نَصِيبا مَفُرُوضا}.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

تحتمل الآية وجهين بعد هذا: تحتمل أن يكون المراد الأولاد خاصة لا غير، فيدخل كل ولد (من) ولد البنات وولد البنين لأنهم كلهم أولاده، وتحتمل أن يكون المراد منها الرجال والنساء فيدخل ذوو الأرحام في ذلك، فلما لم يدخل بنات البنات في ذلك وهم أولاده دل أنه أراد النساء والرجال جميعا لا الأولاد خاصة.

وفيه دلالة نسخ الوصية للوارث، لأنه قال عز وجل: {للرجال نصيب} إلى قوله: {مفروضا} أي معلوما بما أوجب في كل قليل ثم قال في قوله: {نصيبا مفروضا} قيل: ذا يرجع إلى ما بين فرضه، وهم أصحاب الفرائض دون العصبات، فيكون على ما أشار إلى حقه من حيث الاسم في القرآن.

ويحتمل ما بين، وقد جرى فيه ذكر حقين:

أحدهما: حق العصبة كما ذكر في الأب والإخوة والأولاد.

والثاني: حق أصحاب الفرائض، ولو كان على ذلك فقد يتضمن الفرض ما يعلم بالإشارة إليه والدلالة لأن أكثر من يوصي بحق العصبة هو ما لا نص فيه. والذي فيه النص هو في الأولاد والإخوة خاصة والوالد، وقيل: يتضمن كل الأقرباء على اختلاف الدرجات فيكون منصوصا وأيضا مدلولا عليه ويؤيد هذا التأويل قوله: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض}

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

حكم الميراث لا يختلف بالفضل والمنقبة، ولا يتفاوت بالعيب والنقص والذنب؛ فلو مات رجلٌ وخلف ابنين تساويا في الاستحقاق وإنْ كان أحدهما براً تقياً والآخر فاجراً عَصِياً، فلا للتقي زيادة لتقواه، ولا للفاجر بخس لفجوره، والمعنى فيه أن الميراث ابتداء عطيّةٍ من قِبَل الله، فيتساوى فيه البر والفاجر..

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثُ فَوَائِدَ:

إحْدَاهَا: بَيَانُ عِلَّةِ الْمِيرَاثِ، وَهِيَ الْقَرَابَةُ.

الثَّانِي: عُمُومُ الْقَرَابَةِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ مِنْ قُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ.

الثَّالِثُ: إجْمَالُ النَّصِيبِ الْمَفْرُوضِ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ خُصُوصَ الْقَرَابَةِ وَمِقْدَارَ النَّصِيبِ، وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَةِ تَوْطِئَةً لِلْحُكْمِ وَإِبْطَالًا لِذَلِكَ الرَّأْيِ الْفَاسِدِ، حَتَّى وَقَعَ الْبَيَانُ الشَّافِي بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى سِيرَةِ اللَّهِ وَسُنَّتِهِ فِي إبْطَالِ آرَائِهِمْ وَسُنَّتِهِمْ.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما ذكر أموال اليتامى على حسب ما دعت إليه الحاجة واقتضاه التناسب إلى أن ختم بهذه الآية، كان كأن سائلاً سأل: من أين تكون أموالهم؛ فبين ذلك بطريق الإجمال بقوله تعالى: {للرجال} أي الذكور من أولاد الميت وأقربائه، ولعله عبر بذلك دون الذكور لأنهم كانوا لا يورثون الصغار، ويخصون الإرث بما عمر الديار، فنبه سبحانه على أن العلة النطفة {نصيب} أي منهم معلوم {مما ترك الوالدان والأقربون}. ولما كانوا لا يورثون النساء قال: {وللنساء نصيب} ولقصد التصريح للتأكيد قال موضع "مما تركوا ": {مما ترك الوالدان والأقربون} مشيراً إلى أنه لا فرق بينهن وبين الرجال في القرب الذي هو سبب الإرث، ثم زاد الأمر تأكيداً وتصريحاً بقوله إبدالاً مما قبله بتكرير العامل: {مما قل منه أو كثر} ثم عرف بأن ذلك على وجه الحتم الذي لا بد منه، فقال مبيناً للاعتناء به بقطعه عن الأول بالنصب على الاختصاص بتقدير أعني: {نصيباً مفروضاً} أي مقدراً واجباً مبيناً، وهذه الآية مجملة بينتها آية المواريث، وبالآية علم أنها خاصة بالعصبات من التعبير بالفرض لأن الإجماع -كما نقله الأصبهاني عن الرازي- على أنه ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر.

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

لما ذكر سبحانه حكم أموال اليتامى، وصله بأحكام المواريث، وكيفية قسمتها بين الورثة. وأفرد سبحانه ذكر النساء بعد ذكر الرجال، ولم يقل للرجال والنساء نصيب، للإيذان بأصالتهنّ في هذا الحكم، ودفع ما كانت عليه الجاهلية من عدم توريث النساء، وفي ذكر القرابة بيان لعلة الميراث مع التعميم لما يصدق عليه مسمى القرابة من دون تخصيص..

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

... جمهور المفسرين على أن هذا الكلام جديد وهو انصراف عن الموضوع قبله، ولكن قوله تعالى بعد ثلاث آيات (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) الخ يدل على أن الكلام في شأن اليتامى لا يزال متصلا، فإنه بعد أن بين التفصيل في حرمة أكل أموال اليتامى وأمر بإعطائهم أموالهم إذا رشدوا ذكر أن المال الموروث الذي يحفظه الأولياء لليتامى يشترك فيه الرجال والنساء خلافا لما كان في الجاهلية من عدم توريث النساء فهذا تفصيل آخر في المال نفسه بعد ذلك التفصيل في الإعطاء ووقته وشرطه. ومال اليتامى إنما يكون في الأغلب من الوالدين والأقربين. فمعنى الآية: إذا كان لليتامى مال مما تركه لهم الوالدان والأقربون فهم فيه على الفريضة لا فرق في شركة النساء والرجال فيه بين القليل والكثير، ولهذا كرر (مما ترك الوالدان والأقربون) وعنى بقوله (نصيبا مفروضا) أنه حق معين مقطوع به لا محاباة فيه وليس لأحد أن ينقصهم منه شيئا.

وأقول زيادة في إيضاح رأي الأستاذ الإمام: إن الأوامر والنواهي في الآيات السابقة كانت في إبطال ما كانت عليه العرب في الجاهلية من هضم حق الضعيفين اليتيم والمرأة وبيان حقوق اليتامى والزوجات ومنع ظلمهن فمنع فيها أكل أموال اليتامى بضمها إلى أموال الأولياء أو بالاستبدال الذي يؤخذ فيه جيد اليتيم ويعطى رديئا بدله، ومنع أكل مهور النساء أو عضلهن للتمتع بأموالهن أو تزوجيهن بغير مهر أو الاستكثار منهن لأكل أموالهن وغير ذلك من ظلمهن – فكما حرم هذا كله فيما تقدم حرم في هذه الآية منع توريث المرأة والصغير- فالكلام لا يزال في حقوق اليتامى والنساء ومنع الظلم الذي كان يصيب كلا منهما. وذكر بلفظ الرجال والنساء لأن الحكم فيه عام.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ولقد كانوا في الجاهلية لا يورثون البنات ولا الصبية -في الغالب- إلا التافه القليل. لأن هؤلاء وهؤلاء لا يركبون فرسا، ولا يردون عاديا! فإذا شريعة الله تجعل الميراث -في أصله- حقا لذوي القربى جميعا -حسب مراتبهم وأنصبتهم المبينة فيما بعد- وذلك تمشيا مع نظرية الإسلام في التكافل بين أفراد الأسرة الواحدة، وفي التكافل الإنساني العام. وحسب قاعدة: الغنم بالغرم.. فالقريب مكلف إعالة قريبه إذا احتاج، والتضامن معه في دفع الديات عند القتل والتعويضات عند الجرح، فعدل إذن أن يرثه -إن ترك مالا- بحسب درجة قرابته وتكليفه به. والإسلام نظام متكامل متناسق. ويبدو تكامله وتناسقه واضحا في توزيع الحقوق والواجبات..

هذه هي القاعدة في الإرث بصفة عامة.. وقد نسمع هنا وهناك لغطا حول مبدأ الإرث، لا يثيره إلا التطاول على الله -سبحانه- مع الجهل بطبيعة الإنسان، وملابسات حياته الواقعية!

إن إدراك الأسس التي يقوم عليها النظام الاجتماعي الإسلامي، يضع حدا لهذا اللغط على الإطلاق..

إن قاعدة هذا النظام هي التكافل.. ولكي يقوم هذا التكافل على أسس وطيدة راعى الإسلام أن يقوم على أساس الميول الفطرية الثابتة في النفس البشرية. هذه الميول التي لم يخلقها الله عبثا في الفطرة، إنما خلقها لتؤدي دورا أساسيا في حياة الإنسان.

ولما كانت روابط الأسرة -القريبة والبعيدة- روابط فطرية حقيقية؛ لم يصطنعها جيل من الأجيال؛ ولم تصطنعها جميع الأجيال بطبيعة الحال! والجدال في جدية هذه الروابط وعمقها وأثرها في رفع الحياة وصيانتها وترقيتها كذلك لا يزيد على أن يكون مراء لا يستحق الاحترام.. لما كان الأمر كذلك جعل الإسلام التكافل في محيط الأسرة هو حجر الأساس في بناء التكافل الاجتماعي العام. وجعل الإرث مظهرا من مظاهر ذلك التكافل في محيط الأسرة. فوق ما له من وظائف أخرى في النظام الاقتصادي والاجتماعي العام.

فإذا عجزت هذه الخطوة أو قصرت عن استيعاب جميع الحالات المحتاجة إلى التكافل جاءت الخطوة التالية في محيط الجماعة المحلية المتعارفة، لتكملها وتقويها. فإذا عجزت هذه جاء دور الدولة المسلمة لتتولى كل من قصرت في إعالتهم وكفالتهم الكاملة، جهود الأسرة، وجهود الجماعة المحلية المحدودة.. وبذلك لا يلقى العبء كله على عاتق الجهاز العام للدولة.. أولا لأن التكافل في محيط الأسرة أو في محيط الجماعة الصغيرة يخلق مشاعر لطيفة رحيمة، تنمو حولها فضائل التعاون والتجاوب نموا طبيعيا غير مصطنع -فضلا على أن هذه المشاعر كسب إنساني لا يرفضه إلا لئيم نكد خبيث- أما التكافل في محيط الأسرة بصفة خاصة فينشئ آثارا طبيعية تلائم الفطرة.. فشعور الفرد بأن جهده الشخصي سيعود أثره على ذوي قرابته -وبخاصة ذريته- يحفزه إلى مضاعفة الجهد، فيكون نتاجه للجماعة عن طريق غير مباشر. لأن الإسلام لا يقيم الفواصل بين الفرد والجماعة. فكل ما يملك الفرد هو في النهاية ملك للجماعة كلها عندما تحتاج..

وهذه القاعدة الأخيرة تقضي على كل الاعتراضات السطحية على توريث من لم يتعب ولم يبذل جهدا -كما يقال!- فهذا الوارث هو امتداد للمورث من جهة، ثم هو كافل هذا المورث لو كان هذا محتاجا وذاك ذا مال. ثم في النهاية هو وما يملك للجماعة عندما تحتاج. تمشيا مع قاعدة التكافل العام.

ثم إن العلاقة بين المورث والوارث -وبخاصة الذرية- ليست مقصورة على المال. فإذا نحن قطعنا وراثة المال، فما نحن بمستطيعين أن نقطع الوشائج الأخرى، والوراثات الأخرى بينهما.

إن الوالدين والأجداد والأقرباء عامة، لا يورثون أبناءهم وأحفادهم وأقاربهم المال وحده. إنما يورثونهم كذلك الاستعدادات الخيرة والشريرة، والاستعدادات الوراثية للمرض والصحة، والانحراف والاستقامة، والحسن والقبح، والذكاء والغباء.. إلخ. وهذه الصفات تلاحق الوارثين وتؤثر في حياتهم، ولا تتركهم من عقابيلها أبدا. فمن العدل إذن أن يورثوهم المال. وهم لا يعفونهم من المرض والانحراف والغباء، ولا تملك الدولة -بكل وسائلها- أن تعفيهم من هذه الوراثات.

من أجل هذه الواقعيات الفطرية والعملية في الحياة البشرية -ومن أجل غيرها وهو كثير من المصالح الاجتماعية الأخرى- شرع الله قاعدة الإرث:

(للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون -مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا)..

هذا هو المبدأ العام، الذي أعطى الإسلام به "النساء "منذ أربعة عشر قرنا، حق الإرث كالرجال- من ناحية المبدأ -كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم. لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج. أما الإسلام فجاء بمنهجه الرباني، ينظر إلى "الإنسان"- أولا -حسب قيمته الإنسانية. وهي القيمة الأساسية التي لا تفارقه في حال من الأحوال! ثم ينظر إليه- بعد ذلك -حسب تكاليفه الواقعية في محيط الأسرة وفي محيط الجماعة.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

استئناف ابتدائي، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى، ومجرى المقدّمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء: 11].

ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها: أنّهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشدّاء بالأموال، وحرمان الضعفاء، وإبقاءهم عالة على أشدّائهم حتّى يكونوا في مقادتهم، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم، وكان أكبر العائلة يَحرم إخوته من الميراث معه فكان أولئك لضعفهم يصبرون على الحرمان، ويقنعون بالعيش في ظلال أقاربهم، لأنّهم إن نازعوهم أطردوهم وحرموهم، فصاروا عالة على الناس.

وأخصّ الناس بذلك النساءُ فإنّهن يجدن ضعفاً من أنفسهنّ، ويخشين عار الضيعة، ويتّقين انحراف الأزواج، فيتّخذن رضى أوليائهُنّ عدّة لهنّ من حوادث الدهر، فلمّا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيباً ممّا ترك الوالدان والأقربون.

فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه ممّا ترك له الوالدان والأقربون، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم ممّا ترك الوالدان والأقربون، وذُكر النساءُ هناك تمهيداً لشرع الميراث، وقد تأيّد ذلك بقوله: {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى} [النساء: 8] فإنّ ذلك يناسب الميراث، ولا يناسب إيتاءَ أموال اليتامى.

ولا جرم أنّ من أهمّ شرائع الإسلام شرع الميراث، فقد كان العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصيّة لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والودّ، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يُصرف لأبْناء الميّت الذكور، فإن لم يكن له ذكور فقد حكي أنّهم يصرفونه إلى عصبته من إخوة وأبناء عمّ، ولا تعطى بناته شيئاً، أمّا الزوجات فكنّ موروثات لا وارثات.

وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوّة إلاّ إذا كان الأبناء ذكوراً، فلا ميراث للنساء لأنّهم كانوا يقولون إنّما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف. فإن لم تكن الأبناءُ الذكورُ وَرِث أقربُ العصبة: الأبُ ثمّ الأخُ ثمّ العمّ وهكذا، وكانوا يورثون بالتبنيّ وهو أن يتّخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبنِّي والمتبنَّى جميع أحكام الأبوّة.

ويورثون أيضاً بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلّة بينهما فيتعاقدا على أنّ دمهما واحد ويتوارثا، فلمّا جاء الإسلام لم يقع في مكّة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذّر تنفيذ ما يُخالف أحكام سكّانها، ثمّ لمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكّة صار التوريث: بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالأخوّة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون} [النساء: 33] الآية من هاته السورة. s وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظاً في ذلك فأتمّ الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أنّ حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.

وقد كان قوله تعالى: {وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون} أوّل إعطاء لحقّ الإرث للنساء في العرب.

ولكون هذه الآية كالمقدّمة جاءت بإجمال الحقّ والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله، لقصد تهيئة النفوس، وحكمة هذا الإجمال حكمةُ ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقلَ لتسكن النفوس إليها بالتدريج.

وقوله:"مما ترك" لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أنّ الحقّ متعلّق بكلّ جزء من المال، حتّى لا يستأثر بعضهم بشيء، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن مَعِّد بن عدنان لأبنائه: مضر، وربيعة، وإياد، وأنْمارِ، فجعل لمضر الحمراء كلّها، وجعل لربيعة الفرسَ، وجعل لإياد الخادم، وجعل لأنمار الحمار، ووكَلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجُرْهُمي في نَجْران، فانصرفوا إليه، فقسم بينهم، وهو الذي أرسل المثَل: إنّ العَصَا من العُصَيَّة.

وقوله: {نصيباً مفروضاً}: ومعنى كونه مفروضاً أنّه معيّن المقدار لكلّ صنف من الرجال والنساء، كما قال تعالى في الآية الآتية {فريضة من الله} [النساء: 11]. وهذا أوضح دليل على أنّ المقصود بهذه الآية تشريع المواريث.