ثم بين - سبحانه - ما نادى به زكريا ربه فقال : { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي . . . } والوهن : الضعف . يقال : وهن الجسم يهن - من باب وعد - إذا ضعف .
وخص العظم بالذكر ، لأنه دعامة البدن ، وعماد الجسم ، وبه قوامه ، فإذ ضعف كان غيره من أجزاء الجسم أضعف . وإفراد لفظ العظم لإرادة الجنس .
{ واشتعل الرأس شَيْباً } والمراد باشتعال الرأس شيبا : انتشار بياض الشيب فيه . والألف واللام فى لفظ { الرأس } قاما مقام المضاف إليه .
والمراد : واشتعل رأسى شيباً ، وهذا يدل على تقدم السن ، كما يشهد له قوله - تعالى - { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر . . } قال صاحب الكشاف : " شبه الشيب بشواظ النار فى بياضه وإنارته وانتشاره فى الشعر . . . باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومبته وهو الرأس ، وأخرج الشيب مميزا ولم يضف إلى الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة . . . " .
وقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أى : ولم أكن فيما مضى من عمرى مخيب الدعاء وإنما تعودت منك يا إليهى إجابة دعائى ، وما دام الأمر كذلك فأجب دعائى فى الزمان الآتى من عمرى ، كما أجبته فى الزمان الماضى منه .
فأنت ترى أن زكريا - عليه السلام - قد أظهر فى دعائه أسمى ألوان الأدب مع خالقه ، حيث توسل إليه - سبحانه - بضعف بدنه ، وبتقدم سنه ، وبما عوده إياه من إجابة دعائه فى الماضى .
قال : رب إني وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ، ولم أكن بدعائك رب شقيا . وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا ، فهب لي من لدنك وليا ، يرثني ويرث من آل يعقوب ، واجعله رب رضيا ) .
إنه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس ، بعيدا عن أسماعهم . في عزلة يخلص فيها لربه ، ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال : ( رب . . )بلا واسطة حتى ولا حرف النداء . وإن ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء ولكن المكروب يستريح إلى البث ، ويحتاج إلى الشكوى . والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر ، فيستحب لهم أن يدعوه وأن يبثوه ما تضيق به صدورهم . ( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق ، ولتطمئن قلوبهم إلى أنهم قد عهدوا بأعبائهم إلى من هو أقوى وأقدر ؛ وليستشعروا صلتهم بالجناب الذي لا يضام من يلجأ إليه ، ولا يخيب من يتوكل عليه .
وزكريا يشكو إلى ربه وهن العظم . وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن . فالعظم هو أصلب ما فيه ، وهو قوامه الذي يقوم به ويتجمع عليه . ويشكو إليه اشتعال الرأس شيبا . والتعبير المصور يجعل الشيب كأنه نار تشتعل ويجعل الرأس كله كأنما لتشمله هذه النار المشتعلة ، فلا يبقى في الرأس المشتعل سواد .
ووهن العظم واشتعال الرأس شيبا كلاهما كناية عن الشيخوخة وضعفها الذي يعانيه زكريا ويشكوه إلى ربه وهو يعرض عليه حاله ورجاءه . .
ثم يعقب عليه بقوله : ( ولم أكن بدعائك رب شقيا )معترفا بأن الله قد عوده أن يستجيب إليه إذا دعاه ، فلم يشق مع دعائه لربه ، وهو في فتوته وقوته . فما أحوجه الآن في هرمه وكبرته أن يستجيب الله له ويتم نعمته عليه .
وقوله : قالَ رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي يقول تعالى ذكره ، فكان نداؤه الخفيّ الذي نادى به ربه أن قال : رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي يعني بقوله وَهَنَ ضعف ورقّ من الكبر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قالَ رَبّ إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِنّي أي ضعف العظم مني .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وَهَنَ العَظْمُ مِنّي قال : نَحَل العظم . قال عبد الرزاق ، قال : الثوريّ : وبلغني أن زكريا كان ابن سبعين سنة .
وقد اختلف أهل العربية في وجه النصب في الشّيْب ، فقال بعض نحويّي البصرة : نصب على المصدر من معنى الكلام ، كأنه حين قال : اشتعل ، قال : شاب ، فقال : شَيْبا على المصدر . قال : وليس هو في معنى : تفقأت شحما وامتلأت ماء ، لأن ذلك ليس بمصدر . وقال غيره : نصب الشيب على التفسير ، لأنه يقال : اشتعل شيبُ رأسي ، واشتعل رأسي شيبا ، كما يقال : تفقّأت شحما ، وتفقّأ شحمي .
وقوله : ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا يقول : ولم أشق يا ربّ بدعائك ، لأنك لم تخيب دعائي قبل إذ كنت أدعوك في حاجتي إليك ، بل كنت تجيب وتقضي حاجتي قبلك . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قوله : ولَمْ أكُنْ بدُعائِكَ رَبّ شَقِيّا يقول : قد كنت تعرّفني الإجابة فيما مضى .
و { وهن } معناه ضعف ، والوهن في الشخص أو الأمر الضعف وقرأ الأعمش » وهِن «بكسر الهاء { واشتعل } مستعارة للشيب من اشتعال النار على التشبيه به .
و { شيباً } نصب على المصدر في قول من رأى { اشتعل } بمعنى شاب ، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك بل رآه فعلاً آخر ، فالأمر عنده كقولهم : تفقأت شحماً وامتلأت غيظاً . وقوله { ولم أكن بدعائك رب شقياً } شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده معناه أي قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.