المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

172- لن يترفع المسيح عن أن يكون عبداً لله ، ولن يترفع عن ذلك الملائكة المقربون ، ومن يتكبر ويترفع عن عبادة الله فلن يفلت من عقابه يوم يجمع الله الناس للحساب .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

ثم بين - سبحانه - أن المسيح عيسى - عليه السلام - عبد من عباد الله - تعالى - ، وأنه لن يستنكف أبدا عن عبادة الله والإِذعان لأمره فقال : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } .

وأصل { يَسْتَنكِفَ } - يقول القرطبى : نكف ، فالياء والسين والتاء زوائد . يقال : نكفت من الشئ واستنكف منه وأنكفته أى : نزهته عما يستنكف منه . ومنه الحديث : " سُئل - رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { سُبْحَانَ الله } فقال : " إنكاف الله من كل سوء " " .

يعنى : تنزيهه وتقديسه عن الأنداد والأولاد .

قال الزجاج : استكف أى : أنف مأخوذ من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك ومنه الحديث " ما ينكف العرق عن جبينه " أى : ما ينقطع .

وقيل : هو من النِّكْف وهو العيب . يقال : ما عليه فى هذا الأمر من نِكْفٍ ولا وَكَف . أى عيب . أى لن يمتنع المسيح ولن يتنزه عن العبودية لله - تعالى - ولن ينقطع عنها . ولن يعاب أن يكون عبداً لله تعالى .

والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير ما سبقها من تنزيه لله - تعالى - عن أن يكون له ولد ، وإثبات لوحدانيته - عز وجل - وإفراده بالعبادة .

وقد روى المفسرون فى سبب نزولها " أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لم تعيب صاحبنا يا محمد ؟ قال : ومن صاحبكم ؟ قالوا : عيسى ، قال صلى الله عليه وسلم : وأى شئ قلت ؟ قالوا تقول : إنه عبد الله ورسوله . قال صلى الله عليه وسلم : إنه ليس بعار أن يكون عبداً لله " .

والمعنى : لن يأنف المسيح ولن يمتنع أن يكون عبداً لله ، وكذلك الملائكة المقربون لن يأنفوا ولن يمتنعوا عن ذلك ، فإن خضوع المخلوقات لخالقها شرف ليس بعده شرف . والله - تعالى - ما خلق الخلق إلا لعبادته وطاعته .

قال - تعالى - { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ } وصدر - سبحانه - الجملة بحرف ( لن ) المفيدة للنفى المؤكد ، لبيان أن عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عن عبادة الله والخضع له أمر مستمر وثابت ثبوتا لا شك فيه ، لأنه - سبحانه - هو الذى خلق الخلق ورزقهم . ومن حقه عليهم أن يعبدوه ، ويذعنوا لأمره ، بل ويشعروا باللذة والأنس والشرف لعبادتهم له - سبحانه - كما قال الشاعر الحكيم :

ومما زادنى عجباً وتيها . . . وكدت بإخمصى أطأ الثريا

دخولى تحت قولك يا عبادى . . . وجعلك خير خلقك لى نبياً

هذا ، وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، وممن فهم هذا الفهم الإِمام الزمخشرى فقد قال :

وقوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح } أى : لن يأنف ولن يهذب بنفسه عزة ، ( من نكفت الدمع إذا نحيته عن خدك بإصبعك ) { وَلاَ الملائكة المقربون } أى : ولا من هو أعلى منه قدرا ، وأعظم منه خطرا وهم الملائكة الذين حول العشر كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن فى طبقتهم .

ثم قال : فإن قلت : من أين دل قوله { وَلاَ الملائكة المقربون } على أن المعنى : ولا من فوقه ؟ قلت : من حيث إن علم المعانى لا يقتضى غير ذلك . وذلك أن الكلام إنما سبق لرد مذهب النصارى وغلوهم فى رفع عيسى عن منزلة العبودية . فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أعلى منه درجة . فكأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاها منزلة .

وهذا الفهم الذى اتجه إليه الزمخشرى من أن الملائكة أفضل من الأنبياء ، لم يوافقه عليه أكثر العلماء ، فقد قال الإِمام ابن كثير :

وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال : { وَلاَ الملائكة المقربون } . وليس له فى ذلك دلالة ، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ، لأن الاستنكاف هو الامتناع .

وليس له فى ذلك دلالة ، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ، لأن الاستنكاف هو الامتناع . والملائكة أقدر على ذلك من المسيح ، فلهذا قال { وَلاَ الملائكة المقربون } ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل . وقيل إنما ذكروا لأن بعض الناس اتخذهم آلهة مع الله كما اتخذ الضالون المسيح إلها أو ابنا لله . فأخبر - سبحانه - أنهم عبيد من عباده ، وخلق من خلقه .

وقد حاول بعض العلماء أن يجعل الآية الكريمة بعيدة عن موطن النزاع فقال : وعندى أن الترقى قائم ، ولكن فى المعنى الذى سيق له الكلام . وذلك أن النصارى غلوا غلواً كبيرا فى المسيح ، لأنه لود من غير أب ، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة ، ولأنه روحانى المعانى ، فيبين الله - تعالى - أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله ، ولا يستنكف من هو أعلى منه فى هذه المعانى أن يكون عبداً لله ، وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم . وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات ، ومنهم من كان الروح الذى نفخ فى مريم ، وهم أرواح طاهرة مطهرة . فكان الترقى فى هذه المعانى ، وهم فيها يفضلون عيسى وغيره . وبذلك تكون الآية بعيدة عن الأفضلية المطلقة ، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل فى المنزلة عند الله . وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف ، والترقى دائما يكون فى المعانى التى سيق لها الكلام دون غيرها . وليس المتأخر أعلى فى ذاته من المتقدم وأفضل ، ولكنه أعلى فى الفعل الذى كان فيه كقول القائل : لا تضرب حراب ولا عبدا . فالتدرج هنا فى النهى عن الضرب ، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فأولى أن يكون ضرب الحر غير جائز .

وذكر وصف المقربين ، لأنهم إذا كانوا لا يستنكفون فأولى بذلك غيرهم .

ثم هدد - سبحانه - كل من يمتنع عن عبادته والخضوع له فقال : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } .

أى : ومن يأنف من عباده الله ويمتنع عنها ، ويأبى الخضوع لطاعة الله ويستكبر عن كل ذلك ، فسيجد يوم القيامة ما يستحقه من عقاب بسبب استنكافه واستكباره ، فإن مرد العباد جميعا إليه - سبحانه - وسيجازى المحسن بإحسانه ، والمسئ بإساءته .

فالمضير فى قوله { فَسَيَحْشُرُهُمْ } يعود إلى المستنكفين والمستكرين وإلى غيرهم من المؤمنين المطيعين بدليل أن الحشر عام للمؤمنين والكافرين ، وبدليل التفصيل المفرع على هذا الحشر فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

ويمضي السياق في البيان ؛ لتقرير أكبر قضايا التصور الاعتقادي الصحيح ، وهي الحقيقة الاعتقادية التي تنشأ في النفس من تقرير حقيقة الوحدانية . . حقيقة أن ألوهية الخالق تتبعها عبودية الخلائق . . وأن هناك فقط : ألوهية وعبودية . . ألوهية واحدة ، وعبودية تشمل كل شيء ، وكل أحد ، في هذا الوجود .

ويصحح القرآن هنا عقيدة النصارى كما يصحح كل عقيدة تجعل للملائكة بنوة كبنوة عيسى ، أو شركا في الألوهية كشركته في الألوهية :

( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ؛ وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرًا ) .

لقد عني الإسلام عناية بالغة بتقرير حقيقة وحدانية الله سبحانه ؛ وحدانية لا تتبلس بشبهة شرك أو مشابهة في صورة من الصور ؛ وعني بتقرير أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء . فلا يشترك معه شيء في ماهية ولا صفة ولا خاصية . كما عني بتقرير حقيقة الصلة بين الله - سبحانه - وكل شيء [ بما في ذلك كل حي ] وهي أنها صلة ألوهية وعبودية . ألوهية الله ، وعبودية كل شيء لله . . والمتتبع للقرآن كله يجد العناية فيه بالغة بتقرير هذه الحقائق - أو هذه الحقيقة الواحدة بجوانبها هذه - بحيث لا تدع في النفس ظلا من شك أو شبهة أو غموض .

ولقد عني الإسلام كذلك بأن يقرر أن هذه هي الحقيقة التي جاء بها الرسل أجمعون . فقررها في سيرة كل رسول ، وفي دعوة كل رسول ؛ وجعلها محور الرسالة من عهد نوح عليه السلام ، إلى عهد محمد خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - تتكرر الدعوة بها على لسان كل رسول : ( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .

وكان من العجيب أن أتباع الديانات السماوية - وهي حاسمة وصارمة في تقرير هذه الحقيقة - يكون منهم من يحرف هذه الحقيقة ؛ وينسب لله - سبحانه - البنين والبنات ؛ أو ينسب لله - سبحانه - الامتزاج مع أحد من خلقه في صورة الأقانيم ؛ اقتباسا من الوثنيات التي عاشت في الجاهليات !

ألوهية وعبودية . . ولا شيء غير هذه الحقيقة . ولا قاعدة إلا هذه القاعدة . ولا صلة إلا صلة الألوهية بالعبودية ، وصلة العبودية بالألوهية . .

ولا تستقيم تصورات الناس - كما لا تستقيم حياتهم - إلا بتمحيض هذه الحقيقة من كل غبش ، ومن كل شبهة ، ومن كل ظل !

أجل لا تستقيم تصورات الناس ، ولا تستقر مشاعرهم ، إلا حين يستيقنون حقيقة الصلة بينهم وبين ربهم . .

هو إله لهم وهم عبيده . . هو خالق لهم وهم مخاليق . . هو مالك لهم وهم مماليك . . وهم كلهم سواء في هذه الصلة ، لا بنوة لأحد . ولا امتزاج بأحد . . ومن ثم لا قربى لأحد إلا بشيء يملكه كل أحد ويوجه إرادته إليه فيبلغه : التقوى والعمل الصالح . . وهذا في مستطاع كل أحد أن يحاوله . فأما البنوة ، وأما الامتزاج فانى بهما لكل أحد ؟ !

ولا تستقيم حياتهم وارتباطاتهم ووظائفهم في الحياة ، إلا حين تستقر في أخلادهم تلك الحقيقة : أنهم كلهم عبيد لرب واحد . . ومن ثم فموقفهم كلهم تجاه صاحب السلطان واحد . . فأما القربى إليه ففي متناول الجميع . . عندئذ تكون المساواة بين بني الانسان ، لانهم متساوون في موقفهم من صاحب السلطان . . وعندئذ تسقط كل دعوى زائفة في الوساطة بين الله والناس ؛ وتسقط معها جميع الحقوق المدعاة لفرد أو لمجموعة أو لسلسلة من النسب لطائفة من الناس . . وبغير هذا لا تكون هناك مساواة أصيلة الجذور في حياة بني الإنسان ومجتمعهم ونظامهم ووضعهم في هذا النظام !

فالمسألة - على هذا - ليست مسألة عقيدة وجدانية يستقر فيها القلب على هذا الأساس الركين ، فحسب ، إنما هي كذلك مسألة نظام حياة ، وارتباطات مجتمع ، وعلاقات أمم وأجيال من بني الإنسان .

إنه ميلاد جديد للإنسان على يد الإسلام . . ميلاد للإنسان المتحرر من العبودية للعباد ، بالعبودية لرب العباد . . ومن ثم لم تقم في تاريخ الإسلام " كنيسة " تستذل رقاب الناس ، بوصفها الممثلة لابن الله ، أو للأقنوم المتمم للأقانيم الإلهية ؛ المستمدة لسلطانها من سلطان الابن أو سلطان الأقنوم . ولم تقم كذلك في تاريخ الإسلام سلطة مقدسة تحكم " بالحق الإلهي " زاعمة أن حقها في الحكم والتشريع مستمد من قرابتها أو تفويضها من الله !

وقد ظل " الحق المقدس " للكنيسة والبابوات في جانب ؛ وللأباطرة الذين زعموا لأنفسهم حقا مقدسا كحق الكنيسة في جانب . . ظل هذا الحق أو ذاك قائما في أوربا باسم [ الابن ] أو مركب الأقانيم . حتى جاء " الصليبيون " إلى أرض الإسلام مغيرين . فلما ارتدوا أخذوا معهم من أرض الإسلام بذرة الثورة على " الحق المقدس " وكانت فيما بعد ثورات " مارتن لوثر " و " كالفن " و " زنجلي " المسماة بحركة الإصلاح . . على أساس من تأثير الإسلام ، ووضوح التصور الإسلامي ، ونفي القداسة عن بني الإنسان ؛ ونفي التفويض في السلطان لأنه ليست هنالك إلا ألوهية وعبودية في عقيدة الإسلام . .

وهنا يقول القرآن كلمة الفصل في ألوهية المسيح وبنوته ؛ وألوهية روح القدس [ أحد الأقانيم ] وفي كل أسطورة عن بنوة أحد لله ، أو ألوهية أحد مع الله ، في أي شكل من الأشكال . . يقول القرآن كلمة الفصل بتقريره أن عيسى بن مريم عبد لله ؛ وأنه لن يستنكف أن يكون عبدالله . وأن الملائكة المقربين عبيد لله ؛ وأنهم لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله . وأن جميع خلائقه ستحشر إليه . وأن الذين يستنكفون عن صفة العبودية ينتظرهم العذاب الأليم . وأن الذين يقرون بهذه العبودية لهم الثواب العظيم :

( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله - ولا الملائكة المقربون - ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا . فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله . وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرًا ) .

إن المسيح عيسى بن مريم لن يتعالى عن أن يكون عبدا لله . لأنه - عليه السلام - وهو نبي الله ورسوله - خير من يعرف حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ؛ وأنهما ماهيتان مختلفتان لا تمتزجان . وهو خير من يعرف أنه من خلق الله ؛ فلا يكون خلق الله كالله ؛ أو بعضا من الله ! وهو خير من يعرف أن العبودية لله - فضلا على أنها الحقيقة المؤكدة الوحيدة - لا تنقص من قدره . فالعبودية لله مرتبة لا يأباها إلا كافر بنعمة الخلق والإنشاء . وهي المرتبة التي يصف الله بها رسله ، وهم في أرقى حالاتهم وأكرمها عنده . . وكذلك الملائكة المقربون - وفيهم روح القدس جبريل - شأنهم شأن عيسى عليه السلام وسائر الأنبياء - فما بال جماعة من أتباع المسيح يأبون له ما يرضاه لنفسه ويعرفه حق المعرفة ؟ !

( ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا ) . .

فاستنكافهم واستكبارهم لا يمنعهم من حشر الله لهم بسلطانه . . سلطان الألوهية على العباد . . شأنهم في هذا شأن المقرين بالعبودية المستسلمين لله . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ لّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } . .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ : لن يأنف ولن يستكبر المسيح أنْ يَكُونَ عَبْدا لله يعني : من أن يكون عبدا لله . كما :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يكُون عبدا لِلّهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقّربُونَ : لن يحتشم المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة .

وأما قوله : وَلا المَلائِكَةُ المُقَرّبُونَ فإنه يعني : ولن يستنكف أيضا من الإقرار لله بالعبودية ، والإذعان له بذلك رُسُله المقرّبون الذين قرّبهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه .

ورُوي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك ما :

حدثني به جعفر بن محمد البزوري ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن الأجلح ، قال : قلت للضحاك : ما المقرّبون ؟ قال : أقربهم إلى السماء الثانية .

القول في تأويل قوله تعالى : وَمَنْ يَسْتَنْكفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيهِ جَمِيعا .

يعني جلّ ثناؤه بذلك : ومن يتعظم عن عبادة ربه ، ويأنف من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم ، ويستكبر عن ذلك ، فَسَيْحُشُرُهُمْ إليه جَمِيعا يقول : فسيبعثهم يوم القيامة جميعا ، فيجمعهم لموعدهم عنده .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

ثم برأ تعالى جهة المسيح عليه السلام من أقوالهم ، وخلصه للذي يليق به فقال { لن يستنكف المسيح أن يكون } الآية ، والاستنكاف : إباية بأنفة ، وقوله تعالى : { ولا الملائكة المقربون } زيادة في الحجة وتقريب من الأذهان ، أي ولا هؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين ، لا يستنكفون عن ذلك فكيف سواهم ، وفي هذه الآية الدليل الواضح على تفضيل الملائكة على الأنبياء{[4390]} .

ثم أخبر تعالى عمن يستنكف أي يأنف عن عبادة الله ويستكبر ، بأنه سيناله الحشر يوم القيامة والرد إلى الله ، وقوله { فسيحشرهم } عبارة وعيد ، وقرأ جمهور الناس «فسيحشرهم » بالياء ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «فسنحشرهم » بنون الجماعة ، «فنوفيهم » ، «ونزيدهم » ، «فنعذبهم » ، كلها بالنون ، قال أبو الفتح : وقرأ مسلمة «فسيحشْرهم » «فيعذْبهم » بسكون الراء والباء على التخفيف .


[4390]:- الكلام في تفضيل الملائكة على الأنبياء استدلالا بهذه الآية يحتاج إلى وقفة وتأمل، وبعض المفسرين ينفي ذلك، فابن كثير يقول: "ليس لمن استدل بهذه الآية على تفضيل الملائكة دلالة، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح، والملائكة أقدر على الاستنكاف من المسيح، لكن لا يلزم أن يكونوا أفضل".اهـ، ولكن الزمخشري يرى أن الآية تدل على ذلك قال: من حيث أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، لأن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن مرتبة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يرتفع عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجة، ويؤيد ذلك تخصيص المقربين، ومثل قول القائل: وما مثله ممن يجاود حاتم ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره ورد على الزمخشري أبو حيان في "البحر المحيط" فقال: "التفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يُقال: متى نفي شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول، ولا أن ذلك من باب الترقي". اهـ وارجع إليه في البحر جـ3 ص 403.