قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } الآية لمَّا أقام الحُجَّة القَاطِعَة على أنَّ عيسى عَبْدُ الله ، لا يَجُوز أن يكُون ابْناً لَهُ ، أشَارَ بَعْدَه إلى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِم ، وأجَابَ عَنْهَا ؛ لأنَّ الشُّبْهَة التي عَوَّلُوا عَلَيْها في إثْبَاتِ أنَّهُ ابن اللَّهِ ؛ هو [ أنَّه ]{[10415]} كان يُخْبِرُ عن الغيبيّات{[10416]} ، ويأتي بِخَوارقِ العاداتِ من الإبْرَاء والإحْيَاء ، فكأنَّهُ - تعالى - قال : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ } بسبب القَدْرِ من العِلْم والقُدْرَة عن عِبَادةِ الله - [ سبحانه ] وتعالى - ، فإن الملائِكَة المقَرَّبينَ أعْلَى حَالاً مِنْهُ في اَلقُدْرَة ؛ لأن ثَمَانِيةً منهم حَمَلةُ العَرْشِ على عَظَمَتِهِ ، ثم [ إنّ ]{[10417]} الملائكة مع كمالهم في العُلُوم ، لمْ يَسْتَنْكِفُوا عن عُبُودِيَّة{[10418]} الله ، فكيف يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عن عُبُوديَّته بسبب هذا القَدْرِ القَلِيلِ الذي كان مَعَهُ من العِلْمِ والقُدْرَة .
والاسْتنْكَافُ : استفعالٌ من النَّكْفِ ، والنَّكْفُ : أن يُقال [ له ] سوء ، ومنه : " وما عليه في هذا الأمْرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ " ، قال أبو العباس : " واسْتَفْعَلَ هنا بمعنى دفع النَّكْفَ عَنْه " ، وقال غيره : " هو الأنَفَةُ والتَّرفُّع " ، ومنه : " نَكَفْتُ الدَّمْعَ بإصْبَعِي " ، إذا منعته من الجَرْي على خَدِّك ، قال : [ الطويل ]
فبَانُوا فُلُولاً ما تَذَكَّرُ مِنْهُمُ *** مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ{[10419]}
رُوِيَ أن وَفْدَ نَجْرَان قالُوا : يا مُحَمَّد ، إنك تَعِيبُ صَاحِبَنَا ، فتقول : إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " ليْسَ بعارٍ لعيسى - عليه السلام - أنْ يكُوْنَ عَبْداً لِلَّهِ " فنزلَت هذه الآية{[10420]} .
وقرأ عَلِيٌّ{[10421]} : " عُبَيْداً " على التَّصْغِير ، وهو مُنَاسِبٌ للمَقَام ، وقرأ الجمهورُ " أن يكُون عَبْداً لِلَّهِ " بفتح همزة " أنْ " ، [ فهوُ في موضعِ نَصْبٍ ، وقرأ الحسن{[10422]} : " إنْ " بكَسْر الهمزة على أنَّها نَفيٌ بمعنى ]{[10423]} : ما يكون له ولدٌ ، فينبغي رفع " يكونُ " ، ولم يذكره الرواة ؛ نقله القرطبيّ{[10424]} .
وقوله تعالى : { وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ } عطف على " المَسِيح " ، أي : ولَنْ يَسْتَنْكِفَ الملائكةُ أن يكُونُوا عَبيداً لله ، وقال أبو حيان{[10425]} ما نصُّه : " وفي الكلام حَذْفٌ ، التقدير : ولا الملائكةُ المقرَّبون أن يكونُوا عبيداً لله ، فإن ضُمِّن " عَبْداً " معنى " مِلْكاً لله " ، لم يَحْتَجْ إلى هذا التقدير ، ويكونُ إذ ذاك { وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ } من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لُحِظَ في " عَبْد " معنى الوَحْدَة ، فإن قوله : { وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ } يكون [ من ] عطف الجملِ ؛ لاختلاف الخبر ، وإنْ لُحِظَ في قوله : { وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ } معنى : " ولا كلُّ واحدٍ مِنَ الملائِكَةِ " كان من باب عطف المفردات " ، وقال الزمخشريُّ{[10426]} : " فإن قلتَ : علام عُطِفَ " والمَلاَئِكَةُ " ؟ قلت : إمَّا أن يُعْطَفَ على " المَسِيحُ " ، أو اسم " يَكُونُ " ، أو على المستتر في " عَبْداً " لما فيه من معنى الوصْف ؛ لدلالته على العبادة ، وقولك : " مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٍ أبُوهُ " فالعطفُ على المسيحِ هو الظاهرُ ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرضِ ، وهو أن المسيحَ لا يأنَفُ أن يكون هو ولا من فَوقَهُ موصوفين بالعبودية ، أو أن يعبُدَ الله هو ومن فوقه " ، قال أبو حيان : " والانحراف عن الغرضِ الذي أشارَ إليه كونُ الاستنكَافِ يكون مختصًّا بالمسيحِ ، والمعْنَى التامُّ إشراكُ الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكَافِ عن العبوديَّة ، ويظهرُ أيضاً مرجوحيَّةُ الوجهين من وجه دخُول " لاَ " ؛ إذ لو أُريدَ العطفُ على الضمير في " يكُون " أو في " عَبْداً " لم تَدْخُل " لا " ، بل كان يكون التركيبُ بدونها ، تقول : " ما يريدُ زيدٌ أن يكُونَ هُو وأبُوهُ قَائِمَيْن " و " ما يُريدُ زيدٌ أنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وعَمْرٌو " ، فهذان التركيبان لَيْسَا من مَظَنَّةِ دخولِ لا ، وإن وُجد منه شيءٌ ، أوِّل " . انتهى ، فتحصَّل في رفع " المَلاَئِكَةُ " ثلاثة أوجه ، أوجَهُهَا الأوَّل .
اسْتَدَلَّ الجُمهور بهذه الآية : على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من البَشَر ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه ، في البقرة [ آية : 34 ] .
وقال ابن الخطيب{[10427]} : والذي نقُولُه هَهُنَا : إنَّا نُسَلِّم أنَّ اطِّلاع الملائِكَة على المُغَيِّبَاتِ أكْثَرُ من اطلاع البَشَرِ عليهما ، ونُسَلِّم أن قُدْرَة الملائِكَة على التَّصرُّفِ في هذا العَالم أشَدُّ من قُدْرة البَشَر ، إنما النِّزاعُ في أنَّ ثوابَ طاعَاتِ الملائِكَة أكْثَرُ ، أمْ ثوابُ طاعَاتِ البَشَرِ وهذه الآيَةُ لا تَدُلُّ على ذلك ؛ وذلك أن النَّصَارَى إنَّما أثْبَتُوا إلهيَّة عِيسَى ؛ لأنه أخْبَر عن الغَيْب{[10428]} ، وأتى بخَوَارِقِ العَادَاتِ ، فإيرادُ الملائِكَة لأجْلِ إبْطَال هذه الشُّبْهَة ، إنما يَسْتَقِيم إذا كانت الملائِكَةُ أقْوَى حالاً في هذا العَالَمِ ، وفي هذه القُدْرَة من البَشَرِ ، ونحن نَقُول بمُوجبهِ .
فأما أن يُقَالَ : المُرادُ من الآية تَفْضِيل الملائِكَة على المَسيحِ في كَثْرَةِ الثَّوَابِ على الطَّاعَاتِ ، فذلك ممَّا لا يُنَاسِب{[10429]} هذا الموضعَ ، ولا يَليقُ به .
فظهر أنَّ هذا الاستدْلاَل إنَّما قَوِي في الأوْهَام ؛ لأن النَّاسَ ما لخّصوا مَحَلَّ النِّزَاع .
وأجاب البغوي{[10430]} عن استدلالهم بهذه الآية ؛ فقال : ولا حُجَّة لهم فِيهِ ؛ لأنه لم يَقُلْ ذَلِك رَفْعاً لمقامِهِم على مَقَامِ البَشَرِ ، بل رَدًّا على الذين يَقُولُون : الملاَئِكَة آلِهَةٌ ، لما ردَّ على النَّصَارَى قولهم : المَسِيحُ ابْنُ اللَّه ، وقال ردّاً على النَّصارَى بزَعْمِهِم ؛ فإنَّهُم يقُولُون بتَفْضِيل الملائِكَة ، وهذه الآيَةُ تدُلُّ على أنَّ طبقات المَلاَئكة مُخْتَلِفةٌ ؛ لقوله - تعالى - : { وَلاَ الْمَلاَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } .
قوله تعالى { فَسَيَحْشُرُهُمْ } الفاءُ يجوز أن تكون جواباً للشَّرْط في قوله : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ } ، فإن قيل : جوابُ " إن " الشرطية وأخواتها غير " إذا " لا بدَّ أن يكون محتملاً للوقُوعِ وعدمه ، وحشرُهُمْ إليه جميعاً لا بُدَّ منه ، فكيف وقعَ جَواباً لها ؟ فقيل في جوابه وجهان :
أصحهما : أن هذا الكلام تضمَّن الوعد والوعيد ؛ لأنَّ حَشْرَهُمْ يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب ، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله : " فَأَمَّا الذِينَ " إلى آخره ، فيكونُ التقديرُ : ومن يَسْتَنكِفْ عن عبادته ويَسْتَكْبِرْ ، فيعذبُهُ عند حَشْرِهِ إليه ، ومن لم يستنكفْ ولم يستكبر ، فيثيبه .
والثاني : أنَّ الجوابَ محذوف ، أي : فيجازيه ، ثم أخبر بقوله : { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً } ، وليس بالبيِّن ، وهذا الموضوعُ محتملٌ أن يكون مِمَّا حُمِلَ على لفظةِ " من " تارة في قوله : " يَسْتَنْكِف " [ و " يَسْتَكْبِر " ] فذلك أفرد الضمير ، وعلى معناها أخرى في قوله : " فَسَيحْشُرُهُم " ولذلك جمعهُ ، ويحتمل أنه أعاد الضمير في " فَسَيحْشُرُهُم " على " مَنْ " وغيرها ، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك ، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العمومَ المشارَ إليه ، وقيل : بل حَذَفَ معطوفاً لفَهْم المعنى ، والتقديرُ : فسيحشُرُهُمْ ، أي : المُسْتنكفينَ وغيرَهُمْ ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] ، أي : والبَرْدَ .
و " جَميعاً " حالٌ ، أو تأكيد عند مَنْ جعلها ك " كُلّ " وهو الصحيح ، وقرأ الحسن{[10431]} : " فَسَنحْشُرهُمْ " بنونِ العظمة ، وتخفيف باء " فَيُعَذِّبُهُمْ " ، وقرئ{[10432]} " فَسَيَحْشِرُهُمْ " بكسر الشين ، وهي لغةٌ في مضارع " حَشَرَ " .
وقوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ } : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها ، ولكن هنا سؤالٌ حسنٌ قاله الزمخشريُّ وهو : " فإن قلت : التفصيل غير مطابقٍ للمفصَّلِ ؛ لأنه اشتمل على الفريقين ، والمفصَّلُ على فريق واحد ، قلتُ : هو مثلُ قولك : " جَمَعَ الإمَامُ الخوارجَ : فمن لم يخرجْ عليه ، كساه حُلَّةً ، ومن خَرَجَ عليه ، نَكَّلَ به " وصحةُ ذلك ؛ لوجهين :
أحدهما : أن يحذف ذكرُ أحد الفريقين ؛ لدلالةِ التفصيل عليه ؛ ولأنَّ ذكرَ أحدهما يدلُّ على ذكر الثاني ؛ كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عَقِيبَ هذا : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّه واعْتَصَمُوا به } .
والثاني : وهو أن الإحسانَ إلى غيرهم مما يَغُمُّهُم ؛ فكان داخلاً في جملة التنكيلِ بهم ، فكأنه قيل : ومن يَسْتَنْكِف عن عبادته ويَسْتكبرْ فسيعذبُهُم بالحَسْرة ، إذا رأوْا أجُورَ العاملين ، وبما يصيبُهُم من عذاب الله " . انتهى ، يعني بالتفصيل قوله : " فأمَّا " و " أمَّا " ، وقد اشتمل على فريقين ، أي : المثابين والمعاقبين ، وبالمفصَّل قوله قبل ذلك : " وَمَن يَسْتَنْكِفْ " ، ولم يشتمل إلا على فريقٍ واحدٍ هم المعاقَبُون .