فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

أصل يستنكف نكف وباقي الحروف زائدة ، يقال نكفت من الشيء ، واستنكفت منه ، وأنكفته : أي : نزهته عما يستنكف منه . قال الزجاج : استنكف أي : أنف ، مأخوذ من نكفت الدمع : إذا نحيته بأصبعك عن خديك ؛ وقيل : هو من النكف ، وهو العيب ، يقال : ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف أي : عيب . ومعنى الأوّل : لن يأنف عن العبودية ، ولن يتنزّه عنها . ومعنى الثاني : لن يعيب العبودية ، ولن ينقطع عنها : { وَلاَ الملائكة المقربون } عطف على المسيح ، أي : ولن يستنكف الملائكة المقرّبون عن أن يكونوا عباداً لله .

وقد استدلّ بهذا القائلون بتفضيل الملائكة على الأنبياء ، وقرر صاحب الكشاف وجه الدلالة بما لا يسمن ولا يغني من جوع ، وادّعى أن الذوق قاض بذلك ، ونعم الذوق العربي إذا خالطه محبة المذهب ، وشابه شوائب الجمود كان هكذا ، وكل من يفهم لغة العرب يعلم أن من قال لا يأنف من هذه المقالة إمام ولا مأموم أو لا كبير ولا صغير أو لا جليل ولا حقير ، لم يدل هذا على أن المعطوف أعظم شأناً من المعطوف عليه ، وعلى كل حال ، فما أردأ الاشتغال بهذه المسألة ، وما أقلّ فائدتها ، وما أبعدها عن أن تكون مركزاً من المراكز الشرعية الدينية ، وجسراً من الجسور : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ } أي : يأنف تكبراً ، ويعدّ نفسه كبيراً عن العبادة { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } المستنكف وغيره ، فيجازي كلاً بعمله . وترك ذكر غير المستنكف هنا لدلالة أوّل الكلام عليه . ولكون الحشر لكلا الطائفتين .

/خ175