/ ( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا172 ) .
( لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ) جملة مستأنفة لتقرير ما سبق من التنزيه . أي : لن يأنف من أن يكون عبدا لله . فإن عبوديته شرف يتباهى به ( ولا الملائكة المقربون ) من أن يكونوا عبيدا له تعالى . واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء .
قال الزمخشري : أي : ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا . وهم الملائكة الكروبيون . الذين حول العرش . كجبريل وميكائيل واسرافيل ، ومن في طبقتهم .
ثم قال : فإن قلت : من أين دل قوله : ( ولا الملائكة المقربون ) على أن المعنى : ولا من فوقه ؟ قلت : من حيث ان علم المعاني لا يقتضي غير ذلك . وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية . فوجب أن يقال لهم : لن يترفع عيسى عن العبودية . ولا من هو أرفع منه درجة . كأنه قيل : لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية . فكيف بالمسيح ؟ ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة ، تخصيص المقربين . لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة . ومثاله قول القائل{[2663]} :
وما مثله ممن يجاود حاتم *** ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخره
لا شبهة في أنه قصد بالبحر ذي الأمواج ، ما هو فوق حاتم في الجود . ومن كان له ذوق فليذق ، مع هذه الآية قوله : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ) {[2664]} ، حتى يعترف بالفرق البين . انتهى .
قال البيضاوي : وجوابه أن الآية : للرد على عبدة المسيح والملائكة . فلا يتجه ذلك . وان سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير . كقولك : أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس . وان أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة ، وهم الكروبيون ، الذين هم حول العرش ، أو من أعلى منهم مرتبة من الملائكة ، على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا والنزاع فيه . انتهى .
قال ناصر الدين في ( الانتصاف ) : وقد كثر الاختلاف في تفضيل الأنبياء على الملائكة . فذهب جمهور الأشعرية إلى تفضيل الأنبياء . وذهب القاضي أبو بكر ، منا ، والحليمي وجماعة المعتزلة إلى تفضيل الملائكة . واتخذ المعتزلة هذه الآية عمدتهم في تفضيل الملائكة . من حيث الوجه الذي استدل به الزمخشري . ونحن بعون الله نشبع القول في المسألة من حيث الآية . فنقول : أورد الأشعرية على الاستدلال بها أسئلة . أحدها –أن سيدنا محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام أفضل من عيسى عليه الصلاة والسلام . فلا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح ، أن تكون أفضل من محمد عليه الصلاة والسلام . وهذا السؤال إنما يتوجه إذ لم يدع مورده أن كل واحد من آحاد الأنبياء ، أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة . وبين طائفتنا في هذه الطرف خلاف ( السؤال الثاني ) أن قوله : ( ولا الملائكة المقربون ) صيغة جمع . تتناول مجموع الملائكة . فهذا يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح . / ولا يلزم ان يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح . وفي هذا السؤال أيضا نظر . لأن مورده إذا بنى على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة ، فقد يقال يلزمه القول بأنه أفضل من الكل . كما أن النبي عليه الصلاة والسلام ، لما كان أفضل من كل واحد من آحاد الأنبياء ، كان أفضل من كلهم . ولم يفرق بين التفضيل على التفصيل ، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى . وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين ، وادعى أنه لا يلزم منه ، على التفصيل ، تفضيل على الجملة . ولم يثبت عنه هذا القول . ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف . وهو : أن التفضيل المراد ، جل أمارته رفع درجة الأفضل في الجنة . والأحاديث متوافرة بذلك . وحينئذ لا يخلو إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم ، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه . ولا سبيل إلى الأول . لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل . فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ، ضرورة . فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم ، قطعا . الثالث أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو . وهي لا تقتضي ترتيبا . وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبدا يكون أعلى رتبة ، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك . كقول القائل : ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عمرو . قلت : وكقولك لا تؤذ مسلما ولا ذميا . فإن هذا الترتيب وجه الكلام . والثاني أدنى وأخفض درجة . ولو ذهبت تعكس هذا ، فقلت : لا تؤذ ذميا ولا مسلما ، ليجعل الأعلى ثانيا ، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة . وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر . ولكن الحق أولى من المراء . وليس بين المثالين تعارض . ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء . فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة . وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى ، وفي مواضع تأخيره . وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول . فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة / إلى أوله ، أو يكون الآخر مندرجا في الأول ، قد أفاده . وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ، واستئنافا لفائدة لم يشمل عليها الأول . مثاله الآية المذكورة . فانك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح ، على هذا التقدير ، عبدا لله غير مستنكف من العبودية – لزم من ذلك أن من دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله ، وهم الملائكة على هذا التقدير . فلم يتجدد إذا بقوله : ( ولا الملائكة المقربون ) إلا ما سلف أول الكلام . وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة ، فانك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له ، إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك . وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل . فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة . إذ لم يستلزم الأول الآخر . فصار الكلام على هذا التقدير تتجدد فوائده وتتزايد . وما كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز . لأنه الغاية في البلاغة . وبهذه النكتة يجب أن نقول : لا تؤذ مسلما ولا ذميا . فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية . لأنك إذا نهيته عن إيذاء المسلم ، فقد يقال ذاك من خواصه احتراما للإسلام . فلا يلزم من ذلك نهيه عن الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية . فإذا قلت : ولا ذميا – فقد جددت فائدة لم تكن في الأول . وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى ، إلى النهي عن أكثر منه . ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية ، فقلت : لا تؤذ ذميا ، فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي . إذ يساوي الذمي في سبب الاحترام وهو الإنسانية مثلا ، ويمتاز عنه بسبب أجل وأعظم وهو الاسلام . فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم . فإن قلت : ولا مسلما ، لم تجدد له فائدة . ولم تعلمه غير ما علمه أولا . فقد علمت أنها نكتة واحدة ، توجب أحيانا تقديم الأعلى ، وأحيانا تأخيره . ولا يميز لك ذلك إلا السياق . وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى . ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة / قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) {[2665]} . استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه . بتقدير الأدنى . ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تزيد نهيا عن أعلى من التأفيف والانهار ( كذا ) . لأنه مستغنى عنه . وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) {[2666]} ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة ، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك ، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف . وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار . قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية . لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام . مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص{[2667]} . وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة . فناسب ذلك أن يقال : هذا الذي صدرت على يديه الخوارق ، لا يستنكف عن عبادة الله تعالى . بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثارا . كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام . وقد بلغ من قوته واقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه . فقلب عاليها سافلها . فيكون تفضيل الملائكة ، إذا ، بهذا الاعتبار . لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر . وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء . وليس في الآية عليه دليل . ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقا ، أي : موجودا من غير أب ، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب ، لا يستنكف من عبادة الله . بل ولا الملائكة المخلوقون من غير أب ولا أم . فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى . ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام . فنظر الغريب بالأغرب . وشبه العجيب من قدرته بالأعجب . إذ عيسى مخلوق من أم . وآدم من غير أم ولا أب . {[2668]} ولذلك قال : ( خلقه من تراب ثم قال له كن يكون ) . ومدار هذا البحث على النكتة التي نبهت عليها . فمتى استقام اشتمال المذكور أياما على فائدة ، لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان ، من تفضيل أو غيره ، من الفوائد – فقد استد النظر وطابق صيغة الآية والله اعلم . وعلى الجملة فالمسألة سمعية . والقطع فيها معروف بالنص لا يحتمل تأويلا . ووجوده عسر . صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . انتهى . ( ومن يستنكف عن عبادته ) أي : يأنف منها ويمتنع ( ويستكبر ) أي : يتعظم عنها ويترفع ( فسيحشرهم إليه جميعا ) أي : فيجمعهم يوم القيامة لموعدهم الذي وعدهم ، ويفصل بينهم بحكمه العدل .