الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

قوله تعالى : { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً } : قرأ عليُّ : " عُبَيْداً " على التصغير وهو مناسبٌ للمقام . وقوله : { وَلاَ الْمَلائِكَةُ } عطف على " المسيح " أي : ولن يستنكف الملائكة أن يكونوا عبيداً لله . وقال الشيخ : ما نصُّه : " وفي الكلام حذف ، التقدير : ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عبيداً لله ، فإنْ ضُمِّن " عبداً " معنى " مِلْكاً لله " لم يَحتجْ إلى هذا التقديرِ : ويكونُ إذ ذاك " ولا الملائكة " من باب عطف المفردات ، بخلاف ما إذا لُحِظَ في " عبد " معنى الوِحْدة ، فإن قوله : " ولا الملائكة " يكون من عطف الجمل لاختلاف الخبر ، وإنْ لُحِظ في قوله : " ولا الملائكة " معنى : " ولا كل واحد من الملائكة " كان من باب عطف المفردات " وقال الزمخشري : " فإن قلت : علام عُطِفَ و " الملائكة " ؟ قتل : إمَّا أن يُعْطَفَ على " المسيح " أو اسمِ " يكون " أو على المستتر في " عبداً " لِما فيه من معنى الوصف لدلالته على العبادة ، وقولك : " مررت برجلٍ عبدٍ أبوه " فالعطفُ على المسيح هو الظاهرُ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرض ، وهو أن المسيح لا يأنفُ أن يكونَ هو لا مَنْ فوقه موصوفين بالعبودية أو أن يَعْبد الله هو ومن فوقه " قال الشيخ : " والانحرافُ عن الغرض الذي أشار إليه كونُ الاستنكافِ يكون مختصاً بالمسيح والمعنى التام إشراك الملائكة مع المسيح في انتفاءِ الاستنكافِ عن العبودية ، ويظهرُ أيضاً مرجوحيةُ الوجهين مِنْ جهةِ دخولِ " لا " إذ لو أُريد العطفُ على الضمير في " يكون " أو في " عبدا " لم تَدْخُل " لا " ، بل كان يكون التركيب بدونها ، تقول : " ما يريد زيدٌ أن يكونَ هو وأبوه قائمين " و " ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو " فهذان التركيبان ليسا من مَظَنَّةِ دخولِ [ لا ] وإنْ وُجد منه شيءٌ أُوِّلَ " انتهى . فتحصَّل في رفع " الملائكة " ثلاثة أوجه ، أوجَهُها الأول .

والاستنكافُ : استفعال من النَّكْف ، والنَّكْفُ : أن يُقال له سوء ، ومنه : " وما عليه في هذا الأمر نَكْفٌ ولا وَكْف " قال أبو العباس : " واستفعل هنا بمعنى دَفَع النَّكْفَ عنه " وقال غيره : " هو الأَنَفَةُ والترفع " ومنه : " نَكَفْتُ الدَّمعَ بإصبعي " إذا منعتُه من الجري على خَدِّك ، قال :

فبانوا فلولا مَا تَذَكَّرُ منهمُ *** من الحِلْفِ لم يُنْكَفْ لعَيْنَيْك مَدْمَعُ

قوله { فَسَيَحْشُرُهُمْ } الفاءُ يجوز ان تكونَ جواباً للشرط في قوله : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ } فإنْ قيل : جواب " إنْ " الشرطية واخواتِها غيرَ " إذا " لا بد أن يكونَ محتملاً للوقوع وعدمه ، وحشرُهم إليه جميعاً لا بد منه ، فكيف وقع جواباً لها ؟ فقيل في جوابه وجهان ، أحدهما : - وهو الأصح - أن هذا كلامٌ تضمَّن الوعدَ والوعيد ، لأنَّ حَشْرَهم يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب ، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله : " فأمَّا الذين " إلى آخره ، فيكونُ التقدير : وَمَنْ يستنكِفْ عن عبادته ويستكبرْ فيعذبُه عند حَشْرِه إليه ، ومَنْ لم يستنكف ولم يستكبر فيثيبه .

والثاني : أنَّ الجوابَ محذوف أي : فيجازيه ، ثم أخبر بقوله : { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } وليس بالبيِّن . وهذا الموضوع محتمل أن يكون مِمَّا حُمِل على لفظةِ " مَنْ " تارة في قوله : يستنكف " ويستكبر " فلذلك أفرد الضمير ، وعلى معناها أخرى في قوله : فسيحشرهم " ولذلك جَمَعه ، ويَحْتمل أنه أعاد الضمير في فسيحشرهم " على " مَنْ " وغيرِها ، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك ، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العموم المشار إليه . وقيل : بل حَذَفَ معطوفاً لفهم المعنى ، والتقدير : فسيحشرهم أي : المستنكفين وغيرَهم ، كقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ } [ النحل : 81 ] أي : والبرد . و " جميعاً " حالٌ أو تأكيدٌ عند مَنْ جَعَلها ك " كل " وهو الصحيح . وقرأ الحسن : " فسنحشرهم " بنونِ العظمة ، وتخفيفِ باء " فيعذبهم " وقرئ : " فسيحشرهم " بكسرِ الشين وهي لغةٌ في مضارع " حَشَر " .