تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{لَّن يَسۡتَنكِفَ ٱلۡمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبۡدٗا لِّلَّهِ وَلَا ٱلۡمَلَـٰٓئِكَةُ ٱلۡمُقَرَّبُونَۚ وَمَن يَسۡتَنكِفۡ عَنۡ عِبَادَتِهِۦ وَيَسۡتَكۡبِرۡ فَسَيَحۡشُرُهُمۡ إِلَيۡهِ جَمِيعٗا} (172)

الآية 172

وقوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } تكلم الناس في هذه الآية . قال الحسن : ( فيه تفضيل الملائكة على البشر( لوجوه :

أحدها : ){[6845]} لأنه قال الله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول . وأبدا إنما يذكر ما به يؤكد إذا كان أفضل منه وأرفع ، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه ، كما يقال : لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة ، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد .

والثاني : ( لأنه ){[6846]} قال تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ( التحريم : 6 ) وقال عز وجل : { يسبحون الليل والنهار ولا يفترون } ( الأنبياء : 20 ) وقال فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي ، وحال من لا يفتر عن عبادته طرفة عين مع حال من يرتكب المناهي ؟

والثالث : لما{[6847]} قال الله تعالى حكاية عن إبليس حين قال لآدم وحواء عليهم السلام : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ( الأعراف : 20 ) لو لم يكن للملائكة فضل عليهم{[6848]} ومنزلة ، ليس ذلك للبشر ، لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملأك والوعد لهما أنهما يصيران ملكين ، ولا كان آدم وحواء باللذين {[6849]} يغران بذلك . دل أن الملك أفضل من البشر .

الرابع : لأن {[6850]} الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ما استغفروا لأحد إلا بدؤوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين كقول نوح عليه السلام : { رب اغفر لي ولوالدي } الآية ( نوح : 28 ) وكقول إبراهيم عليه السلام : { ربنا اغفر لي /121-أ/ ولوالدي وللمؤمنين } ( إبراهيم : 41 ) وما أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، فقال : { واستغفر لذنبك } الآية ( غافر : 55ومحمد 19 ) وقال : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } ( الفتح : 2 ) وما أمر بذلك ، وما فعلوا ذلك إلا لما يحتمل ذلك فيهم ) .

والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ، ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر كقوله تعالى : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } ( غافر : 7 ) . وإلى هذا ذهب الناس بتفضيلهم الملائكة على البشر .

وقال{[6851]} آخرون بتفضيل البشر على الملائكة . ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف بذلك على الملائكة .

فذلك يتحمل أن يتكلم فيه ، ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة إلى أنه ليس في قوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } على أن الملائكة كلهم أفضل منهم لأنه إنما ذكر ( المقربون } لم يذكر الملائكة مطلقا . فيجوز أن يكون لما{[6852]} ذكر فضل على الملائكة{[6853]} .

وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر ، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني ما{[6854]} يدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له ، وجعل لهم أعداء ، أمروا بالمجاهدة معهم من نحو أنفسهم والشياطين الذين سلطوا عليهم ، ولا كذلك الملائكة عليهم السلام فمن حفض نفسه ، وصانها ، وأخلص من بين الأعداء ، وقمع ما ركب فيه{[6855]} من الشهوات والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له ، كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك ، والله أعلم . وما ذكر من اغترار آدم وحواء بقول إبليس : { إلا أن تكونا ملكين } ( الأعراف : 20 ) يحتمل أن يكون آدم لما {[6856]} خلقه من جوهر البشر ، واخبر أنه جعله خليفة في الأرض ، لا{[6857]} يتناول ما نهي عنه ليصير من جوهر الملائكة . ولكنه ، والله أعلم ، رأى أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله ، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات ما{[6858]} يشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له ، فأحب أن يطبع بطبعهم ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم ، والله أعلم . والكلام في مثل هذا( يرجع ){[6859]} فضل ذلك إلى الله تعالى ، وإليه التخير والإفضال .

ثم تأويل قوله تعالى والله أعلم : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } أنهم{[6860]} كانوا يعبدون الملائكة دون الله ، ويعبدون المسيح دونه . فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي ، فكيف تستنكفون أنتم ؟

وقوله تعالى : { ومن يستنكف عن عبادتي ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } فهو ، والله أعلم . على الإضمار ؛ كأنه قال : ومن يستنكف عن عبادته ، ويستكبر ، ومن لم يستنكف ، ولم يستكبر ، فسيحشرهم جميعا .


[6845]:ساقطة من الأصل وم.
[6846]:ساقطة من الأصل وم.
[6847]:في الأصل وم: ما.
[6848]:في الأصل وم: عندهم.
[6849]:في الأصل وم: بالذي.
[6850]:في الأصل وم: أن.
[6851]:في الأصل وم: قال.
[6852]:في الأصل وم: لمن.
[6853]:في الأصل وم: البشر.
[6854]:في الأصل وم: التي.
[6855]:في الأصل وم: فيها.
[6856]:من م، في الأصل:لا.
[6857]:في الأصل وم: أنه.
[6858]:في الأصل وم: التي.
[6859]:ساقطة من الأصل وم.
[6860]:في الأصل وم: وذلك أنهم.