وقوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } تكلم الناس في هذه الآية . قال الحسن : ( فيه تفضيل الملائكة على البشر( لوجوه :
أحدها : ){[6845]} لأنه قال الله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } لأن الثاني يخرج مخرج التأكيد للأول . وأبدا إنما يذكر ما به يؤكد إذا كان أفضل منه وأرفع ، لا يكون التأكيد بمثله ولا بما دونه ، كما يقال : لا يقدر أن يحمل هذه الخشبة واحد ولا عشرة ، ولا يعمل هذا العمل واحد ولا عدد .
والثاني : ( لأنه ){[6846]} قال تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } ( التحريم : 6 ) وقال عز وجل : { يسبحون الليل والنهار ولا يفترون } ( الأنبياء : 20 ) وقال فكيف يستوي حال من يعصي مع حال من لا يعصي ، وحال من لا يفتر عن عبادته طرفة عين مع حال من يرتكب المناهي ؟
والثالث : لما{[6847]} قال الله تعالى حكاية عن إبليس حين قال لآدم وحواء عليهم السلام : { ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } ( الأعراف : 20 ) لو لم يكن للملائكة فضل عليهم{[6848]} ومنزلة ، ليس ذلك للبشر ، لم يكن إبليس بالذي يغرهما بذلك الملأك والوعد لهما أنهما يصيران ملكين ، ولا كان آدم وحواء باللذين {[6849]} يغران بذلك . دل أن الملك أفضل من البشر .
الرابع : لأن {[6850]} الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ما استغفروا لأحد إلا بدؤوا بالاستغفار لأنفسهم ثم لغيرهم من المؤمنين كقول نوح عليه السلام : { رب اغفر لي ولوالدي } الآية ( نوح : 28 ) وكقول إبراهيم عليه السلام : { ربنا اغفر لي /121-أ/ ولوالدي وللمؤمنين } ( إبراهيم : 41 ) وما أمر الله عز وجل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالاستغفار ، فقال : { واستغفر لذنبك } الآية ( غافر : 55ومحمد 19 ) وقال : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } ( الفتح : 2 ) وما أمر بذلك ، وما فعلوا ذلك إلا لما يحتمل ذلك فيهم ) .
والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ، ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر كقوله تعالى : { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } ( غافر : 7 ) . وإلى هذا ذهب الناس بتفضيلهم الملائكة على البشر .
وقال{[6851]} آخرون بتفضيل البشر على الملائكة . ولا يجب أن يتكلم في تفضيل البشر على الإطلاق على الملائكة لأنهم يعملون بالفساد وبكل فسق إلا أن يتكلم في تفضيل أهل الفضل من البشر والمعروف بذلك على الملائكة .
فذلك يتحمل أن يتكلم فيه ، ويذهب من قال بتفضيل من ذكرنا من البشر على الملائكة إلى أنه ليس في قوله تعالى : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } على أن الملائكة كلهم أفضل منهم لأنه إنما ذكر ( المقربون } لم يذكر الملائكة مطلقا . فيجوز أن يكون لما{[6852]} ذكر فضل على الملائكة{[6853]} .
وكلامنا في تفضيل الجوهر على الجوهر ، ولأن البشر ركب فيهم من الشهوات والأماني ما{[6854]} يدعوهم إلى ما فيه الخلاف لله والمعصية له ، وجعل لهم أعداء ، أمروا بالمجاهدة معهم من نحو أنفسهم والشياطين الذين سلطوا عليهم ، ولا كذلك الملائكة عليهم السلام فمن حفض نفسه ، وصانها ، وأخلص من بين الأعداء ، وقمع ما ركب فيه{[6855]} من الشهوات والحاجات الداعية إلى الخلاف لله والمعصية له ، كان أفضل ممن لا يشغله شيء من ذلك ، والله أعلم . وما ذكر من اغترار آدم وحواء بقول إبليس : { إلا أن تكونا ملكين } ( الأعراف : 20 ) يحتمل أن يكون آدم لما {[6856]} خلقه من جوهر البشر ، واخبر أنه جعله خليفة في الأرض ، لا{[6857]} يتناول ما نهي عنه ليصير من جوهر الملائكة . ولكنه ، والله أعلم ، رأى أن الملائكة طبعوا على حب العبادة لله ، ولم يركب فيهم من الشهوات والحاجات ما{[6858]} يشغل المرء عن العبادة لله والطاعة له ، فأحب أن يطبع بطبعهم ليقوم بعبادة الله كما قاموا هم ، والله أعلم . والكلام في مثل هذا( يرجع ){[6859]} فضل ذلك إلى الله تعالى ، وإليه التخير والإفضال .
ثم تأويل قوله تعالى والله أعلم : { لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } أنهم{[6860]} كانوا يعبدون الملائكة دون الله ، ويعبدون المسيح دونه . فأخبر أن أولئك الذين تعبدونهم أنتم لم يستنكفوا عن عبادتي ، فكيف تستنكفون أنتم ؟
وقوله تعالى : { ومن يستنكف عن عبادتي ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا } فهو ، والله أعلم . على الإضمار ؛ كأنه قال : ومن يستنكف عن عبادته ، ويستكبر ، ومن لم يستنكف ، ولم يستكبر ، فسيحشرهم جميعا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.