ثم تمضى السورة في حديثها عن رذائل مشركى قريش ، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم ، وجحودهم للحق . فتقول : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
وقائل هذا القول : النضر بن الحارث صاحب القول السالف { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا . . . } ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير .
وأخرج البخارى عن أنس بن مالك أن قائل ذلك : أبو جهل بن هشام .
وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض : أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء .
والمعنى : أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله ، وأن محمدا قد جاءهم بالحق . . بل أضافوا إلى ذلك قولهم : اللهم إن كان هذا الذي جاء به محمد بن قرآن وغيره وهو الحق المنزل من عندك ، فعاقبنا على إنكاره والكفر به ، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا . أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا .
قال الجمل : قوله : { هُوَ الحق } قرأ العامة " الحق " بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ { هُوَ } للفصل . وقرأ الأعمش وزيد بن على " الحق " بالرفع ووجوهها ظاهر برفع لفظ " هو " على الابتداء ، والحق خبره ، الجملة خبر الكون .
وفى إطلاقهم { الحق } على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجعله من عند الله ؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنين .
وأل فيه للعهد : أي الحق الذي ادعى محمد أنه جاء به من عند الله .
وقوله : { مِّنَ السمآء } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حِجَارَةً } وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيبا لظالمين .
قال صاحب الكشاف : وهذا أسلوب من الجحود بليغ . يعن إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل ، أو بعذاب آخر . . ومرادهم نفى كونه حقا ، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا ، فكان تعليق العذاب بكونه حقا ، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال في قولك : إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء .
فإن قلت : ما فائدة قوله { مِّنَ السمآء } والأمطار لا تكون إلا منها ؟
قلت : كأنهم يريدون أن يقولوا : فامطر علينا السجيل وهى الحجارة المسومة للعذاب ، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل .
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ : ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ، فقال الرجل : أجهل من قومى قومك ، فقد قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحق : { إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء . . . } ولم يقولوا : إن كان هذا هو الحق فاهدنا له .
ولقد كان هذا الرجل حكيما في رده على معاوية ، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه . . ولكن العناد الجامع الذي استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإِذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دعاهم إلى عبادة الله وحده .
. وهكذا النفوس عندما تنغمس في الأحقاد وتتمادى في الجحود . وتنقاد للأهواء والشهوات ، وتأخذها للأهواء والشهوات ، وتأخذها العزة بالإِثم . ترى الباطل حقا ، والحق باطلا ، وتؤثر العذاب وهى سادرة في باطلها ، على الخضوع للحق والمنطق والصواب .
ثم يمضي السياق يصف العجب العاجب من عناد المشركين في وجه الحق الذي يغالبهم فيغلبهم ؛ فإذا الكبرياء تصدهم عن الاستسلام له والإذعان لسلطانه ؛ وإذا بهم يتمنون على الله - إن كان هذا هو الحق من عنده - أن يمطر عليهم حجارة من السماء ، أو أن يأتيهم بعذاب أليم . بدلاً من أن يسألوا الله أن يرزقهم اتباع هذا الحق والوقوف في صفه :
( وإذ قالوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ) . .
وهو دعاء غريب ؛ يصور حالة من العناد الجامح الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق ، حتى ولو كان حقاً ! . إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق ، وأن يهديها إليه ، دون أن تجد في هذا غضاضة . ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة ، تأخذها العزة بالإثم ، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب ، على أن تخضع للحق عندما يكشف لها واضحاً لا ريب فيه . . وبمثل هذا العناد كان المشركون في مكة يواجهون دعوة رسول الله [ ص ] ولكن هذه الدعوة هي التي انتصرت في النهاية في وجه هذا العناد الجامح الشموس !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللّهُمّ إِن كَانَ هََذَا هُوَ الْحَقّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } . .
يقول تعالى ذكره : واذكر يا محمد أيضا ما حلّ بمن قال : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ إذ مكرت لهم ، فأتيتهم بعذاب أليم . وكان ذلك العذاب : قتلهم بالسيف يوم بدر . وهذه الاَية أيضا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحرث . ذكر من قال ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَإذْ قالُوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ قال : نزلت في النضر بن الحرث .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قال : قول النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قول النضر بن الحرث بن علقمة بن كلدة من بني عبد الدار .
قال : أخبرنا إسحاق ، قال : أخبرنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ قال : هو النضر بن الحرث بن كلدة .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، قال : قال رجل من بني عبد الدار ، يقا له النضر بن كلدة : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ فقال الله : وَقالُوا رَبّنا عَجّلْ لَنا قِطّنا قَبْلَ يَوْمِ الحِسابِ وقال : وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّلَ مَرّةٍ وقال : سأَلَ سائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ قال عطاء : لقد نزل فيه بضع عشرة آية من كتاب الله .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : فقال يعني النضر بن الحرث : اللهمّ إن كان ما يقول محمد هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ قال الله : سأَلَ سائِلٌ بعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية ، قال : سأَلَ سائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ للْكافِرِينَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قالُوا اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ . . . الاَية ، قال : قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهَلتها ، فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم ذكر غيرة قريش واستفتاحهم على أنفسهم ، إذ قالوا : اللّهُمّ إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ أي ما جاء به محمد ، فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السّماءِ كما أمطرتها على قوم لوط أوِ ائْتِنا بِعَذَابٍ ألِيمٍ أي ببعض ما عذّبت به الأمم قبلنا .
واختلف أهل العربية في وجه دخول «هو » في الكلام . فقال بعض البصريين نصب «الحق » ، لأن «هو » والله أعلم حوّلت زائدة في الكلام صلة توكيد كزيادة «ما » ، ولا تزاد إلاّ في كلّ فعل لا يستغني عن خبر ، وليس هو بصفة لهذا ، لأنك لو قلت : «رأيت هذا هو » لم يكن كلاما ، ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة ، ولكنها تكون من صفة المضمرة ، نحو قوله : وَلَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمينَ تجِدُوهُ عِنْدَ اللّهِ هُوَ خَيرا وَأعْظمَ أجْرا لأنك تقول : «وجدته هو وإياي » فتكون «هو » صفة . وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة ، ولكنها تكون زائدة كما كان في الأوّل . وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم ، فيرفع ما بعدها إن كان بعدها ظاهرا أو مضمرا في لغة بني تميم ، يقولون في قوله : إنْ كانَ هَذَا هُوَ الحَقّ مِنْ عِنْدِكَ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمينَ وَ تجِدُوهُ عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرا وَأعْظَم أجْرا كما تقول : كانوا آباؤهم الظالمون ، جعلوا هذا المضمر نحو «هو » و «هما » و «أنت » زائدا في هذا المكان . ولم تجعل مواضع الصفة ، لأنه فصل أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفة لما قبله ، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر .
وكان بعض الكوفيين يقول : لم تدخل «هو » التي هي عماد في الكلام إلاّ لمعنى صحيح . وقال : كأنه قال : زيد قائم ، فقلت أنت : بل عمرو هو القائم فهو لمعهود الاسم والألف ، واللام لمعهود الفعل التي هي صلة في الكلام مخالفة لمعنى «هو » ، لأن دخولها وخروجها واحد في الكلام ، وليست كذلك هو وأما التي تدخل صلة في الكلام ، فتوكيد شبيه بقولهم : «وجدته نفسه » تقول ذلك ، وليست بصفة كالظريف والعاقل .
وقوله { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية ، روي عن مجاهد وابن جبير وعطاء والسدي أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارث الذي تقدم ذكره ، وفيه نزلت هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : وترتب أن يقول النضر بن الحارث مقالة وينسبها القرآن إلى جميعهم ، لأن النضر كان فيهم موسوماً بالنبل والفهم مسكوناً إلى قوله ، فكان إذا قال قولاً قاله منهم كثير واتبعوه عليه حسبما يفعله الناس أبداً بعلمائهم وفقهائهم ، والمشار إليه بهذا هو القرآن وشرع محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحسد ، وذلك أنهم استبعدوا أن يكرم الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكرامة ، وعميت بصائرهم عن الهدى ، وصمموا على أن هذا ليس بحق ، فقالوا هذه المقالة كما يقول الإنسان لأمر قد تحقق بزعمه إنه لم يكن ، إن كان كذا وكذا ففعل الله بي وصنع{[5311]} ، وحكى ابن فورك أن هذه المقالة خرجت مخرج العناد مع علمهم بأنه حق ، وكذلك ألزم بعض أهل اليمن معاوية بن أبي سفيان القصة المشهورة في باب الأجوبة ، وحكاه الطبري عن محمد بن قيس ويزيد بن رومان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد التأويل ولا يقول هذا على جهة العناد عاقل ، ويجوز في العربية رفع { الحق } على أنه خبر { هو } والجملة خبر { كان } ، قال الزّجاج : ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز{[5312]} وقراءة الناس إنما هي بنصب «الحقَّ » على أن يكون خبر «كان » ويكون هو فصلاً ، فهو حينئذ اسم وفيه معنى الإعلام بان الذي بعده خبر ليس بصفة . و { أمطر } إنما يستعمل في المكروه ومطر في الرحمة كذا قال أبو عبيدة .
قال القاضي أبو محمد : ويعارض هذه قوله { هذا عارض ممطرنا }{[5313]} لأنهم ظنوها سحابة رحمة ، وقولهم { من السماء } مبالغة وإغراق وهذان النوعان اللذان اقترحوهما هما السالفان في الأمم عافانا الله وعفا عنا ولا أضلنا بمنّة ويمنه .