ثم يحكى القرآن بعد ذلك ، ما أشارت به إحدى الفتاتين على أبيها : فقال - تعالى - : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا } ولعلها التى جاءت إلى موسى على استحياء لتقوله له : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } .
{ ياأبت استأجره } أى : قالت لأبيها بوضوح واستقامة قصد - شأن المرأة السليمة القطرة النقية العرض القوية الشخصية - يا أبت استأجر هذا الرجل الغريب ليكفينا تعب الرعى ، ومشقة العمل خارج البيت .
ثم عللت طلبها بقولها : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } أى : استأجره ليرى غنمنا ، فإنه جدير بهذه المهمة ، لقوته وأمانته ، ومن جمع فى سلوكه وخلقه بين القوة والأمانة ، كان أهلا لكل خير ، ومحلا لثقة الناس به على أموالهم وأعراضهم .
قال ابن كثير : قال عمر ، وابن عباس ، وشريح القاضى ، وأبو مالك ، وقتادة . . . وغير واحد : لما قالت : { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : وما علمك بذلك ؟ قالت : إنه رفع الصخرة التى لا يطيق حملها إلا عشرة رجال ، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه ، فقال لى : كونى من ورائى ، فإذا اجتنبت الطريق فاحذفى - أى فارمى - بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدى إليه .
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة :
( قالت إحداهما ؛ يا أبت استأجره . إن خير من استأجرت القوي الأمين ) .
إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم ، ومن مزاحمة الرجال على الماء ، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال . وهي تتأذى وأختها من هذا كله ؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت ؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى . والمرأة العفيفة الروح النظيفة القلب ، السليمة الفطرة ، لا تستريح لمزاحمة الرجال ، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة .
وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين . رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما . وهو غريب . والغريب ضعيف مهما اشتد . ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته . فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل . وهو قوي على العمل ، أمين على المال . فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه . وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب ، ولا تخشى سوء الظن والتهمة . فهي بريئة النفس ، نظيفة الحس ؛ ومن ثم لا تخشى شيئا ، ولا تتمتم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها .
ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى . كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه - فيما قالوا - إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل . فالبئر لم يكن مغطى ، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين ، أو سقى لهما مع الرعاء .
ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة : امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها . أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها . . فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها . وموسى - عليه السلام - عفيف النظر نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة . فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيّ الأمِينُ } .
يقول تعالى ذكره : قالت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى لأبيها حين أتاهُ موسى ، وكان اسم إحداهما صَفّورا ، واسم الأخرى لَيّا ، وقيل : شَرْفا كذلك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاجِ ، عن ابن جُرَيج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان الرمادي ، عن شعيب الجَبَئِي ، قال : اسم الجاريتين لَيّا ، وصَفّورا ، وامرأة موسى صفورا ابنة يثرون كاهن مدين ، والكاهن : حبر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : إحداهما صَفّورا ابنة يثرون وأختها شرفا ، ويقال : ليا ، وهما اللتان كانتا تذودان .
وأما أبوهما ففي اسمه اختلاف ، فقال بعضهم : كان اسمه يثرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمر بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : كان الذي استأجر موسى ابنُ أخي شعيب يثرون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عُبيدة ، قال : الذي استأجر موسى يثرون ابنُ أخي شعيب عليه السلام .
وقال آخرون : بل اسمه : يَثَرى . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا العلاء بن عبد الجبار ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين .
حدثني أبو العالية العبديّ إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : الذي استأجر موسى : يثرى صاحب مدين .
حدثني أبو العالية العبديّ إسماعيل بن الهيثم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، عن حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة ، عن ابن عباس ، قال : اسم أبي المرأة : يثرى .
وقال آخرون : بل اسمه شعيب ، وقالوا : هو شعيب النبيّ صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا قرّة بن خالد ، قال : سمعت الحسن يقول : يقولون شعيب صاحب موسى ، ولكنه سيد أهل الماء يومئذٍ .
قال أبو جعفر : وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبر ، ولا خبر بذلك تجب حجته ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جلّ ثناؤه وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرأتَيْنِ تَذُودَانِ . . . قالَتْ إحْداهُما : يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ تعني بقولها : استأجره ليرعى عليك ماشيتك إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينٌ تقول : إن خير من تستأجره للرعي القويّ على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها ، الأمين الذي لا تخاف خيانته ، فيما تأمنه عليه . وقيل : إنها لما قالت ذلك لأبيها ، استنكر أبوها ذلك من وصفها إياه فقال لها : وما علمك بذلك ، فقالت : أما قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السقي على البئر ، وأما الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عني . وبنحو ذلك جاءت الأخبار عن أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا الأصبغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : قالَتْ إحْداهُما يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : فأحفظته الغَيْرة أن قال : وما يدريك ما قوّته وأمانته ؟ قالت : أما قوّته ، فما رأيت منه حين سقى لنا ، لم أر رجلاً قطّ أقوى في ذلك السقي منه وأما أمانته ، فإنه نظر حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ، ولم ينظر إليّ حتى بلغته رسالتك ، ثم قال : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، ولم يفعل ذلك إلا وهو أمين ، فَسُرّيَ عن أبيها وصدّقها وظنّ به الذي قالت .
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله لموسى إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ يقول : أمين فيما وَلِيَ ، أمين على ما استُودع .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالَتْ إحْدَاهُما يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأجرْتَ القَويّ الأمِينُ قال : إن موسى لمّا سَقَى لَهما ، ورأت قوّته ، وحرّك حجَرا على الركِيّة ، لم يستطعه ثلاثون رجلاً ، فأزاله عن الركية ، وانطلق مع الجارية حين دعته ، فقال لها : امشي خلفي وأنا أمامك ، كراهية أن يرى شيئا من خلفها مما حرّم الله أن ينظر إليه ، وكان يوما فيه ريح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن عبد الرحمن بن أبي نعم ، في قوله : يا أبَتِ اسْتأجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ قال لها أبوها : ما رأيت من أمانته ؟ قالت : لما دعوته مشيت بين يديه ، فجعلت الريح تضرب ثيابي ، فتلزق بجسدي ، فقال : كوني خلفي ، فإذا بلغت الطريق فاذهبي ، قالت : ورأيته يملأ الحوض بسَجْلٍ واحد .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : القَوِيّ الأمِينُ قال : غضّ طرفه عنهما . قال محمد بن عمرو في حديثه : حين ، أو حتى سقى لهما فصدرتا . وقال الحارث في حديثه : حتى سقى بغير شك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : فتح عن بئر حجرا على فيها ، فسقى لهما بها ، والأمين : أنه غضّ بصره عنهما حين سقى لهما فصدرتا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر وهانىء بن سعيد ، عن الحجاج ، عن القاسم ، عن مجاهد إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجْرَتَ القَوِيّ الأمِينُ قال : رفع حجرا لا يرفعه إلا فِئام من الناس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، قال عمرو بن ميمون ، في قوله القَوِيّ الأمِينُ قال : كان يوم ريح ، فقال : لا تمشي أمامي ، فيصفك الريح لي ، ولكن امشي خلفي ودلّيني على الطريق قال : فقال لها : كيف عرفت قوّته ؟ قالت : كان الحجر لا يطيقه إلا عشرة فرفعه وحده .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الحجاج بن أرطاة ، عن الحكم ، عن شريح في قوله : القَوِيّ الأَمِينُ قال : أما قوّته : فانتهى إلى حجر لا يرفعه إلا عشرة ، فرفعه وحده . وأما أمانته : فإنها مشت أمامه فوصفها الريح ، فقال لها : امشي خلفي وصفي لي الطريق .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عمرو ، عن زائدة ، عن الأعمش ، قال : سألت تميم بن إبراهيم : بم عرفت أمانته ؟ قال : في طرفه ، بغضّ طرفه عنها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : القويّ في الصنعة ، الأمين فيما وَلِي . قال : وذُكر لنا أن الذي رأت من قوّته : أنه لم تلبث ماشيتها حتى أرْواها وأن الأمانة التي رأت منه أنها حِين جاءت تدعوه ، قال لها : كوني ورائي ، وكره أن يستدبرها ، فذلك ما رأت من قوّته وأمانته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قوله : يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأَمِينُ قال : بلغنا أن قوته كانت سرعة ما أروى غنمهما . وبلغنا أنه ملأ الحوض بدلو واحد . وأما أمانته فإنه أمرها أن تمشي خلفه .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قالَتْ إحْداهُما : يا أبَتِ اسْتَأْجْرِهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ وهي الجارية التي دعته ، قال الشيخ : هذه القوّة قد رأيت حين اقتلع الصخرة ، أرأيت أمانته ، ما يدريك ما هي ؟ قالت : مشيت قدّامه فلم يحبّ أن يخونني في نفسي ، فأمرني أن أمشي خلفه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قالَتْ إحْدَاهُما : يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتأْجَرْتَ القَوِي الأميِنُ فقال لها : وما عِلْمك بقوته وأمانته ، فقالت : أما قوّته فإنه كشف الصخرة التي على بئر آل فلان ، وكان لا يكشفها دون سبعة نفر . وأما أمانته فإني لما جئت أدعوه قال : كوني خَلْفَ ظهري ، وأشيري لي إلى منزلك ، فعرفت أن ذلك منه أمانة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قالَتْ يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينُ لما رأت من قوّته وقوله لها ما قال : أَنِ امشي خلفي ، لئلا يرى منها شيئا مما يكره ، فزاده ذلك فيه رغبة .
{ قالت إحداهما } يعني التي استدعته . { يا أبت استأجره } لرعي الغنم . { إن خير من استأجرت القوي الأمين } تعليل شائع يجري مجرى الدليل على أنه حقيق بالاستئجار وللمبالغة فيه ، جعل { خير } اسما وذكر الفعل بلفظ الماضي لدلالة على أنه امرؤ مجرب معروف . روي أن شعيبا قال لها وما أعلمك بقوته فذكرت إقلال الحجر وأنه صوب رأسه حتى بلغته رسالته وأمرها بالمشي خلفه .
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه ، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته .
والتاء في { أبت } عوض عن ياء المتكلم في النداء خاصة وهي يجوز كسرها وبه قرأ الجمهور . ويجوز فتحها وبه قرأ ابن عامر وأبو جعفر .
وجملة { إن خير من استأجرت القوي الأمين } علة للإشارة عليه باستئجاره ، أي لأن مثله من يستأجر . وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف ، فالتعريف باللام في { القوي الأمين } للجنس مراد به العموم . والخطاب في { من استأجرت } موجه إلى شعيب ، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً . فالتقدير : من استأجر المستأجر . و { من } موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين .
وجعل { خير من استأجرت } مسنداً إليه بجعله اسماً لأن جعل { القوي الأمين } خبراً مع صحة جعل { القوي الأمين } هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه { خير } ، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما ، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير ، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة { استأجره } فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقباً لحاله .
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفاً المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتاً للحكم بدليل . فتقدير معنى الكلام : استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين . فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي ، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت إحدى المرأتين اللتين سقى لهما موسى لأبيها حين أتاهُ موسى..."يا أبَتِ اسْتَأَجِرْهُ" تعني بقولها: استأجره ليرعى عليك ماشيتك، "إنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيّ الأمِينٌ" تقول: إن خير من تستأجره للرعي القويّ على حفظ ماشيتك والقيام عليها في إصلاحها وصلاحها، الأمين الذي لا تخاف خيانته، فيما تأمنه عليه. وقيل: إنها لما قالت ذلك لأبيها، استنكر أبوها ذلك من وصفها إياه فقال لها: وما علمك بذلك، فقالت: أما قوّته فما رأيت من علاجه ما عالج عند السقي على البئر، وأما الأمانة فما رأيت من غضّ البصر عني...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
دل ذلك أنه كان في طلب الأجير، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم، وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه. لذلك قالت له: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين}.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقولها: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوى الأمين} كلام حكيم جامع لا يزاد عليه، لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان؛ أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك؛ وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة، أن تقول استأجره لقوّته وأمانته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما اقتضى هذا القول أنه آواه إليه، علمت انتباه مضمونه، وكانتا قد رأتا من كفايته وديانته ما يرغب في عشرته، فتشوفت النفس إلى حالهما حينئذ، فقال مستأنفاً لذلك: {قالت إحداهما} أي المرأتين. قيل: وهي التي دعته إلى أبيها مشيرة بالنداء بأداة البعد إلى استصغارها لنفسها وجلالة أبيها: {يا أبت استأجره} ليكفينا ما يهمنا؛ ثم عللت قولها فقالت مؤكدة إظهاراً لرغبتها في الخير واغتباطها به: {إن خير من استأجرت} لشيء من الأشياء {القوي} وهو هذا لما رأيناه من قوته في السقي {الأمين} لما تفرسنا فيه من حيائه، وعفته في نظره ومقاله وفعاله، وسائر أحواله...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إن موسى أولى من استؤجر، فإنه جمع القوة والأمانة، وخير أجير استؤجر، من جمعهما، أي: القوة والقدرة على ما استؤجر عليه، والأمانة فيه بعدم الخيانة، وهذان الوصفان، ينبغي اعتبارهما في كل من يتولى للإنسان عملا، بإجارة أو غيرها. فإن الخلل لا يكون إلا بفقدهما أو فقد إحداهما، وأما باجتماعهما، فإن العمل يتم ويكمل، وإنما قالت ذلك، لأنها شاهدت من قوة موسى عند السقي لهما ونشاطه، ما عرفت به قوته، وشاهدت من أمانته وديانته، وأنه رحمهما في حالة لا يرجى نفعهما، وإنما قصده [بذلك] وجه اللّه تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم نسمع في المشهد صوت الأنوثة المستقيمة السليمة: (قالت إحداهما؛ يا أبت استأجره. إن خير من استأجرت القوي الأمين). إنها وأختها تعانيان من رعي الغنم، ومن مزاحمة الرجال على الماء، ومن الاحتكاك الذي لا بد منه للمرأة التي تزاول أعمال الرجال. وهي تتأذى وأختها من هذا كله؛ وتريد أن تكون امرأة تأوي إلى بيت؛ امرأة عفيفة مستورة لا تحتك بالرجال الغرباء في المرعى والمسقى. والمرأة العفيفة الروح النظيفة القلب، السليمة الفطرة، لا تستريح لمزاحمة الرجال، ولا للتبذل الناشئ من هذه المزاحمة. وها هو ذا شاب غريب طريد وهو في الوقت ذاته قوي أمين. رأت من قوته ما يهابه الرعاء فيفسحون له الطريق ويسقي لهما. وهو غريب. والغريب ضعيف مهما اشتد. ورأت من أمانته ما يجعله عف اللسان والنظر حين توجهت لدعوته. فهي تشير على أبيها باستئجاره ليكفيها وأختها مؤنة العمل والاحتكاك والتبذل. وهو قوي على العمل، أمين على المال. فالأمين على العرض هكذا أمين على ما سواه. وهي لا تتلعثم في هذه الإشارة ولا تضطرب، ولا تخشى سوء الظن والتهمة. فهي بريئة النفس، نظيفة الحس؛ ومن ثم لا تخشى شيئا، ولا تتمتم ولا تجمجم وهي تعرض اقتراحها على أبيها. ولا حاجة لكل ما رواه المفسرون من دلائل قوة موسى. كرفع الحجر الذي يغطي البئر وكان لا يرفعه -فيما قالوا- إلا عشرون أو أربعون أو أكثر أو أقل. فالبئر لم يكن مغطى، إنما كان الرعاء يسقون فنحاهم وسقى للمرأتين، أو سقى لهما مع الرعاء. ولا حاجة كذلك لما رووه عن دلائل أمانته من قوله للفتاة: امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها. أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثوبها عن كعبها.. فهذا كله تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها. وموسى -عليه السلام- عفيف النظر نظيف الحس، وهي كذلك، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة. فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
حذف ما لقيه موسى من شعيب من الجزاء بإضافته وإطعامه، وانتقل منه إلى عَرض إحدى المرأتين على أبيها أن يستأجره للعمل في ماشيته إذ لم يكن لهم ببيتهم رجل يقوم بذلك وقد كبر أبوهما فلما رأت أمانته وورعه رأت أنه خير من يستأجر للعمل عندهم لقوته على العمل وأمانته...
وجملة {إن خير من استأجرت القوي الأمين} علة للإشارة عليه باستئجاره، أي لأن مثله من يستأجر. وجاءت بكلمة جامعة مرسلة مثلاً لما فيها من العموم ومطابقة الحقيقة بدون تخلف، فالتعريف باللام في {القوي الأمين} للجنس مراد به العموم. والخطاب في {من استأجرت} موجه إلى شعيب، وصالح لأن يعم كل من يصلح للخطاب لتتم صلاحية هذا الكلام لأن يرسل مثلاً. فالتقدير: من استأجر المستأجر. و {من} موصولة في معنى المعرف بلام الجنس إذ لا يراد بالصلة هنا وصف خاص بمعين.
وجعل {خير من استأجرت} مسنداً إليه بجعله اسماً لأن جعل {القوي الأمين} خبراً مع صحة جعل {القوي الأمين} هو المسند إليه فإنهما متساويان في المعرفة من حيث إن المراد بالتعريف في الموصول المضاف إليه {خير}، وفي المعرّف باللام هنا العموم في كليهما، فأوثر بالتقديم في جزأي الجملة ما هو أهم وأولى بالعناية وهو خير أجير، لأن الجملة سيقت مساق التعليل لجملة {استأجره} فوصف الأجير أهم في مقام تعليلها ونفسُ السامع أشد ترقباً لحاله.
ومجيء هذا العموم عقب الحديث عن شخص معين يؤذن بأن المتحدث عنه ممن يشمله ذلك العموم فكان ذلك مصادفاً المحز من البلاغة إذ صار إثبات الأمانة والقوة لهذا المتحدث عنه إثباتاً للحكم بدليل. فتقدير معنى الكلام: استأجره فهو قوي أمين وإن خير من استأجر مستأجر القوي الأمين. فكانت الجملة مشتملة على خصوصية تقديم الأهم وعلى إيجاز الحذف وعلى المذهب الكلامي، وبذلك استوفت غاية مقتضى الحال فكانت بالغة حد الإعجاز.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وسبق في سورة النمل على لسان العفريت من الجن وهو يرشح نفسه لنقل عرش ملكة سبأ من مقرها إلى بلاط سليمان قبل أن يقوم من مقامه: {أنا آتيك به من قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين}، فدعم ترشيحه لتلك المهمة بكونه "قويا "على نقل العرش، وكونه "أمينا" على ما فيه، والمراد "بالقوة" في هذا المقام ما يشمل القوة الجسمية والقوة الفكرية، من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، ومن كان قوي الجسم ضعيف العقل، أو قوي العقل لكنه ضعيف الجسم، لا ينهض بالمهمة الموكولة إليه، ويتسرب الخلل إلى العمل المكلف به، بقدر ما هو عليه من ضعف جسمي أو ضعف فكري، أما "الأمانة" فهي بالنسبة لكل عامل صمام الأمان، الذي يحول بينه وبين الغش والكسل والإهمال، ويحميه من سوء التصرف والرشوة والاستغلال، قال أحد العلماء الحكماء: "إذا اجتمعت هاتان الخصلتان الكفاية والامانة في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك".