وبعد أن حضه على الشكر لله - تعالى - رد على إفتخاره وغرروه بقوله - كما حكى القرآن عنه - : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } .
أى : إن ترن - أيها المغرور - أنا أقل منك فى المال والولد فإنى أرجو الله الذى لا يعجزه شئ ، أن يرزقنى ما هو خير من جنتك فى الدنيا والآخرة .
{ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } أى : عذابا من جهة السماء كالصواعق والسموم وغيرها مما يشاء الله - تعالى - إرساله عليها من المهلكات التى تذرها قاعا صفصفا .
قال صاحب الكشاف : والحسبان مصدر كالغفران والبطلان بمعنى الحساب . أى : ويرسل عليها مقدارا قدره الله وحسبه ، وهو الحكم بتخريبها .
{ فتصبح } بعد اخضرارها ونضارتها { صعيدا } أى : أرضا { زلقا } أى : جرداء ملساء لا نبات فيها ، ولا يثبت عليها قدم .
والمراد أنها تصير عديمة النفع من كل شئ حتى من المشى عليها . يقال : مكان زَلَق ، أى : دَحْضٌ ، وهو فى الأصل مصدر زَلِقَتْ رجله تزِلق زلقا ، ومعناه : الزلل فى المشى لوحل ونحوه .
ويرجو عند ربه ما هو خير من الجنة والثمار :
( فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنْ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً )
وهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة ، فلا تبالي المال والنفر ، ولا تداري الغنى والبطر ، ولا تتلعثم في الحق ، ولا تجامل فيه الأصحاب . وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال ، وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة ، وأن فضل الله عظيم وهو يطمع في فضل الله . وأن نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { فعسَىَ رَبّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مّن جَنّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مّنَ السّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن الموقن للمعاد إلى الله للكافر المرتاب في قيام الساعة : إن تَرَن أيها الرجل أنا أقلّ منك مالاً وولدا في الدنيا ، فعسى ربي أن يرزقني خيرا من بستانك هذا وَيُرْسِلَ عَلَيْها يعني على جنة الكافر التي قال لها : ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا حُسْبانا مِنَ السّماءِ يقول : عذابا من السماء ترمي به رميا ، وتقذف . والحُسْبان : جمع حُسْبانة ، وهي المرامي . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانا مِنَ السّماءِ عذابا .
حُدثت عن محمد بن يزيد ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : عذابا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أوْ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْبانا مِنَ السّماءِ . قال : عذابا ، قال : الحُسبان : قضاء من الله يقضيه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : الحُسبان : العذاب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله حُسْبانا مِنَ السّماءِ قال : عذابا . وقوله : فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا يقول عزّ ذكره : فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فيها ، قد ذهب كلّ ما فيها من غَرْس ونبت ، وعادت خرابا بلاقع ، زَلَقا ، لا يثبت في أرضها قدم لا ملساسها ، ودروس ما كان نابتا فيها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا : أي قد حُصِد ما فيها فلم يُترك فيها شيء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال : مثل الجُرز .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال ابن زيد ، في قوله : فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا قال : صعيدا زلقا وصعيدا جُرزا واحد ليس فيها شيء من النبات .
{ فعسى ربي أن يُؤتينِ خيرا من جنّتك } في الدنيا أو في الآخرة لإيماني وهو جواب الشرط . { ويُرسل عليها } على جنتك لكفرك . { حسبانا من السماء } مرامي جمع حسبانة وهي الصواعق . وقيل هو مصدر بمعنى الحساب المراد به التقدير بتخريبها أو عذاب حساب الأعمال السيئة . { فُتصبح صعيدا زَلقاً } أرضا ملساء يزلق عليها باستئصال نباتها وأشجارها .
هذا الترجي ب «عسى » يحتمل أن يريد به في الدنيا ، ويحتمل أن يريد به في الآخرة ، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعاً ، وأذهب مع الخير والصلاح ، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهب في نكاية المخاطب ، وأشد إيلاماً لنفسه ، و «الحسبان » العذاب كالبرد والصر ونحوه ، واحد الحسبان : حسبانة ، وهي المرامي من هذه الأنواع المذكورة ، وهي أيضاً سهام ترمى دفعة بآلة لذلك ، و «الصعيد » وجه الأرض و «الزلق » الذي لا تثبت فيه قدم ، يعني أنه تذهب أشجاره ونباته ، ويبقى أرضاً قد ذهبت منافعها ، حتى منفعة المشي فيها ، فهي وحل لا تنبت ولا تثبت فيه قدم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فعسى ربي أن يؤتين خيرا}، يعني: أفضل، {من جنتك ويرسل عليها}، يعني: على جنتك، {حسبانا}، يعني: عذابا، {من السماء فتصبح} جنتك، {صعيدا}، يعني: مستويا ليس فيه شيء، {زلقا}، يعني: أملسا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل المؤمن الموقن للمعاد إلى الله للكافر المرتاب في قيام الساعة:"إن تَرَن" أيها الرجل "أنا أقلّ منك مالاً وولدا "في الدنيا، فعسى ربي أن يرزقني خيرا من بستانك هذا "وَيُرْسِلَ عَلَيْها" يعني على جنة الكافر التي قال لها: "ما أظنّ أن تبيد هذه أبدا" "حُسْبانا مِنَ السّماءِ" يقول: عذابا من السماء ترمى به رميا وتقذف. والحُسْبان: جمع حُسْبانة، وهي المرامي...
"فَتُصْبِحَ صَعِيدا زَلَقا" يقول عزّ ذكره: فتصبح جنتك هذه أيها الرجل أرضا ملساء لا شيء فيها، قد ذهب كلّ ما فيها من غَرْس ونبت، وعادت خرابا بلاقع، "زَلَقا": لا يثبت في أرضها قدم لاملساسها، ودروس ما كان نابتا فيها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فقال أهل التأويل: الحسبان العذاب. إلا أن أبا بكر الأصم قال: عذابا على حساب ما عملوا؛ وذلك جزاؤه في الكفرة، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين أهلكهما حين قال: {ذواتي أكل} إلى قوله: {ذلك جزيناهم} الآية (سبإ: 16و17).
{فتصبح صعيدا زلقا} قال أبو عوسجة: {صعيدا زلقا} الذي ليس عليه نَبْتُ، و {زلقا} أي مستويا. وقال القتبي: الصعيد الأملس المستوي، والزَّلِقُ الذي تَزِلُّ عنه الأقدام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خَيْرًا مّن جَنَّتِكَ} ويسلبك لكفرك نعمته ويخرّب بستانك. والحسبان: مصدر كالغفران والبطلان، بمعنى الحساب، أي: مقداراً قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتخريبها وقال الزجاج: عذاب حسبان، وذلك الحسبان حساب ما كسبت يداك. وقيل حسباناً مرامي الواحدة حسبانة وهي الصواعق. {صَعِيدًا زَلَقًا} أرضاً بيضاء يزلق عليها لملاستها زلقاً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذا الترجي بـ «عسى» يحتمل أن يريد به في الدنيا، ويحتمل أن يريد به في الآخرة، وتمني ذلك في الآخرة أشرف مقطعاً، وأَذْهَبُ مع الخير والصلاح، وأن يكون ذلك يراد به الدنيا أذهبُ في نِكاية المخاطب، وأشد إيلاماً لنفسه.. و «الحسبان» العذاب كالبرد والصِّرِّ ونحوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أقر هذا المؤمن بالعجز والافتقار، في نظير ما أبدى الكافر من التقوى والافتخار، سبب عن ذلك ما جرت به العادة في كل جزاء، داعياً بصورة التوقع فقال تعالى: {فعسى ربي} المحسن إليّ {أن يؤتين} من خزائن رزقه {خيراً من جنتك} فيحسن إليّ بالغنى كما أحسن إليّ بالفقر المقترن بالتوحيد، المنتج للسعادة {ويرسل عليها} أي جنتك {حسباناً} أي مرامي من الصواعق والبرد الشديد {من السماء}.
ولما كانت المصابحة بالمصيبة أنكى ما يكون، قال تعالى: {فتصبح} بعد كونها قرة للعين بما تهتز به من الأشجار والزروع {صعيداً زلقاً} أي أرضاً يزلق عليها لملاستها باستئصال نباتها، فلا ينبت فيها نبات، ولا يثبت فيها قدم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهكذا تنتفض عزة الإيمان في النفس المؤمنة، فلا تبالي المال والنفر، ولا تداري الغنى والبطر، ولا تتلعثم في الحق، ولا تجامل فيه الأصحاب. وهكذا يستشعر المؤمن أنه عزيز أمام الجاه والمال، وأن ما عند الله خير من أعراض الحياة، وأن فضل الله عظيم وهو يطمع في فضل الله. وأن نقمة الله جبارة وأنها وشيكة أن تصيب الغافلين المتبطرين.
وعسى للرجاء، فإن كان الرجاء من الله فهو واقع لاشك فيه؛ لذلك حينما تقول عند نعمة الغير:"ما شاء الله لا قوة إلا بالله" يعطيك الله خيراً مما قلت عليه: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله"، وإن اعترفت بنعمة الله عليك ورددت الفضل إليه سبحانه زادك، كما جاء في قوله تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
فقوله: {فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك}: أي: ينقل مسألة الغنى والفقر ويحولها، فأنت لا قدرة لك على حفظ هذه النعمة، كما أنك لا قدرة لك على جلبها من البداية. إذن: يمكن أن يعطيني ربي نعمة مثل نعمتك، في حين تظل نعمتك كما هي، لكن إرادة الله تعالى أن يقلب نعمتك ويزيلها: {ويرسل عليها حسبانا من السماء}: هذه النعمة التي تعتز بها وتفخر بزهرتها وتتعالى بها على خلق الله يمكن أن يرسل الله عليها حسباناً.
والحسبان: الشيء المحسوب المقدر بدقة وبحساب، كما جاء في قوله تعالى: {الشمس والقمر بحسبانٍ "40 "} (سورة الرحمن)...
وقد أرسل الله على هذه الجنة التي اغتر بها صاحبها صاعقة محسوبة مقدرة على قدر هذه الجنة لا تتعداها إلى غيرها، حتى لا يقول: إنها آية كونية عامة أصابتني كما أصابت غيري.. لا. إنها صاعقة مخصوصة محسوبة لهذه الجنة دون غيرها.
ثم يقول تعالى: {فتصبح صعيدا زلقا} (سورة الكهف): أي: أن هذه الجنة العامرة بالزروع والثمار، المليئة بالنخيل والأعناب بعد أن أصابتها الصاعقة أصبحت صعيداً أي: جدباء يعلوها التراب، ومنه قوله تعالى في التيمم: {فيتمموا صعيداً طيباً "43 "} (سورة النساء): ليس هذا وفقط، بل: {صعيدا زلقا}: أي: تراباً مبللاً تنزلق عليه الأقدام، فلا يصلح لشيء، حتى المشي عليه.