ثم أمرالله عباده بأن يكثروا من ذكره وشكره على ما أسبغ عليهم من نعم فقال : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ . . . } .
ذكر الشيء : التلفظ باسمه ، ويطلق بمعنى استحضاره في الذهن ، وهو ضد النسيان وذكر العباد لخالقهم قد يكون باللسان وقد يكون بالقلب وقد يكون بالجوارح . فذكرهم إياه بألسنتهم معناه : أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ، ويقرءوا كتابه ، مع استحضارهم لعظمته وجلاله .
وذكرهم إياه بقلوبهم معناه أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته وفي تكاليفه وأحكامه ، وأوامره ونواهيه ، وأسرار مخلوقاته ، لأن هذا التفكر يقوى إيمانهم ، ويصفى نفوسهم .
وذكرهم إياه بجوارحهم معناه : أن تكون جوارحهم وحواسهم مستغرقة في الأعمال اتي أمروا بها ، منصرفة عن الأفعال التي نهوا عنها ، ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله - تعالى - ذكراً في قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع . . . } وقوله : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } أمر وجوابه ، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم .
والمعنى : اذكروني بالطاعة والاستجابة لما أمرتكم به والبعد عما نهيتكم عنه أذكركم بالرعاية والنصرة ، وصلاح الأحوال في الدنيا ، وبالرحمة وجزيل الثواب في الآخرة . فالذكر في قوله { أَذْكُرْكُمْ } مستعمل فيما يترتب على الذكر من المجازاة بما هو أوفى وأبقى ، كما أن قوله " فاذكروني " المراد به : اذكروا عظمتي وجلالي ونعمي عليكم ، لأن هذا التذكر هو الذي يبعث على استفراغ الوسع في الأقوال والأعمال التي ترضى الله .
قال صاحب المنار : وقال الأستاذ الإِمام : هذه الكلمة - وهي قوله - تعالى { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } - من الله - تعالى كبيرة جداً ، كأنه يقول : إنني أعاملكم بما تعاملونني به وهو الرب ونحن العبيد ، وهو الغني عنا ونحن الفقراء إليه . وهذه أفضل تربية من الله لعباده : إذا ذكروه ذكرهم بإدامه النعمة والفضل ، وإذا نسوه نسيهم وعاقبهم بمقتضى العدل " .
هذا ، وقد وردت أحاديث متعددة في فضل الذكر والذاكرين ، ومن ذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله - تعالى - : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم . وإن تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً . وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعا . وإن أتاني يمشي أتيته هرولة " .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة : أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يقعد قوم يذكرون الله - تعالى - إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " .
قال الإِمام النووي : واعلم أن فضيلة الذكر غير منحصرة في التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير ونحو ذلك ، بل كل عامل لله - تعالى - بطاعة فهو ذاكر لله - تعالى - .
وقوله - تعالى - { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } معطوف على ما قبله .
والشكر في اللغة - كما يقول القرطبي - الظهور ، ومنه قولهم : دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف .
وحقيقته : عرفان الإِحسان وإظهاره بالثناء على المحسن ، يقال شكره وشكر له كما يقال نصحه ونصح له .
وأصل الكفر في كلام العرب الستر والتغطية والجحود ، ويستعمل بمعنى عدم الإِيمان فيتعدى بالباء فيقال : كفر بالله ، ويستعمل بمعنى عدم الشكر - وهو المراد هنا - فيتعدى بنفسه ، فيقال : كفر النعمة أي جحدها وكفر المنعم أي جحد نعمته ولم يقابلها بالشكر .
والمعنى : اشكروا لي ما أنعمت به عليكم من ضروب النعم ، بأن تستعملوا النعم فيما خلقت له ، وبأن تطيعوني في السر والعلن ، وحذار من أن تجحدوا إحساني إليكم ، ونعمي عليكم فاسلبكم إياها .
قال - تعالى - : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وقدم - سبحانه - الأمر بالذكر على الأمر بالشكر ، لأن في الذكر اشتغالا بذاته - تعالى - ، وفي الشكر اشتغالا بنعمته ، والاشتغال بذاته أولى بالتقديم من الاشتغال بنعمته . وقوله { وَلاَ تَكْفُرُونِ } تأكيد لقوله { واشكروا لِي } .
وهذا تحذير لهذه الأمة حتى لا تقع فيما وقع فيه بعض الأمم السابقة التي { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }
وفي آخر هذا الدرس يتفضل الله على المسلمين تفضلا آخر ، وهو يدعوهم إلى شكره ويحذرهم من كفره . يتفضل عليهم فيضمن لهم أن يذكرهم إذا هم ذكروه .
( فاذكروني أذكركم ، واشكروا لي ولا تكفرون ) . .
يا للتفضل الجليل الودود ! الله . جل جلاله . يجعل ذكره لهؤلاء العبيد مكافئا لذكرهم له في عالمهم الصغير . . إن العبيد حين يذكرون ربهم يذكرونه في هذه الأرض الصغيرة . . وهم أصغر من أرضهم الصغيرة ! والله حين يذكرهم يذكرهم في هذا الكون الكبير . . وهو الله . . العلي الكبير . . أي تفضل ! وأي كرم ! وأي فيض في السماحة والجود !
إنه الفضل الذي لا يفيضه إلا الله الذي لا خازن لخزائنه ، ولا حاسب لعطاياه . الفضل الفائص من ذاته تعالى بلا سبب ولا موجب إلا أنه هكذا هو سبحانه فياض العطاء .
وفي الصحيح : يقول الله تعالى : " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " .
وفي الصحيح أيضا : قال رسول الله [ ص ] قال الله عز وجل : " يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا ، وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا ، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة . . "
إنه ذلك الفضل الذي لا يصفه لفظ ولا يعبر عن شكره الحق إلا سجود القلب . .
وذكر الله ليس لفظا باللسان ، إنما هو انفعال القلب معه أو بدونه ، والشعور بالله ووجوده والتأثر بهذا الشعور تأثرا ينتهي إلى الطاعة في حده الأدنى ، وإلى رؤية الله وحده ولا شيء غيره لمن يهبه الله الوصول ويذيقه حلاوة اللقاء . .
والشكر لله درجات ، تبدأ بالاعتراف بفضله والحياء من معصيته . وتنتهي بالتجرد لشكره والقصد إلى هذا الشكر في كل حركة بدن ، وفي كل لفظة لسان ، وفي كل خفقة قلب ، وفي كل خطرة جنان .
والنهي عن الكفر هنا إلماع إلى الغاية التي ينتهي إليها التقصير في الذكر والشكر ؛ وتحذير من النقطة البعيدة التي ينتهي إليها هذا الخط التعيس ! والعياذ بالله !
ومناسبة هذه التوجيهات والتحذيرات في موضوع القبلة واضحة . وهي النقطة التي تلتقي عندها القلوب لعبادة الله ، والتميز بالانتساب إليه ، والاختصاص بهذا الانتساب .
وهي كذلك واضحة في مجال التحذير من كيد يهود ودسها ؛ وقد سبق أن الغاية الأخيرة لكل الجهود هي رد المؤمنين كفارا ، وسلبهم هذه النعمة التي أنعم الله بها عليهم . . نعمة الإيمان أكبر الآلاء التي ينعم الله بها على فرد أو جماعة من الناس . وهي بالقياس إلى العرب خاصة النعمة التي أنشأت لهم وجودا ، وجعلت لهم دورا في التاريخ ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدونها للبشرية ، وكانوا بدونها ضائعين ، ولولاها لظلوا ضائعين ، وهم بدونها أبدا ضائعون . فما لهم من فكرة يؤدون بها دورا في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها ؛ وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنميها . وفكرة الإسلام برنامج حياة كامل ، لا كلمة تقال باللسان بلا رصيد من العمل الإيجابي المصدق لهذه الكلمة الطيبة الكبيرة .
وتذكر هذه الحقيقة واجب على الأمة المسلمة ليذكره الله فلا ينساها . ومن نسيه الله فهو مغمور ضائع لا ذكر له في الأرض ، ولا ذكر له في الملأ الأعلى . ومن ذكر الله ذكره ، ورفع من وجوده وذكره في هذا الكون العريض .
ولقد ذكر المسلمون الله فذكرهم ، ورفع ذكرهم ، ومكنهم من القيادة الراشدة . ثم نسوه فنسيهم فإذا هم همل ضائع ، وذيل تافه ذليل . . والوسيلة قائمة . والله يدعوهم في قرآنه الكريم : ( فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.