107- ومن المنافقين جماعة بنوا مسجدا لا يبتغون به وجه اللَّه ، وإنما يبتغون به الضرار والكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين ، وأنهم سيحلفون على أنهم ما أرادوا ببناء هذا المسجد إلا الخير والعمل الأحسن ، واللَّه يشهد عليهم أنهم كاذبون في أيمانهم{[85]} .
ثم ختمت السورة الكريمة حديثها الطويل المتنوع عن النفاق والمنافقين ، بالحديث عن مسجد الضرار الذي بناه المنافقون ليكون مكانا للإِضرار بالإِسلام والمسلمين ، فقال - تعالى - . { والذين اتخذوا مَسْجِداً . . . والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
قال الإِمام ابن كثير : سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليها ، رجل من الخروج يقال له أبو عامر الراهب ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وكان فيه عبادة في الجاهلية ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرا إلى المدينة ، واجتمع المسلمون عليه وصار للإِسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارزة العداوة ، وطاهر بها ، وخرج فارا إلى كفار مكة ليمالئهم على حرب المسلمين فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام " أحد " فكان من أمر المسلمين ما كان ، وامتحنهم الله - تعالى - وكانت العاقبة للمتقين .
وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصيب في ذلك اليوم ، فجرح وجهه وكسرت رباعتيه اليمنى والسفلى وشج رأسه . وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار ، فخاطبهم ، واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله لك عينا يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دعاه إلى الله قبل فراره - إلى مكة - وقرأ عليه القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد . فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يموت بعيدا طريداً فنالته هذه الدعوة .
وذلك أنه لما فرغ الناس من " أحد " ورأى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبى - صلى الله عليه وسلم - ، فوعده ومناه ، وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم ، أنه سيقدم بجيش ليقاتل به النبى - صلى الله عليه وسلم - ويغلبه ، ويرده عما هو فيه . وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصدا له إذا قد عليه بعد ذلك .
فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه ، وفرغوا منه قبل خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك وجاءوا فسألوه أن يأتى إليهم فيصلى في مسجدهم ، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم ، وأهل العلة في الليلة الشاتية ! ! فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : " إنا على سفر ولكنا إذا رجعنا - إن شاء الله - آتيناكم فصلينا لكم فيه " .
فلما قفل راجعاً إلى المدينة من تبوك ، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخير مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر ، والتفريق بين جماع المؤمنين في مسجدهم . مسجد قباء ، الذي أسس من أول يوم على التقوى فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مجسد الضرار من هدمه قبل مقدمه إلى المدينة .
وقوله : { والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين } منصوب على الذم .
أى : وأذم الذين اتخذوا مسجدا ضراراً . . أو معطوف على ما سبق من أحوال المنافقين ، والتقدير : ومنهم الذين اتخذوا مسجداً ضراراً .
وقوله " ضراراً " مفعول لأجله أى : اتخذوا هذا المسجد لا من أجل العبادة والطاعة لله تعالى . وإنما اتخذوه من أجل الإِضرار بالمؤمنين . وإيقاع الأذى بهم .
وقوله " وكفرا " معطوف على " ضراراً " ؛ وهو علة ثانية لاتخاذ هذا المسجد .
أى : اتخذوه للإِضرار بالمؤمنين ، وللازدياد من الكفر الذي يضمرونه من الغل الذي يحفونه .
وقوله : { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين } علة ثالثة .
أى : واتخذوه أيضاً للتفريق بين جماعة المؤمنين الذين كانوا يصلون في مسجد واحد هو مسجد قباء ، فأراد هؤلاء المنافقون من بناء مسجد الضرار إلى جوار مسجد قباء ، أن يفرقوا وحدة المؤمنين ، بأن يجعلهوهم يصلون في أماكن متفرقة . حسدا لهم على نعمة الإِخاء والتآلف والاتحاد التي غرسها الإِسلام في قلوب أتباعه .
وقوله : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } علة رابعة لاتخاذ هذا المسجد .
أى : واتخذوه ليكون مكانا يرقبون فيه قوم { مَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ } وهو أبو عامر الراهب ، الذي أعلن عداوته لدعوة الإِسلام " من قبل " بناء مسجد الضرار .
فقد سبق أن ذكرنا في أسباب نزول هذه الآيات ، أن أبا عامر هذا ، كتب إلى جماعة من قومه . وهو عند هرقل . يعدهم ويمنيهم ، ويطلب منهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه فشرعوا في بناء هذا المسجد .
فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة ، قد ذكرت أربعة من الأغراض الخبيثة التي حملت المنافقين على بناء هذا المسجد ، وهى : مضارة المؤمنين ، وتقوية الكفر ، وتفريق كلمة أهل الحق وجعله معقلا لالتقاء المحاربين لله ولرسوله .
وقد خيب الله تعالى مساعيهم ؛ وأبطل كيدهم ، بأن أمر نبيه - بهدمه وإزالته .
وقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } ذم لهم على أيمانهم الفاجرة ، وأقوالهم الكاذبة .
أى : أن هؤلاء المنافقين قد بنوا مسجد الضرار لتلك المقاصد الخبيثة . ومع ذلك فهم يقسمون بأغلظ الأيمان بأنهم ما أرادوا ببنائه إلا الخصلة الحسنى التي عبروا عنها قبل ذلك . كذبا . بقولهم : " إننا بنيناه للضعفاء ، وأهل العلة في الليلة الشاتية " .
وقوله : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } زيادة في مذمتهم وتحقيرهم .
أى : والله - تعالى - يعلم ويشهد أن هؤلاء المنافقين لكاذبون في أيمانهم بأنهم ما أرادوا من بناء مسجدهم إلا الحسنى ، فانهم في الحقيقة لم يريدوا ذلك ، وإنما أرادوا تلك الأغراض القبيحة السابقة ، وهى مضارة المؤمنين ، وتفريق كلمتهم .
{ وَالّذِينَ اتّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاّ الْحُسْنَىَ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : والذين ابتنوا مسجدا ضرارا ، وهم فيما ذكرنا اثنا عشر نفسا من الأنصار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، قالوا : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان ، بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار . وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك ، فقالوا : يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ، وإنا نحبّ أن تأتينا فتصلَى لنا فيه فقال : «إنّي على جَناحِ سَفَر وَحالِ شُغْلٍ » أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَلَوْ قَدْ قَدِمْنا أتَيْناكُمْ إنْ شاءَ اللّهُ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيهِ » . فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عديّ أو أخاه عاصم بن عديّ أخا بني العجلان ، فقال : «انْطَلِقا إلى هَذَا المَسْجِدِ الظّالِمِ أهْلُهُ فاهْدِمَاهُ وَحَرّقاهُ » فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف ، وهم رهط مالك بن الدخشم ، فقال مالك لمعن : أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل ، فأشعل فيه نارا ، ثم خرجا يشتدّان حتى دخلا المسجد وفيه أهله ، فحرّقاه وهدماه ، وتفرّقوا عنه . ونزل فيهم من القرآن ما نزل : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدا ضِرارا وكُفْرا إلى آخر القصة . وكان الذين بنوه اثني عشر رجلاً : خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق ، وثعلبة بن حاطب من بني عبيد وهو إلى بني أمية بن زيد ، ومعتب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد ، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف عمرو بن عوف ، وجارية بن عامر وأبناه : مجمع بن جارية ، وزيد بن جارية ، ونبتل بن الحرث وهم من بني ضبيعة ، وبَخْدَج وهو إلى بني ضبيعة ، وبجاد بن عثمان وهو من بني ضبيعة ، ووديعة بن ثابت وهو إلى بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر . .
فتأويل الكلام : والذين ابتنوا مسجدا ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرا بالله لمحادّتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفرّقوا به المؤمنين ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا . وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يقول : وإعدادا له ، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله ، وكفر بهما وقاتل رسول الله مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد . وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حَزّبَ الأحزاب ، يعني حَزّبَ الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما خذله الله ، لحق بالروم يطلب النصر من ملكهم على نبيّ الله ، وكتب إلى أهل مسجد الضرار يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه فيما ذكر عنه ليصلي فيه فيما يزعم إذا رجع إليهم ففعلوا ذلك . وهذا معنى قول الله جلّ ثناؤه : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى يقول جلّ ثناؤه : وليحلفنّ بانوه إن أردنا إلا الحسنى ببنائناه إلا الرفق بالمسلمين والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة وعن عجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه . وتلك هي الفعلة الحسنة . واللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبوُنَ في حلفهم ذلك ، وقيلهم ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى ، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السوآى ضرارا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لأبي عامر الفاسق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدا ، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجدكم ، واستعدوا بما استطعتم من قوّة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتُوا النبي عليه الصلاة والسلام ، فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحبّ أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة . فأنزل الله فيه : لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقْوَى مِنْ أوّلِ يَوْمٍ أحَقّ أنْ تَقُومَ فِيهِ . . . إلى قوله : واللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْريقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء ، خرج رجال من الأنصار منهم بخدج جدّ عبد الله بن حنيف ، ووديعة بن حزام ، ومجمع بن جارية الأنصاري ، فبنوا مسجد النفاق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبخدج : «وَيْلَكْ ما أرَدْتَ إلى ما أرَى ؟ » فقال : يا رسول الله ، والله ما أردت إلا الحسنى وهو كاذب . فصدّقه رسول الله وأراد أن يعذره ، فأنزل الله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ يعني رجلاً منهم يقال له أبو عامر كان محاربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد انطلق إلى هرقل ، فكانوا يرصدون أبا عامر أن يصلي فيه ، وكان قد خرج من المدينة محاربا لله ورسوله . وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنا إلاّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكاذِبُونَ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال : أبو عامر الراهب انطلق إلى قيصر ، فقالوا : إذا جاء يصلي فيه . كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال المنافقون لمن حارب الله ورسوله لأبي عامر الراهب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قال : حدثنا أبو إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ قال : نزلت في المنافقين . وقوله : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال : هو أبو عامر الراهب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سويد بن عمرو ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم بنو غنم بن عوف .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جبير : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم حيّ يقال لهم بنو غنم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب عن سعيد بن جبير ، في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا قال : هم حيّ يقال لهم بنو غنم .
قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم ، فقال الذين بنوا مسجد الضرار : إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا . . . الآية ، عمد ناس من أهل النفاق ، فابتنوا مسجدا بقباء ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلي فيه . ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم حتى أطلعه الله على ذلك . وأما قوله : وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ فإنه كان رجلاً يقال له أبو عامر ، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين فقتلوه بإسلامه ، قال : إذا جاء صلى فيه ، فأنزل الله : لا تَقُمْ فِيهِ أبَدا لَمَسْجِدٌ أُسّسَ على التّقُوَى . . . الآية .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا هم ناس من المنافقين بنوا مسجدا بقباء يضارّون به نبيّ الله والمسلمين . وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ كانوا يقولون : إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه . وكانوا يقولون : إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وتَفرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ قال مسجد قباء ، كانوا يصلون فيه كلهم ، وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له أبو عامر أبو حنظلة غسيل الملائكة وضيفي وأخيه ، وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين . فخرج أبو عامر هاربا هو وابن بالين من ثقيف وعلقمة بن علاثة من قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى لحقوا بصاحب الروم . فأما علقمة وابن بالين فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما ، وأما أبو عامر فتنصر وأقام . قال : وبنى ناس من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر ، قالوا : حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه وتفريقا بين المؤمنين يفرّقون بين جماعتهم لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قباء . وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ربما جاء السيل يقطع بيننا وبين الوادي ويحول بيننا وبين القوم فنصلي في مسجدنا فإذا ذهب السيل صلينا معهم قال : وبنوه على النفاق . قال : وأنهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : وألقى الناس عليه النتن والقمامة . فأنزل الله : وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجدا ضِرَارا وكُفْرا وَتَفْرِيقا بينَ المُؤْمِنِينَ لئلا يصلي في مسجد قباء جميع المؤمنين ، وَإرْصَادا لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ أبي عامر ، وَلَيَحْلِفُنّ إنْ أرَدْنَا إلاّ الحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا هارون ، عن أبي جعفر ، عن ليث : أن شقيقا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر ، فقيل له : مسجد بني فلان لم يصلوا بعد فقال : لا أُحِبّ أنْ أُصَلّيَ فِيهِ فإنّه بُنيَ على ضِرَار ، وكلّ مسجد بني ضرارا أو رياء أو سمعة فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بُني على ضرار .
وقرأ عاصم وعوام القراء والناس في كل قطر إلا بالمدينة «والذين اتخذوا » ، وقرأ أهل المدينة نافع وأبو جعفر وشيبة وغيرهم «الذين اتخذوا » بإسقاط الواو ، وكذلك في مصحفهم ، قاله أبو حاتم ، وقال الزهراوي : وهي قراءة ابن عامر وهي في مصاحف أهل الشام بغير واو ، فأما من قرأ بالواو فذلك عطف على قوله { وآخرون } أي ومنهم الذين اتخذوا ، وأما من قرأ بإسقاطها فرفع { الذين } بالابتداء .
واختلف في الخبر فقيل الخبر { لا تقم فيه أبداً } [ التوبة : 108 ] قاله الكسائي ، ويتجه بإضمار إما في أول الآية وإما في آخرها ، بتقدير : لا تقم في مسجدهم ، وقيل : الخبر لا يزال بنيانهم قاله النحاس وهذا أفصح ، وقد ذكرت كون { الذين } بدلاً من ، { آخرون } ، آنفاً ، وقال المهدوي : الخبر محذوف تقديره معذبون{[5884]} أو نحوه ، وأما الجماعة المرادة ب { الذين اتخذوا } ، فهم منافقو بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، وأسند الطبري عن ابن إسحاق عن الزهري وغيره أنه قال : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار ، وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنَّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ، وإنَّا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه ، فقال إني على جناح سفر وحال شغل ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه ، فلما أقبل ونزل بذي أوان نزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي ، فقال : انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه ، فانطلقا مسرعين ففعلا وحرقاه بنار في سعف{[5885]} ، وذكر النقاش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث لهدمه وتحريقه عمار بن ياسر ووحشياً مولى المطعم بن عدي{[5886]} ، وكان بانوه اثني عشر رجلاً ، خذام بن خالد ، ومن داره أخرج مسجد الشقاق{[5887]} وثعلبة بن حاطب{[5888]} ومتعب بن قشير ، وأبو حبيبة بن الأزعر{[5889]} وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف ، وجارية بن عمرو{[5890]} وابناه مجمع بن جارية وهو كان إمامهم ، وحلف لعمر بن الخطاب في خلافته أنه لم يشعر بأمرهم وزيد بن جارية ونبتل بن الحارث ، ويخرج وهو من بني ضبيعة{[5891]} وبجاد بن عثمان{[5892]} ووديعة بن ثابت ويخرج منهم هو الذي حلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أردت إلا الحسنى » والتوسعة علينا وعلى من عجز أو ضعف عن المسير إلى مسجد قباء ، وقرأ ابن أبي عبلة «ما أردنا إلا الحسنى » ، والآية تقتضي شرح شيء من أمر هذه المساجد ، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وقت الهجرة بنى مسجداً في بني عمرو بن عوف وهو مسجد قباء ، وقيل وجده مبنياً قبل وروده ، وقيل وجده موضع صلاة فبناه وتشرف القوم بذلك ، فحسدهم من حينئذ رجال من بني عمهم من بني غنم بن عوف وبني سالم بن عوف ، فكان فيهم نفاق ، وكان موضع مسجد قباء مربطاً لحمار امرأة من الأنصار اسمها لية ، فكان المنافقون يقولون والله لا نصبر على الصلاة في مربط حمار لية ونحو هذا من الأقوال ، وكان أبو عامر عبد عمرو المعروف بالراهب منهم ، وكانت أمه من الروم فكان يتعبد في الجاهلية فسمي الراهب ، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وكان سيداً نظيراً{[5893]} وقريباً من عبد الله بن أبي ابن سلول ، فلما جاء الله بالاسلام نافق ولم يزل مجاهراً بذلك فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق ، ثم خرج في جماعة من المنافقين فحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأحزاب ، فلما ردهم الله بغيظهم أقام أبو عامر بمكة مظهراً لعداوته ، فلما فتح الله مكة هرب إلى الطائف .
فلما أسلم أهل الطائف خرج هارباً إلى الشام يريد قيصر مستنصراً به على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب إلى قومه المنافقين منهم أن ابنوا مسجداً مقاومة لمسجد قباء وتحقيراً له ، فإني سآتي بجيش من الروم أخرج به محمداً وأصحابه من المدينة فبنوه ، وقالوا سيأتي أبو عامر ويصلي فيه ويتخذه متعبداً ويسر به ، ثم إن أبا عامر هلك عند قيصر ونزل القرآن في أمر مسجد الضرار فذلك قوله { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } يعني أبا عامر وقولهم سيأتي أبو عامر ، وقرأ الأعمش «للذين حاربوا الله » وقوله { ضراراً } أي داعية للتضار من جماعتين فلذلك قال { ضراراً } وهو في الأكثر مصدر ما يكون من اثنين وإن كان المصدر الملازم لذلك مفاعلة كما قال سيبويه{[5894]} ، ونصب «ضرار » وما بعده على الصدر في موضع الحال ، ويجوز أن يكون على المفعول من أجله ، وقوله { بين المؤمنين } يريد بين الجماعة التي كانت تصلي في مسجد قباء فإن من جاوز مسجدهم كانوا يصرفونه إليه وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان ، وقيل أراد بقوله { بين المؤمنين } جماعة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا بحسب الخلاف في المسجد المؤسس على التقوى وسيأتي ذلك ، قال النقاش يلزم من هذا أن لا يصلى في كنيسة ونحوها لأنها بنيت على شر من هذا كله وقد قيل في هذا لا تقم فيه أبداً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تفقه غير قوي{[5895]} ، و «الإرصاد » الإعداد والتهيئة ، والذي حارب الله ورسوله هو أبو عامر الفاسق ، وقوله { من قبل } يريد في غزوة الأحزاب وغيرها ، والحالف المراد في قوله { ليحلفن } هو يخرج ومن حلف من أصحابه ، وكسرت الألف من قوله { إنهم لكاذبون } لأن الشهادة في معنى القول ، وأسند الطبري عن شقيق{[5896]} أنه جاء ليصلي في مسجد بني غاضرة{[5897]} فوجد الصلاة قد فاتته فقيل له إن مسجد بني فلان لم يصل فيه بعد ، فقال : لا أحب أن أصلي فيه فإنه بني على ضرار وكل مسجد بني ضراراً ورياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضرار ، وروي أن مسجد الضرار لما هدم وأحرق اتخذ مزبلة ترمى فيه الأقذار والقمامات .
هذا كلام على فريق آخر من المؤاخَذين بأعمال عملوها غضب الله عليهم من أجلها ، وهم فريق من المنافقين بنوا مسجداً حول قباء لغرض سيء لينصرف إخوانهم عن مسجد المؤمنين وينفردوا معهم بمسجد يخصهم .
فالجملة مستأنفة ابتدائية على قراءة من قرأها غيرَ مفتتحة بواو العطف ، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي جعفر . ونكتة الاستئناف هنا التنبيه على الاختلاف بين حال المراد بها وبين حال المراد بالجملة التي قبلها وهم المرجون لأمر الله . وقرأها البقية بواو العطف في أولها ، فتكون معطوفةً على التي قبلها لأنها مثلها في ذكر فريق آخر مثل مَن ذكر فيما قبلها . وعلى كلتا القراءتين فالكلام جملة أثر جملة وليس ما بعد الواو عطف مفرد .
وقوله { الذين } مبتدأ وخبره جملة : { لا تقم فيه أبداً } كما قاله الكسائي . والرابط هو الضمير المجرور من قوله : { لا تقم فيه } لأن ذلك الضمير عائد إلى المسجد وهو مفعولُ صلةِ الموصول فهو سببي للمبتدأ ، إذ التقدير : لا تقم في مسجد اتخذوه ضراراً ، أو في مسجدهم ، كما قدره الكسائي . ومن أعربوا { أفمن أسس بنيانه } [ التوبة : 109 ] خبراً فقد بعدوا عن المعنى .
والآية أشارت إلى قصة اتخاذ المنافقين مسجداً قُرب مسجد قُباء لقصد الضرار ، وهم طائفة من بني غُنْم بن عَوف وبني سالم بن عَوف من أهل العوالي . كانوا اثني عشر رجلاً سماهم ابن عطية . وكان سبب بنائهم إيَّاه أن أبا عامر واسمه عبد عمرو ، ويلقب بالراهب من بني غنم بن عوف كان قد تنصر في الجاهلية فلما جاء الإسلام كان من المنافقين . ثم جاهر بالعداوة وخرج في جماعة من المنافقين فحزَّب الأحزاب التي حاصرت المدينة في وقعة الخندق فلما هزمهم الله أقام أبو عامر بمكة . ولما فتحت مكة هرب إلى الطائف ، فلما فتحت الطائف وأسلمت ثقيف خرج أبو عامر إلى الشام يستنصر بقيصر ، وكتب إلى المنافقين من قومه يأمرهم بأن يبنوا مسجداً ليخلصوا فيه بأنفسهم ، ويعِدهم أنه سيأتي في جيش من الروم ويخرج المسلمين من المدينة . فانتدب لذلك اثنا عشر رجلاً من المنافقين بعضهم من بني عمرو بن عوف وبعضهم من أحلافهم من بني ضبيعَة بن زيد وغيرهم ، فبنوه بجانب مسجد قباء ، وذلك قُبيل مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تَبوك . وأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من غزوة تبوك سألوه أن يأتي مسجدهم فأنزل الله هذه الآية ، وحلفوا أنهم ما أرادوا به إلا خيراً .
والضرار : مصدر ضار مبالغة في ضر ، أي ضِراراً لأهل الإسلام . والتفريق بين المؤمنين هو ما قصدوه من صرف بني غُنم وبني سالم عن قباء .
والإرصاد : التهيئة . والمراد بمن حارب الله ورسوله أبو عامر الراهب ، لأنه حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأحزاب وحاربه مع ثقيف وهوازنَ ، فقوله : { من قبلُ } إشارة إلى ذلك ، أي من قبل بناء المسجد .
وجملة : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } معترضة ، أو في موضع الحال . والحسنى : الخير .